لماذا يعاني البعض رغبة ملحة في تصحيح الأخطاء اللغوية للآخرين؟ وكيف يعالج هذا السلوك؟

6 دقيقة
التحذلق اللغوي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: التحذلق اللغوي هو سلوك يتمثل في تصحيح الأخطاء اللغوية للآخرين بصفة مستمرة، سواء كانت تلك الأخطاء مهمة أو لا. وقد انتشر هذا السلوك مع ازدياد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث أصبحت الأخطاء اللغوية أكثر وضوحاً في النصوص المكتوبة. وعلى الرغم من أن هذا السلوك قد ينطلق من نوايا حسنة مثل الحرص على سلامة اللغة، فإنه قد يتجاوز الحدود المعقولة، ويتحول إلى مصدر للسخرية والتوتر في العلاقات الشخصية. تختلف الدوافع وراء هذا السلوك، وقد تتضمن السعي إلى المثالية، أو قلة الثقة بالنفس، أو الرغبة في التحكم. للتعامل مع هذه الظاهرة، يُنصح بالصبر، وتجنب التصحيح الفوري، وتقديم المساعدة بلطف، والتركيز على محتوى الأفكار بدلاً من الأخطاء اللغوية.

"يريد الجميع أن يكون على صواب؛ لكن لا أحد يتقبل التصويب".

كثيراً ما أوقفت زوجي في أثناء الكلام لأصحح له كلمة مثل "البارحة"، وليس "امبارح" مثلما يُقال بالعامية المصرية، حتى مع عدم تأثير هذا الخطأ في المعنى. وعلى الرغم من عدم معرفة صاحب المقولة السابقة، فهي تعكس الرغبة القهرية لدى كثيرين في تصحيح أخطاء الآخرين.

وعلى الرغم من أن الموقف الذي ذكرته ينتهي عادة بالضحك والتندر، قد يشعر بعض الأشخاص بالغضب والإحراج والتوتر عندما يتلقون تصحيحاً من أحدهم؛ إذ قد يشعر بعض الأشخاص برغبة ملحة في تصحيح الأخطاء اللغوية للآخرين، سواء كانت مكتوبة أو منطوقة، حتى لو كانت تافهة أو غير مهمة في سياق الحديث، وهذا ما يُعرف بـ "التدقيق اللغوي" أو "التقعر النحوي".

وعلى الرغم من أن دوافع هذا السلوك قد تكون حسنة النية، فالاهتمام بسلامة اللغة أمر طبيعي ومحمود، فإن هذه الظاهرة تتجاوز حدود الحرص العادي لتصل إلى ما يشبه الهوس، وقد تصل إلى حدود السخرية والانتقادات اللاذعة؛ ما قد يعوق التواصل الفعال ويؤدي إلى توتر العلاقات.

نتعرف في هذا المقال إلى الدوافع النفسية والاجتماعية وراء هذه الظاهرة، ونستكشف الحلول الممكنة التي يمكن أن تساعد على الموازنة بين الحفاظ على جمال اللغة وسلامتها، وضمان تواصل اجتماعي سلس وفعال، دون الإضرار بجوهر العلاقات الإنسانية.

ما هي ظاهرة التحذلق اللغوي؟

تتجلى هذه الظاهرة في مختلف جوانب الحياة اليومية؛ وتشمل المحادثات الشخصية والبيئات الأكاديمية، ولا تقتصر على فئة عمرية أو جنس أو مستوى تعليمي معين. وهي ليست جديدة؛ لكنها ازدادت وضوحاً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. فالمنصات الرقمية وفرت أرضية خصبة لممارسة التدقيق اللغوي بصفة علنية وفورية؛ حيث تزداد فرص التواصل عبر النصوص المكتوبة يومياً، سواء من خلال رسائل البريد الإلكتروني، أو في التعليقات على المقالات والمواقع الإلكترونية.

أُطلق على هذه الظاهرة "متلازمة التحذلق اللغوي" أو (Grammar Pedantry Syndrome) أو اختصاراً (GPS)، وعلى الرغم من أنها ليست مرضاً مدرجاً في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، فإنها سلوك شائع يعانيه البعض بسبب دوافع نفسية واجتماعية معقدة. وقد لوحظ أنها أكثر انتشاراً في المجتمعات التي تولي أهمية كبيرة إلى اللغة والبلاغة، خاصة تلك التي ترتبط فيها اللغة الفصحى بقيم دينية أو تراثية.

الأخطاء اللغوية تزيد الشعور بالتوتر وتُفقدك الاهتمام بشركاء الحياة المحتملين

رصد بعض الدراسات تأثير هذه الظاهرة؛ حيث كشفت دراسة أجراها باحثون بجامعة برمنغهام بالمملكة المتحدة (Birmingham University)، ونشرتها دورية اللسانيات العصبية (Journal of Neurolinguistics)، ازدياد شعور الأشخاص بالتوتر كلما كثر عدد الأخطاء النحوية التي يسمعها الشخص؛ حيث انخفض معدل ضربات القلب لدى هؤلاء الأشخاص، وهي علامة على استجابة الجسم لوضع يسبب له تهديد أو توتر.

علاوة على ذلك، لاحظ علماء لغة بجامعة ميشيغان (Michigan University) الأميركية، أن الأشخاص الذين صُنفوا على أنهم غير مقبولين وانطوائيين، يُبدون حساسية أكبر تجاه الأخطاء اللغوية مقارنة بالانبساطيين. تفترض اللغوية الباحثة بالدراسة، روبن كوين (Robin Queen)، أن الأشخاص المقبولين غالباً يكونون متعاونين؛ بينما غير المقبولين يميلون إلى تقديم مصالحهم الشخصية على الآخرين، ويفتقرون إلى التعاطف.

ومع أن الانطوائيين ليسوا بالضرورة غير مقبولين، تعتقد الباحثة أن حساسيتهم العالية ترجع إلى انزعاجهم من الانحرافات عن القاعدة. على عكس الانبساطيين الذين يستمتعون بالتنوع والتفاعل، ويكونون أكثر مرونة في تقبل الأخطاء. ومع ذلك، كانت الدراسة محدودة بحجم العينة؛ ما يستوجب الحذر في تعميم النتائج. فضلاً عن أن كوين ليست خبيرة في دراسات الشخصية، فهي باحثة لغوية. لكن بصفة عامة، تشير الدراسة إلى أن الشخصية تسهم بدور كبير في كيفية استجابة الأفراد للأخطاء اللغوية.

بالإضافة إلى ذلك، تشير دراسة أجراها باحثون في جامعة تيلبورغ (Tilburg University) في هولندا، إلى أن كلاً من الأخطاء الكتابية وسوء التهجئة يُفقد الباحثين عن شريك محتمل عبر منصات إلكترونية على الإنترنت، الاهتمام بالطرف الآخر. فقد فُسرت الأخطاء البسيطة؛ مثل كتابة "teh" بدلاً من "the"، على أنها دليل على عدم الانتباه؛ ما قلل جاذبية الشخص لدى الآخرين.

اقرأ أيضاً: دراسة حديثة: الأخطاء النحوية في أثناء الحديث تؤدي إلى التوتر، فكيف نصححها للآخرين بذكاء؟

لماذا قد يشعر البعض برغبة لا تُقاوم في تصحيح الأخطاء اللغوية للآخرين؟

على الرغم من شعور بعض الأشخاص برغبة ملحة في تصحيح الأخطاء الإملائية واللغوية للآخرين، لا يعني هذا بالضرورة أنه اضطراب نفسي أو مرض، فيمكن أن يرجع ذلك إلى عدة أسباب؛ تتضمن:

  • طبيعة العمل: تشير المختصة النفسية، كريمان محمد، في حديثها إلى منصة نفسيتي، إلى أن طبيعة العمل قد تفرض على الشخص ضرورة التصحيح وتحري الدقة في استخدام الكلمات؛ مثل الذين يعملون في مجالات ثقافية أو أدبية؛ حيث لا يمكنهم التغاضي عن مثل هذه الأخطاء بسبب اختلاف المعاني والمفاهيم.
  • حب المثالية: توضح محمد إن البعض قد يسعى وراء الكمال ويرغب في تحقيق مستوى عالٍ من الدقة والإتقان في جوانب الحياة جميعها، وخاصة في العمل؛ إذ قد لا يقبل هؤلاء الأفراد النقد في بعض الأحيان لأنهم يرَون الأخطاء تهديداً لكماليتهم. حيث يجعلهم الاهتمام الزائد بالتفاصيل والالتزام بالدقة والتفكير المفرط في الأمور كافة شديدي الحساسية تجاه الأخطاء، حتى لو كانت غير مؤثرة، فهم يرفضون تقبل الأخطاء الصغيرة. على الجانب الآخر، قد يعاني بعض الأشخاص قلقاً يدفعهم إلى ذلك؛ حيث يخشون أن يؤثر الخطأ في نظرتهم الذاتية أو أدائهم الوظيفي.
  • التنمر: تضيف محمد إن بعض الأفراد قد يتخذون من تصيد الأخطاء وسيلة للتنمر والتعالي على الآخرين؛ حيث يجدون في ذلك فرصة لانتقاد الآخرين بأسلوب مقنع لكن غير لائق.
  • الرغبة في التحكم: يفيد الطبيب النفسي، أحمد أحمد ضبيع، في تصريحه إلى منصة نفسيتي، بأن بعض الناس يستشعرون القوة أو السيطرة على الآخر عندما يصحح أخطاء الآخرين.
  • قلة الثقة بالنفس: إذ قد يرجع هاجس تصيد الشخص أخطاء الآخرين إلى قلة الثقة بالنفس، أو ما يسمى بـ "انعدام الأمن الداخلي" (Insecurity)، فقد يكون ذلك آلية دفاعية لعدم تقبله أخطاءَه، أو عدم رضاه عن ذاته، فيحاول صرف الأنظار عن عيوبه بالتركيز على عيوب الآخرين.
  • سمات شخصية: يوضح ضبيع أن الذين لديهم سمات وسواسية قد يعانون عدم القدرة على تجاوز أي خطأ يقع أمامهم، ليس بدافع السعي وراء الكمال؛ وإنما بسبب هيمنة التفكير الوسواسي. أو قد يرجع ذلك إلى صرامة في التفكير، أو ما يسمى بـ "التصلب المعرفي" (Cognitive Rigidity)؛ وهو أيضا أحد العوامل التي قد تؤدي إلى مثل هذه التصرفات.

اقرأ أيضاً: تعرف إلى أهم الحركات الجسدية التي تدل على ثقتك بنفسك

5 نصائح تساعدك على التعامل مع رغبتك الملحة في تصحيح أخطاء الآخرين اللغوية

يفيد ضبيع بأن علاج هذه السلوك يحدث من خلال علاج السبب الكامن وراءها، سواء كان سعياً وراء الكمال، أو قلة ثقة بالنفس، أو صرامة التفكير. حيث يركز العلاج على معالجة المشكلة جذرياً، وليس أعراضها، فليست هذه الحالة مرضاً بحد ذاتها ليكون لها علاج محدد. ويمكن أن تسهم النصائح التالية في مساعدة الأشخاص الذين يعانون رغبة قهرية في تصحيح الأخطاء اللغوية للآخرين:

  1. تحلّ بالصبر وتجنب المقارنات: لا تَعُد الأخطاء عقبات أو مشكلات؛ بل جزء من عملية تحسين الذات وتطويرها، والتعلم هو عملية مستمرة، فالأفراد الذين يتبنون عقلية النمو (Growth Mindset)، يتعاملون مع الأخطاء على أنها فرص للتعلم والتحسن وليست أسباباً للإحباط أو الخجل. فالأخطاء في النصوص أمر وارد، وقد لا تكون الكمالية والمثالية دائماً واقعية. لذا؛ احترم اختلاف الآخرين، وركز على تحسين الذات، دون مقارنتها بالآخرين الذين قد لا يمتلكون الثقافة نفسها أو الوعي ذاته؛ مثلما تنصح محمد.
  2. اختر الطريقة والوقت والمكان المناسبين: لا يحتاج كل خطأ لغوي إلى تصحيح فوري، بالإضافة إلى أن تصحيح الأخطاء اللغوية في مواقف معينة يُمكن أن يزيد الشعور بالتوتر والإحراج، فقد يكون من غير المناسب تصحيح خطأ في محادثة غير رسمية، أو في وضع اجتماعي حساس. لذلك؛ خذ بعين الاعتبار الظروف أو السياق الذي حدث فيه الخطأ، ويمكنك تقديم النصيحة في وقت لاحق بصفة خاصة، بدلاً من التصحيح الفوري في مكان عام.
  3. قدم المساعدة بلطف: قد لا تعلم شيئاً عن الشخص الآخر وظروفه، فمثلاً؛ تشير المختصة النفسية، كريمان محمد، إلى أن الشخص الذي تصحح له أخطاءه قد يعاني اضطراب عسر القراءة والكتابة، أو أن الأشخاص قد لا يكونون مهتمين بالتصحيح، أو يملكون الرغبة في التعلم، أو قبول الملاحظات التصحيحية. لذا؛ توخَّ الحذر عند تصحيح الأخطاء، فقد يُعد تدخلك غير مرحب به. وبدلاً من ذلك، اعرض المساعدة لتصحيح الأخطاء بود ولطف، دون تجريح أو توبيخ.
  4. كن متعاوناً: ركز على الأفكار و المحتوى بدلاً من تسليط الضوء على الأخطاء اللغوية. واحرص على الثناء على الأجزاء الجيدة في النص لرفع معنويات الطرف الآخر؛ مثلما تفيد محمد. واستفهم قبل تصحيح أخطاء الآخر، فيمكنك تقديم التصحيح بأسلوب استفساري؛ مثل "هل كنت تقصد...؟"، وتقبل ردود أفعال الآخرين المختلفة، إذا بادرت بإبداء ملاحظاتك لهم.
  5. انشر الثقة وشجع الآخرين: على الرغم من أنك قد تجد صعوبة في مقاومة رغبتك في تصحيح الأخطاء اللغوية للآخرين؛ ما يمكن أن يُشعرك بالارتباك والقلق، يجب أن تحفز الآخرين على التعبير عن أنفسهم بطريقة مريحة دون الخوف من الانتقاد.

اقرأ أيضاً: كيف تتغلب على خوفك من ارتكاب الأخطاء الإملائية؟

بالإضافة إلى ما سبق، إذا كنت تعاني تكرار تصحيح الآخرين أخطاءَك اللغوية، فحاول تبني ردات فعل أكثر إيجابية؛ مثل توضيح إن النية كانت نقل الفكرة بطريقة أسرع وليست بالضرورة مثالية؛ حيث يمكن أن يجنبك الرد بمرونة تُفاقم الشعور بالتوتر، ويساعدك على حفظ علاقتك بالآخر. وانظر إلى التصحيح على أنه فرصة للتعلم، وتحسين المهارات اللغوية، بدلاً من الشعور بالإحراج أو الغضب. ومع ذلك، ضع حدوداً واضحة في الحالات التي يتجاوز فيها الآخر حدوده، أو عندما يصبح أسلوب التصحيح مزعجاً.

في النهاية، من المهم أن نفهم أن الأخطاء اللغوية ليست دائماً مؤشراً إلى قلة الثقافة أو الوعي؛ بل هي جزء طبيعي من التفاعل البشري الذي يشمل اختلافات في التعلم والتعبير. لذا؛ يجب على كل منا أن يتبنى مواقف أكثر تفهماً ومرونة تجاه هذه الأخطاء بهدف تحسين التواصل، وتعزيز العلاقات الشخصية، بدلاً من التركيز على تصحيح الأخطاء بصرامة.

اقرأ أيضاً: رهاب النقص: عندما يعرقل الخوف من ارتكاب الأخطاء حياة الشخص

المحتوى محمي