ملخص: "سلامٌ وإن كان السلام تحيةً، فوجهك دون الردّ يكفي المُسلِّما". كلمات موزونة مقفاة لا تصل إلى مسامعنا فحسب؛ بل تخترق قلوبنا وتصيبنا في مقتل لكن ليس حرفياً؛ بل على العكس تماماً؛ إذ للشعر القدرة على أن يشفي النفس ويخفف التوتر ويعزز المزاج، وهذا ما سنتحدث عنه في مقالنا هذا. قراءة ممتعة!
محتويات المقال
أصابَك عشقٌ أم رُميت بأسهمِ
فما هذه إلا سجيّة مُغرمِ
أصابك سهم أم رُميت بنظرة
فما هذه إلا خطيئةُ من رُمي
الشعر، وما أدراك ما الشعر! تُنسب تلك الأبيات إلى الشاعر يزيد بن معاوية. وفي الواقع، لم يكن من السهل قَطّ اختيار قصيدة لنبدأ بها مقالنا هذا، فالعرب أسياد مَن نظم الشعر، واللغة العربية أجمل لغة شعرية في العالم. هذا رأيي على الأقل. والآن، دعونا نتفق أن الأقدمين، في أرجاء العالم جميعها، لطالما لجؤوا إلى القالب الشعري للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم وصياغة نصوصهم المقدسة حتى، فلماذا يا تُرى؟
نعلم بالطبع أن الشعر أسهل ترتيلاً وتذكراً وذو سطوة كبيرة على العقول والقلوب؛ لكن تأثيره في الواقع أكبر من ذلك بكثير؛ إذ إن اللغة الشعرية ذات الوزن والقافية تحسِّن المزاج وتقلل التوتر والقلق، حتى بات بعض الأطباء يشجِّع على استخدام الشعر في العلاج أو مساعدة المرضى والأطباء وغيرهم من مقدمي الرعاية الصحية، لما له من تأثير كبير في الصحة النفسية.
هل تشكّ في هذا الكلام؟ انظر إذاً إلى ما توصلت إليه الأبحاث العلمية حول تأثير الشعر قراءةً وكتابةً في الرفاهية النفسية، وتعرّف أيضاً إلى بعض النصائح التي ستساعدك على دمج هذا النشاط في روتينك اليومي.
اقرأ أيضاً: تعرّف إلى القوة العلاجية للإبداع الفني
ما تأثير قراءة الشعر في الصحة النفسية؟
توصّلت دراسة منشورة في مجلة العلاج بالشِعر (Journal of Poetry Therapy) عام 2023 إلى أن لقراءة الشِعر وكتابته فائدة كبيرة للصحة النفسية والرفاهية؛ إذ ساعد الأشخاص إبان جائحة كوفيد-19 في التغلب على مشاعر الوحدة والعزلة، بالإضافة إلى تقليل مشاعر القلق والاكتئاب. وقد نوّه الباحثون بأنه ليس الشِعر فحسب ما قد يحسن الرفاهية النفسية؛ وإنما كذلك قد تفيد أنماطُ الكتابة الإبداعية أو التعبيرية أو كلاهما، بالإضافة إلى الفنون البصرية وفنون الأداء أيضاً.
علاوة على ذلك، ذكرت دراسة منشورة في مجلة العلوم الإنسانية الطبية (The Journal of medical humanities) عام 2020، أن الاستماع إلى الشعر أو كتابته أو قراءته ترتبط بتخفيف الألم عند المرضى الذين أجروا عمليات جراحية، بالإضافة إلى أنه يعزز القدرة على التعامل مع الأمراض المزمنة، ويحسِّن الرفاهية الشخصية، ويزيد الذاكرة العاملة مؤقتاً. فضلاً عن ذلك كله، فهو يساعد على التعامل مع التوتر والمواقف غير المتوقعة على نحو أفضل، ويعزز المزاج الإيجابي على المديَين القصير والطويل، ويزيد الشعور بالاسترخاء.
كما قد يكون للشعر تأثير علاجي ملموس؛ إذ وجدت دراسة منشورة في دورية طبابة الأطفال في المستشفيات (Hospital Pediatrics) عام 2021، أن قراءة الشعر وكتابته عند الأطفال الذين يدخلون إلى المستشفيات أدّيا إلى انخفاض الخوف والحزن والغضب والقلق والتعب والتوتر؛ لكنهما لم يؤثرا في الألم. ويقول الباحثون إن دراستهم هذه تكشف عن نتائج واعدة حول التأثير العلاجي للشعر عند مرضى الأطفال في المستشفيات.
اقرأ أيضاً: هل يولد الإنسان مبدعاً أم إنّ الإبداع سمة مكتسبة؟
لماذا يؤثر الشعر إيجابياً في الصحة النفسية؟
في الواقع، لم يُجرَ حتى اليوم سوى القليل من الأبحاث عن دراسة التأثيرات الفيزيولوجية للشعر في الدماغ والجسم البشري. ومع ذلك، قد يعزى تأثير الشعر العميق في الصحة النفسية إلى عدة أسباب؛ مثل:
سهولة معالجة القافية والأنماط المتكررة في الدماغ
في البداية، يمكن القول إن أدمغتنا مبرمجة طبيعياً للاستجابة للقافية والإيقاع؛ إذ وجدت دراسة منشورة في دورية سلوك وتطور الرضع (Infant Behavior and Development) عام 2019، أن الأطفال الحديثي الولادة يستجيبون على نحو أكثر فعالية لبعض الإشارات الإيقاعية والوزنية، خصوصاً تلك الموجودة في أغاني الأطفال المقفاة، مقارنة بالكلام العادي أو الموسيقا.
وبينت الدراسة أيضاً أن تغيير القوافي سبب حدوث استجابة دماغية مهمة؛ ما يشير إلى أن الدماغ يتنبأ بالقافية التي يجب أن تحدث. تستمر هذه الاستجابة الفطرية حتى مرحلة البلوغ؛ إذ بينت دراسة منشورة في دورية الحدود في علم النفس (Frontiers in Psychology) عام 2016، أن أدمغة البالغين يمكنها اكتشاف التناغمات والأنماط الشعرية تلقائياً، حتى عند الأشخاص الذين لا يفهمون معاني الكلمات بالضبط.
والآن، أتذكُر قول المتنبي: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم"؟ في الواقع، يقول الباحثون وفقاً لنتائج الدراسة الآنفة الذكر إن خصائص الشعر الموسيقية تخاطب العقل البشري بطرائق تتجاوز الوعي، علاوة على أن القصائد الموزونة والمقفاة تثير مشاعر إيجابية قوية وتقديراً جمالياً أكبر.
وربما يُعزى ذلك إلى نظرية الطلاقة المعرفية (Cognitive fluency)، التي تتعلق بالسهولة التي يعالج فيها الدماغ المعلومات؛ فكلما كانت معالجة المعلومات أسهل، زادت جاذبيتها، وزاد ميل الدماغ إلى الإعجاب والاستمتاع بها وحتى الإيمان بصحتها.
اقرأ أيضاً: تنمية هذه المهارة تمنحك قوة خارقة للانفتاح على العالم
تنشيط مراكز المتعة في الدماغ
وفقاً لدراسة منشورة في دورية علم الأعصاب الاجتماعي المعرفي والعاطفي (Social Cognitive and Affective Neuroscience) عام 2017؛ يمكن للشعر أن يثير ردود فعل عاطفية قوية؛ بما فيها الاستجابات الجسدية القابلة للقياس مثل القشعريرة.
تشبه ردود الفعل هذه ما يحدث عند الاستماع إلى الموسيقا المحببة؛ إذ إن كليهما ينشطان مناطق الدماغ المرتبطة بالمكافأة والمتعة، وخصوصاً النواة المتكئة، على الرغم من وجود اختلافات ملحوظة في بعض المسارات العصبية التي نشطت في الحالتين؛ إذ وُجد أن الاستماع إلى القصائد قد نشّط أيضاً بعض المناطق الدماغية الأُخرى التي لا تنشط عادة عند الاستماع إلى الموسيقا.
اقرأ أيضاً: صنع الأشياء متعة تفتح باباً لسعادة من نوعٍ خاص
تحفيز التأمل الذاتي
يمكن لطبيعة الشعر الإبداعية والاستبطانية أن تساعد الناس على معالجة تحديات الحياة؛ مثل نهاية علاقة عاطفية أو حدوث مرض أو دخول المستشفى؛ إذ يمكن لكتابة الشعر أو قراءته أن تعزز التأمل الذاتي وتسهم في اكتشاف أجزاء من الذات يُصعب التعبير عنها أو فهمها بطريقة أُخرى؛ ما يساعد على معالجة الأفكار والمشاعر الصعبة وفهمها والتعبير عنها باستخدام كلمات أكثر واقعية؛ وهو ما يُعين على مواجهة الهموم والمخاوف، والتنفيس عنها بتوازن وسلام.
بالإضافة إلى أن الانخراط في النشاط الشعري يعد تجربة ممتعة تثير مشاعر السعادة والفرح وسط الأوقات الصعبة، علاوة على أنه قد يلهي عن التفكير في البيئة المحيطة أو الظروف الحالية على نحو يخفف القلق، وينمي القدرات الإبداعية ويعزز الإدراك ويوسِّع الخيال.
اقرأ أيضاً: 5 أسباب تدفعك إلى ممارسة فن طي الورق “الأوريغامي” يومياً
10 نصائح فعالة لدمج قراءة الشعر وكتابته في روتينك اليومي
إذاً؛ قد يصبح الانخراط في فعل الكتابة، سواء الشعر أو كتابة اليوميات، أسلوباً علاجياً؛ وهذا ما تؤكده المختصة النفسية، أمل الحامد؛ إذ تقول إن الكتابة عن المشاعر والأفكار تسهم في التفريغ الانفعالي وتحليل المشكلات وتبسيطها؛ ما يساعد على التخفيف من وطأة المشكلات النفسية. لذلك؛ إليك بعض النصائح التي قد تساعدك على دمج قراءة الشعر أو كتابته في روتينك اليومي:
- خطِّط لأن تقرأ أو تكتب في وقتٍ محدد ومكان معين. يمكنك أن تخصص 15-30 دقيقة يومياً لهذا الأمر؛ قد يكون ذلك صباحاً أو في أثناء استراحة الغداء أو قبل النوم. عموماً، ربط القراءة أو الكتابة بمكان محدد أو موقف معين يساعد على تكرارها كلما جلست في هذا المكان أو نفّذت هذا السلوك، وذلك على نحو تلقائي دون تخطيط مسبق.
- اختر نوع الشعر الذي تحبه وتستمع به لتكون عادة القراءة ممتعة، وبعد التعود وبناء العادة، لن تفوِّت نصاً دون قراءته.
- احتفظ بديوان الشعر أمام ناظريك؛ قرب سريرك أو في المطبخ أو في غرفة المعيشة، وإلّا فلن تتذكر أن تقرأ.
اقرأ أيضاً: كيف تجعل الملل يقودك إلى الإبداع؟ 4 إرشادات قيمّة
- احرص على جعل دفتر الملاحظات في متناول يديك أو استخدم تطبيقاً للملاحظات من أجل تدوين الأفكار أو السطور الشعرية التي قد ترد إلى ذهنك في أثناء اليوم.
- اكتب كل يوم حتى لو بضعة أسطر، واحرص خلال هذا الوقت أن تبقى بعيداً عن المشتتات، وخصوصاً الهاتف المحمول، وفقاً لنصيحة المختصة النفسية أمل الحامد.
- استمِع الى بودكاست شعري في أثناء تنقلاتك أو في أثناء القيام بالأعمال المنزلية.
- شارك قصيدة أحببتها مع صديق او أحد أفراد الأسرة من أجل تعزيز التواصل وتنمية العادة.
- انضم إلى نادٍ لقراءة الشعر، سواء على أرض الواقع أو عبر الإنترنت؛ ما سيحفزك على الالتزام بعلاقتك بالشعر.
- كافئ نفسك على الالتزام، فالدماغ يولي اهتماماً كبيراً للإشباع الفوري. بكلمات أخرى: حتى تجعل قراءة الشعر أو كتابته سلوكاً قابلاً للتكرار، عليك أن تجعلها تجربة مجزية؛ أي أن تكافئ نفسك فورياً على الالتزام بها يومياً.
- قيِّم تقدمك وتعقب عادة القراءة أو الكتابة التي تنميها؛ لأن الشعور بتحقيق التقدم هو من أكثر المشاعر إشباعاً. على سبيل المثال؛ ضع علامة على التقويم إلى جانب اليوم الذي تقرأ أو تكتب فيه؛ حيث ستسهم هذه الطريقة البصرية في جعل عادتك مشبعة، وتذكر أن تتحلّى بالاتساق والصبر.
ختاماً، دعونا ننهي هذا المقال بأبيات ابن القارح الشعرية الجميلة التي إياك أن تنفذها! يقول:
لساني يقول ولا أفعل
وقلبي يريد ولا أعمل
وأعرف رشدي ولا أهتدي
وأعلم؛ لكنني أجهل