لم يعد إنجاب طفل مهمة طبيعية وسهلة كما في الأيام الخوالي، وأقصد بذلك حين كانت الأسرة تتكوّن من أكثر من الأب والأم فقط، أو ما يدعى بـ "الأسرة الممتدة"؛ أي حين كانت الجدّات والخالات أو العمّات يتشاركن مهام التربية ورعاية الطفل مع الأم منذ الأشهر الأولى من حياته. وحيث إن الأوضاع تلك تغيّرت، فقد أصبح الإنجاب عملية مرهقة نفسياً وجسدياً تتسبب لاحقاً في ظهور اكتئاب ما بعد الولادة.
هناك عامل خطر آخر مهم من شأنه جعل الأم الجديدة أكثر عرضة للإصابة، ويتمثل في طريقة الإنجاب من خلال العملية القيصرية أو الولادة الطبيعية، وهذا ما حدّدته أبحاث علمية حديثة حول الصحة النفسية للأم الجديدة.
منظمة الصحة العالمية تحذّر بشأن ارتفاع نسب العمليات القيصرية
عانت النساء الحوامل لقرون من تعقيدات الولادة والإنجاب، لذلك نجد أن اكتشاف وتطوير تقنيات العملية القيصرية كانت نقلة جوهرية في مجال صحة الأم والطفل.
غير أن تزايد معدل العمليات القيصرية الاختيارية في العشرية الأخيرة بشكل كبير في جميع أنحاء العالم، جعل "منظمة الصحة العالمية" (World Health Organization) تدق ناقوس الخطر بخصوص ارتفاع نسب العمليات القيصرية غير المبرّرة؛ أي تلك التي لا توجد ضرورة طبية واضحة للقيام بها، في بيان أصدرته سنة 2015.
في المملكة السعودية وحدها، لوحظت زيادة مهولة في العمليات القيصرية بنسبة تزيد عن 80% بين عاميّ 1997-2006 وفقاً لمراجعة نُشرت عام 2009، قام بها "حسن صالح باعقيل" (Hassan S. Ba'aqeel) من الشؤون الصحية بالحرس الوطني بمدينة الملك عبد العزيز الطبية بجدة.
وبما أن التركيبة الاجتماعية الحديثة للأسرة المعاصرة لم تعد تدعم الروابط الأسرية المتينة التي تتّسم بتقديم الدعم للنساء من قبل عائلاتهن وأصدقائهن خلال فترة الحمل والنفاس، خصوصاً في المناطق الحضرية، فإنه بات من الإلزامي التعرّف أكثر إلى ما إذا كان أسلوب الولادة أيضاً له تأثير في اكتئاب الأمهات!
اقرأ أيضا:
وجود عوامل خطر كثيرة يزيد من احتمالية الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة
الوقاية من أي مشاكل صحية بعد الولادة تبدأ مع بداية الحمل بمتابعة الطبيب المختص، وتجنب الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة يتطلب الانتباه مبكّراً لوجود عوامل الخطر التي قد تكون موجودة بفترة طويلة قبل الحمل؛ والتي عادة ما يتم التقليل من شأنها أو تجاهلها من طرف طاقم التوليد والأم نفسها.
يشير مختصو علم النفس دائماً إلى أنه كلما زادت عوامل الخطر لدى الحامل، تزيد احتمالية الإصابة بعد الولادة؛ ما يعني أن اعتبار خيار الولادة القيصرية سبباً رئيسياً لاكتئاب ما بعد الولادة أمر خاطئ تماماً.
فقد حدّد الباحثون عوامل كثيرة تزيد من احتمالية الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة؛ مثل الإصابة السابقة بالاكتئاب أو وجود تاريخ أسري للاكتئاب والعلاقة الزوجية المسيئة وتدني التقدير الذاتي لدى الأم. إن التعرّف إلى عوامل الخطر يتيح للطبيب المختص اقتراح تدخلات مبكّرة كاستشارة الطبيب النفسي طلباً للعلاج؛ ما يساهم في الاستعداد الجيد للولادة وإدارةٍ أفضل لاضطرابات الفترة المحيطة بها.
لذا نجد أن بعض القائمين على الدراسات التي تهدف إلى إيجاد الرابط بين طريقة الولادة واكتئاب ما بعد الولادة، ينصحون بتجنب القيام بالولادة القيصرية إلاّ في حالات الضرورة الطبية القصوى، خاصة لأولئك النسوة اللواتي ثبت أنهن مؤهّلات أكثر من غيرهن للإصابة بسبب تضافر عوامل خطر كثيرة.
اقرأ أيضا: لماذا يصاب كبار السن بالاكتئاب؟
الولادة القيصرية الطارئة عامل خطر مهم
ومن بين هذه الدراسات، تحليل لبيانات رقمية قام به كلّ من "لي صن" (Lei Sun) من قسم علم النفس في جامعة جيلين في الصين، و"سو وانغ" (Su Wang) من كلية علم النفس بجامعة "نورث إيست نورمال" في الصين و"شي تشيان لي" (Xi-Qian Li) من قسم أمراض النساء والتوليد بمستشفى "الاتحاد الصيني الياباني" بجامعة جيلين في الصين.
خلص هذا التحليل الذي نُشرت تفاصيله في مجلة "سيج جورنالز" (SAGE Journals) الأسترالية المتخصصة في الطب النفسي بتاريخ سبتمبر/أيلول لسنة 2020، إلى أن طريقة الولادة لها تأثير كبير في حدوث اكتئاب خفيف بعد الولادة؛ حيث يكون للولادة القيصرية الطارئة أو غير المخطط لها دور في ذلك. وينصح الباحثون بناءً على نتائجهم الطاقم الطبي المتابع للحوامل بمراقبة كيفية تطور الاضطرابات النفسية بعد الولادة لدى النساء اللواتي ولدن بعملية قيصرية بهدف تمكينٍ أفضل للمرأة للوصول السريع لخدمات رعاية الصحة العقلية.
وأكدت دراسة أخرى كانت قد أجريت على 38,88 حالة حمل تمت متابعتها خلال شهر ونصف بعد الولادة من قبل 6 متخصصين في صحة الأم والطفل من جامعات مختلفة في اليونان والسويد، نفس الاستنتاجات التي نُشرت في سنة 2017.
وربطت النتائج زيادة خطر اكتئاب ما بعد الولادة بتجربة الولادة السلبية التي يُبلّغ عنها ذاتياً حين تكون هناك مضاعفات ما بعد الولادة كالألم والنزيف مثلاً؛ حيث اتضح أن نسبة انتشار اكتئاب ما بعد الولادة مقارنة بالولادة المهبلية العفوية هي 13%، و أن النساء اللواتي يلدن بعملية قيصرية طارئة هن أكثر عرضة للاكتئاب بعد الوضع بعد 6 أسابيع من الولادة بنسبة أرجحية تصل إلى 1.45.
الولادة الطبيعية تدعم الصحة النفسية للمرأة والطفل
تعزو أغلب المعلومات المتوفرة إلى حدود الساعة، الخطر الذي يكمن في الولادة القيصرية لعامل التخدير؛ إذ تتزايد البحوث العلمية التي تربط بين التخدير الكلي في الجراحة القيصرية وخطر الإصابة بالتوحد عند الأطفال مثلاً.
وبينما تكون الأم غير قادرة على التواصل الجسدي الفوري مع مولودها وهي شبه مخدرة أثناء العملية القيصرية، توفّر لها الولادة الطبيعية بدون مسكنات هذا العنصر المحوريّ في خلق رابطة عاطفية بينها وبين الطفل بشكل طبيعي وسلس، تّسهل عملية إدرار الحليب وتجاوزَ صعوبات النوم لدى الرضيع في الأيام الأولى بعد الولادة بشكل أفضل.
وقد يتهرب بعض الحوامل من الولادة الطبيعية خوفاً من ألم الولادة، وهو اعتقاد شائع خاطئ، يقع اللوم الأكبر على انتشاره على نقص التوعية الصحية، فهرمون الإندورفين المسكن للآلام ينتجه جسم المرأة الحامل طوال فترة الحمل، ويستمر إنتاجه بشكل مطرد وحاد خلال ولادة الطفل؛ لكن استخدام حقنة التخدير في الجراحة القيصرية يسبّب انخفاضاً حاداً في مستويات الإندورفين؛ الهرمون الباعث على الهدوء والسعادة للأم والطفل.
اتضّح أن طريقة الولادة ليس لها تأثير مباشر في الأم فقط؛ وإنما في الصحة الجسدية والتطوّر النفسي والعاطفي للطفل أيضاً.
وبالتأكيد؛ أصبحت هناك حاجة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى وضع استراتيجيات قابلة للتنفيذ بهدف خفض معدل الجراحة القيصرية غير المبرّرة طبياً، وتوفير توعية أكبر للطواقم الطبية المتابعة لحالات الحمل والولادة، فتُعطى المرأة بذلك فرص أكبر للتمتع بصحة نفسية مستقرة وروابط عاطفية متوازنة مع مولودها حتى ولو توافرت في حياتها عوامل خطر سابقة أخرى.
اقرأ أيضا: