كيف تجعل الملل يقودك إلى الإبداع؟ 4 إرشادات قيمّة

7 دقيقة
الملل
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: محمد محمود)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: هل سبق لك أن شعرت بالملل الشديد ثم حاولت دفع هذا الشعور بعيداً سواء بتناول الطعام أو تفصح مواقع التواصل الاجتماعي؟ الحقيقة أنك لست وحدك، فهذا الشعور أضحى منتشراً بكثرة مؤخراً، وعلى الرغم من أن الملل قد يبدو شعوراً غير مريح، فإنه قد يعزز قدراتك الإبداعية، فكيف يمكن فعل ذلك؟ الإجابة في هذا المقال.

“لا يوجد شيء مثل الملل يدفعك إلى الكتابة”.

الكاتبة البريطانية أغاثا كريستي

كانت الكاتبة الروائية جيه كيه رولينغ (JK Rowling) تستقل قطاراً متأخراً عائدة وحدها من لندن خلال عام 1990، ولأن الرحلة كانت طويلة فقد كانت رولينغ تنظر من نافذة القطار حين برزت في عقلها فجأة صورة صبي صغير هزيل يرتدي نظارة طبية. وقتذاك، لم تكن رولينغ تحمل معها قلماً وشعرت بالخجل من أن تطلب قلماً من المسافرين معها، ومع ذلك ظلت تفكر في تلك الشخصية التي تولدت داخل عقلها فجأة. في لقاء لاحق لها خلال عام 2016، ذكرت رولينغ إن ساعات الملل في القطار هي التي ساعدتها على التفكير في كتابها، ولولا ذلك الملل ربما كانت شخصية هاري بوتر (Harry Potter) اختفت وتلاشت إلى الأبد، فهل يؤدي الملل بالفعل إلى الإبداع؟ وكيف يمكنك أن تستعين به لاكتشاف جانبك الإبداعي؟ الإجابة من خلال هذا المقال.

ما هو الملل؟

وفقاً لما ذكرته الطبيبة النفسية سو فارما (Sue Varma)؛ فإن الملل هو طريقة أدمغتنا للبحث عن نشاط مثير للاهتمام ومحفز، والملل أيضاً هو تلك التجربة المتمثلة بالرغبة في الانشغال بنشاط معين، مع عدم القدرة على القيام بذلك، والانشغال في الكثير من الأحيان لا يقضي على الملل، فقد تكون مشغولاً جداً وتشعر بالملل الشديد في الوقت نفسه.

والحقيقة أننا نتعلم في وقت مبكر من حياتنا أن الملل ليس ممتعاً ومع تقدمنا في العمر قد نبدأ في رؤيته على أنه مضيعة للوقت، أو فرصة ضائعة للقيام بشيء أكثر إنتاجية؛ ولهذا في الكثير من الأحيان يُعد الملل بالنسبة إلى الكثير من الناس تجربة مزعجة ومكروهة، وفي أسوأ الأحوال حالة تثير إحساساً عميقاً باللامعنى. بالإضافة إلى ذلك، عند الشعور بعدم الراحة بسبب الملل، يميل الوقت إلى المرور ببطء؛ ما قد يجعل الأيام تبدو بلا نهاية.

ولهذا ليس من المستغرب أن يحاول الأفراد الهروب من إحساس الملل بأية طريقة، وفي عالم اليوم أضحى ذلك الهروب سهلاً جداً، وعلى بُعد نقرة واحدة في متناول اليد يمكن أن نجد عالماً من البيانات والأخبار العاجلة والعروض والقصص والرسائل من الأصدقاء والعائلة أو الصور المتحركة والميمات ومقاطع الفيديو التي تساعد على تجنب الشعور بالملل.

ويُظهر الكثير من الأبحاث أن تصفح مواقع التواصل الاجتماعي لا يقضي على الشعور بالملل فحسب؛ ولكنه أيضاً يوفر جرعة من الدوبامين الذي يستبدل بالانزعاج الناتج المتعةَ مؤقتاً، ومع ذلك فإن هذا الشعور قصير الأمد، حيث يؤدي هذا التصفح إلى انخفاض طويل المدى في الصحة النفسية العامة ونوعية الحياة. ولذلك؛ في المرة القادمة التي تشعر فيها بالملل لا تلتقط هاتفك؛ حيث يمكن أن تكون للملل فوائد عديدة وأنت تضيعها على نفسك.

وفي هذا السياق، كشفت دراسة بحثية نشرتها مجلة الجمعية الملكية للعلوم المفتوحة (Royal Society Open Science) أن استخدام الهاتف لم يكن وسيلة فعالة لتخفيف الملل؛ بل إنه جعل هذه المشاعر أسوأ في كثير من الحالات. ووفقاً لما ذكرته أستاذة علم النفس، نيكول لاشيرزا درو (Nicole Lacherza-Drew)؛ فتصفح وسائل التواصل الاجتماعي لن يخفف عنك مللك لكنه سوف يغير حالتك المزاجية، ومن الممكن أن يحول إحساس الملل إلى الغضب والانزعاج.

اقرأ أيضاً: ما الذي يؤدي إلى الملل المزمن؟وكيف تتجنبه؟

لماذا قد نشعر بالملل؟

حين يداهمك الملل، سوف تشعر بالفراغ بالإضافة إلى الشعور بالإحباط بسبب هذا الفراغ، وفي بعض الحالات يمكن أن يجعل الملل تركيزك أكثر صعوبة ويسبب لك الشعور بالتوتر أو التشتت، وعادة ما يحدث الملل بسبب:

  1. المستويات المنخفضة من التحفيز العقلي.
  2. عدم الحصول على قسط كافٍ من الراحة أو التغذية السليمة.
  3. عدم وجود اهتمامات ترفيهية متنوعة.
  4. الرتابة الشائعة مثل الوقوف في طابور أو الازدحام المروري.
  5. الشعور بعدم الرضا عن الحياة بصفة عامة.
  6. قلة الاختيار أو التحكم في أنشطتك اليومية.
  7. الافتقار إلى المعنى.

وقد يؤدي الشعور بالملل في بعض الأحيان إلى التصرفات والمشاعر التالية:

  1. الإحساس بالقلق والانفعال.
  2. الأكل العاطفي.
  3. الحزن وخيبة الأمل.
  4. تزايد احتمالية الانخراط في سلوكيات محفوفة بالمخاطر مثل القيادة المتهورة.

5 فوائد للإحساس بالملل

في هذا المقال، لا ننصحك بالطبع أن تعيش حياة مملة خالية من المحفزات والمتع؛ ولكن الحقيقة هي أن تجربة فترات من الملل قد يكون لها الكثير من الفوائد والآثار الصحية مثل:

  1. زيادة قدرة الذاكرة العاملة: تماماً مثل أجسادنا؛ تحتاج أدمغتنا أحياناً إلى فترة راحة، فعندما نفرط في تحفيز عقولنا، قد نعاني الإرهاق العقلي والنتيجة انخفاض القدرة على العمل؛ ومن ثَمَّ انخفاض الإنتاجية. وعادة ما يرتبط الملل بشرود العقل الذي يُعد علامة على زيادة قدرة الذاكرة العاملة وهي أحد أنواع الذاكرة القصيرة المدى التي تسمح لنا بالاحتفاظ بالمعلومات للاستخدام الفوري.
  2. السعي وراء تحقيق أهداف جديدة في الحياة: يكون الملل أحياناً إشارة عاطفية إلى أننا لا نفعل ما نريد، وأننا منخرطون في هذه الحياة بأنشطة لا تشبهنا ولا تحفزنا أو تثير اهتمامنا كما أنها لا تلبي توقعاتنا. وفي هذه الحالة، يشجعنا الملل على البحث عن أهداف جديدة في الحياة. وفي هذا السياق، يؤكد أستاذ الفلسفة، أندرياس إلبيدورو (Andreas Elpidorou)، إن الملل يعمل كحالة تنظيمية تجعل المرء يتماشى مع أهدافه.
  3. زيادة المرونة: توضح الاستشارية النفسية، إيما دونوفان (Emma Donovan)، إن الملل يمكن أن يؤدي إلى الشعور بعدم الارتياح، وأسهل ما يمكن فعله في هذه الحالة هو محاولة العثور على شيء يمكنك القيام به للتخلص من الانزعاج؛ لكن إذا تقبلت إحساس الملل وحاولت فهمه سيُمكّنك ذلك من زيادة مرونتك تجاه المشاعر غير المريحة عبر تقبلها والسماح لها بالظهور.
  4. تحسين الصحة النفسية: تعتقد المعالجة النفسية، إيمي رولو (Amy Rollo)، إن الملل مفيد لصحتنا النفسية لأنه الوقت المناسب لاسترخاء العقل؛ وهو الأمر الذي يساعد بدوره في التغلب على التوتر، وتنصح رولو بضرورة الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي في أثناء الشعور بالملل لأنها تسبب الإجهاد. وفي سياق متصل، تؤكد مختصة الطب النفسي، رشا التميمي، إن الملل هو حالة سكون يمر بها العقل، وهذه الحالة مطلوبة نفسياً وعلاجياً لأنها تسمح بصفاء الذهن والإبداع.
  5. الانخراط في أحلام اليقظة: حين يداهمك الشعور بالملل، يبحث عقلك عن طرائق للشعور بالحيوية والتحفيز مرة أخرى، ولن يمر وقت طويل قبل أن تبدأ في أحلام اليقظة وهي الهدية التي يقدمها لك الملل؛ فنحن جميعاً نحب أحلام اليقظة المثمرة.

هل يمكن أن يؤدي الملل إلى الإبداع؟

عندما سُئل المؤلف الروائي الشهير، نيل غايمان (Neil Gaiman)، عن النصيحة التي سيقدمها للكتاب الطموحين قال: “عليك أن تدع نفسك تشعر بالملل الشديد بحيث لا يكون لدى عقلك أي شيء أفضل ليفعله من أن يروي لنفسه قصة”! ليس الكُتاب وحدهم هم الذين وجدوا الملل جزءاً مفيداً من العملية الإبداعية، فالنحات الحائز على جائزة تيرنر، أنيش كابور (Anish Kapoor)، قال: ” لقد تعلمت على مر السنين أنه في تلك اللحظات التي لا أعرف فيها ما يجب فعله، يدفعني الملل إلى المحاولة”.

وفي فيلم “رولينغ ستون” (Rolling Stones) الأخير الذي يعكس مسيرتها المهنية، أوضحت الكاتبة الموسيقية ومؤلفة الأغاني كيت ناش (Kate Nash) إن الملل الذي عاشته عندما كانت مراهقة دفعها إلى البدء في كتابة موسيقاها، ولاحقاً حين التحق أصدقاؤها بالجامعة كانت هي عالقة في المنزل دفعها عدم وجود شيء للقيام به إلى كتابة الأغاني من جديد.

والحقيقة أن ربط فكرة الملل بالإبداع لا يقتصر على تجارب الكتاب والفنانين، ففي المؤتمر السنوي لجمعية علم النفس البريطانية في عام 2013، قدمت أستاذة علم النفس ساندي مان (Sandi Mann) تجربة عن الملل أكدت من خلالها أنه يعزز القدرة الإبداعية؛ حيث طلبت من 40 شخصاً الجلوس ونسخ الأرقام من دليل الهاتف لمدة 15 دقيقة، وهي مهمة مملة للغاية، بعد ذلك، أُعطي هؤلاء الأشخاص أكواباً بلاستيكية وطُلب منهم التوصل إلى أكبر عدد ممكن من الاستخدامات لتلك الأكواب.

ثم أحضرت مان 40 شخصاً آخرين ولم تجعلهم ينسخون الأرقام كما فعلت مع المجموعة الأولى؛ حيث طلبت منهم فقط التفكير في استخدامات مختلفة للأكواب البلاستيكية، وتوصلت مان في النهاية إلى نتيجة مفادها أن المجموعة الأولى كانت أكثر إبداعاً؛ لأن الأشخاص الذين يشعرون بالملل يفكرون بأسلوب أكثر إبداعاً من أولئك الذين لا يشعرون بالملل.

ففي الوقت الذي تشعر فيه بالملل، يبحث عقلك عن التحفيز في محيطك المباشر، وحين لا يجد يبدأ في التجول داخل أفكارك؛ الأمر الذي يحفز عملية الإبداع. ووفقاً لما ذكره أستاذ علم النفس، جون إيستوود، في كتابه “خارج جمجمتي: سيكولوجية الملل” (Out of My Skull: The Psychology of Boredom)؛ فالملل ليس إبداعاً في حد ذاته لكن حين تشعر به سوف يكون لديك دافع للبحث عن شيء آخر، وفي تلك الفجوة تحديداً وهذا الإحساس بالفراغ يمكن أن يتولد الإبداع.

اقرأ أيضاً: لماذا أصبحنا نُصاب بالملل بسرعة؟وما الذي يمكننا فعله حيال ذلك؟

كيف تستعين بالملل لاكتشاف جانبك الإبداعي؟

ألن يكون من الأفضل لو غيّرنا عقليتنا قليلا؟ وبدلاً من أن نسأل أنفسنا “كيف نتوقف عن الشعور بالملل؟” أن نسألها “ما الذي يحاول الملل أن يخبرني به؟” أو “كيف يمكن أن نستعين بالملل من أجل اكتشاف جانبنا الإبداعي؟”، والحقيقة أن هذه هي الإرشادات المهمة:

  1. جرّب عدم فعل أي شيء: لا بأس أن تشعر بالملل أحياناً، فإذا حدث وشعرت به حاول البقاء حيثما كنت، ولا تفعل شيئاً سوى الجلوس والاسترخاء. لا تضغط على نفسك للبدء في القيام بشيء مختلف ومذهل؛ فقط انتبه إلى أفكارك أو انظر إلى ما فعلته بالأمس أو ما الذي حققته حتى الآن.
  2. دوّن يوميات صغيرة: حين تستيقظ في الصباح عليك تدوين أشياء صغيرة يومية مثل:
  3.  اكتب أفكاراً لشيء ما: يمكن أن يشمل ذلك كل شيء بدءاً من حياتك العملية وحتى حياتك الشخصية، ستساعدك هذه الأفكار على الوصول إلى النقاط التي تريدها.
  4. اكتب شيئاً واحداً أنت ممتن له: يعزز الامتنان فكرة التفكير الإيجابي، وحين تكتب الأشياء التي تشعر تجاهها بالامتنان سوف تجد أن الأفكار تتدفق.
  5. تذكر بأن تمارس اليقظة الذهنية: اكتب في دفترك الصغير أو في التطبيق الذي تستخدمه تجربة مميزة عشتها في يومك، حتى لو كانت الاستمتاع بنسمة الهواء أو منظر غروب الشمس؛ المهم هو استغلال الفرصة لتعيش يومك الحالي.
  6. اتخذ خطوة خارج عالمك الخاص: حين تشعر بالملل ويستمر معك هذا الشعور طويلاً، فكر في مغادرة عالمك الخاص قليلاً وابحث عن الإلهام في الخارج؛ يمكنك على سبيل المثال الاستمتاع بإعداد وجبة لم تطبخها من قبل، أو تجربة هوايات جديدة.
  7. ابتعد عن وسائل التواصل الاجتماعي: يجب علينا في أثناء الشعور بالملل الابتعاد عن مواقع التواصل الاجتماعي والوسائل التكنولوجية لأنها تعمق الإحساس بالكسل وتفرض على الأشخاص عزلة اختيارية تمنعهم من التفكير في الخروج.

في النهاية، يجب أن نذكر أن الملل كان يُنظر إليه عادة على أنه شيء يجب التخلص منه؛ لكن ربما علينا تغيير تلك النظرة قليلاً، ومحاولة تقبل الملل من أجل تعزيز قدراتنا الإبداعية. لذلك؛ في المرة القادمة التي تشعر خلالها بالملل، لا تمسك بهاتفك وتبدأ في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي؛ تقبَّل شعور الملل وحاول أن تعرف ما يريد أن يخبرك به.