لا يعتبر وسواس الخوف من الموت أو الخوف من فقدان من نحبّ شعوراً غير طبيعي. بل هو طبيعة بشرية تدفعها غريزة البقاء والحفاظ على النفس وحمايتها. ولولا هذا النوع من الخوف، لما رأينا حنوّ الأم على رضيعها واستماتتها لحفظ حياته.
لكن هناك نوعاً آخر من هذا الخوف يصل إلى حدّ الرهاب، يؤثر في الحياة اليومية. ويجعل من الصعب متابعة العمل أو الدراسة أو الانخراط في الأنشطة الاجتماعية. إنه رهاب قد يواجه المصاب به أعراضاً جسدية كما في نوبات الهلع.
وتأخذنا الفيرا (Elvira) إلى مشهد من قصتها الحقيقية مع وسواس الخوف من الموت. حيث تقول: "في فبراير/شباط 2021، تعرضت لعدة نوبات هلع مرة أخرى. لقد دفعتني فكرة التوقف عن الوجود يوماً ما إلى دوامة مروعة. كنت أسقط على الأرض، أبكي، غير قادرة على التنفس، أتدحرج في جميع أنحاء الغرفة ولا أعرف ماذا أفعل." بدأت الفيرا في التفكير في حقيقة الموت ونهاية كلّ الأشياء والأشخاص في سن السابعة. عقب رؤيتها لمجموعة من الجماجم البشرية في كهف، من مشهد بفيلم قراصنة الكاريبي.
وبالرغم من أن القلق من الموت أمر شائع أكثر مما قد نتخيّل. ما بين 3% و10% من الناس يشعرون بأنهم أكثر توتراً من غيرهم بشأن فكرة الموت والفناء.
إذن ما هي العلامات التي يمكن أن تخبرك إن كنت مقرباً من هذه الفئة أو تعرف أحداً من هذه الفئة. وكيف يمكن التخلص من هذا الاضطراب إن كان يعيق حياتك أو حياة أحبائك بشكل واضح؟
أعراض وسواس الموت
في الحين الذي يمثّل الخوف من الموت من وقت إلى آخر شعوراً طبيعياً لدى الإنسان ودافعاً للعيش بنمط حياة صحي. قد يختلف الأمر لدى الأشخاص الذين يعانون من الخوف من الموت (Thanatophobia)، الذي يتعلّق بشعور الرهاب والقلق الشديد وغير المنطقي من الموت أو الاحتضار أو الخوف من فقدان الأحباء.
فذلك قد يشكّل عائقاً يؤثر في سيرورة الحياة ورفاه العيش. ويرجع أصل مسمى 'ثناتوفوبيا' إلى اللغة اليونانية القديمة، حيث تعني عبارة "ثاناتوس" الموت أو الاختفاء.
ويمكن تصنيف الخوف من الموت كنوع من الرهاب المحدد (Specific Phobia). وهو بذلك، نوع من اضطرابات القلق المدرجة في الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس (DSM-5).
أما عن أهم الأعراض التي تميّز الإصابة بهذا الاضطراب، فقد حدّدها الخبراء من كليفلاند كلينيك (Cleveland Clinic) في العلامات التالية التي قد تتشابه مع أعراض نوبة الهلع:
- فرط التعرق.
- خفقان القلب.
- ضيق التنفس.
- اضطراب المعدة كعسر الهضم.
- القشعريرة والرجفة.
- الغثيان والدوار.
وعادة ما يتسبب الخوف من الموت في الشعور بالذعر أو الرهبة أو الاكتئاب. وخاصة عند مواجهة المواقف أو الأماكن المرتبطة بالموت والفناء، كالمستشفيات والمقابر والجنائز. إضافة إلى القلق الشديد من الإصابة بأي مرض قد يؤدي إلى الموت، لذلك، قد يعاني المصابون من الهوس الشديد بصحتهم.
اقرأ أيضاً: لماذا يصعب علينا التحدث عن الموت؟
أسباب وسواس الخوف من الموت
يمكن لحدث صادم أو تجربة مؤلمة كفقدان عزيز أو معاينة شخص يتألم بسبب المرض أو عملية الاحتضار، أن يتسبب في أعراض وسواس الخوف من الموت.
ووفقاً للمعلومات الصادرة عن ميديكال نيوز توداي (Medical News Today) قد يعاني الشخص المصاب برهاب الموت باعتلال الصحة بسبب قلقه الشديد بشأن الموت. على الرغم من أن ذلك ليس ضرورياً، إذ ما يرتبط في الأغلب بالإجهاد النفسي.
وقد ترجع الإصابة بوسواس الخوف من الموت وفقاً لميديكال نيوز توداي، إلى الأنواع التالية من الرهاب:
- الرهاب المحدد: يقصد به، الأشياء الأكثر شيوعاً للرهاب والتي يمكن أن تسبب الأذى أو الموت، بما في ذلك الأفاعي والعناكب والطائرات والمرتفعات.
- اضطرابات الهلع: قد يشعر الناس في أثناء نوبة الهلع بفقدان السيطرة والخوف الشديد من الموت أو الموت الوشيك.
- اضطرابات القلق بسبب الخوف من المرض: حيث يكون لدى الشخص خوف شديد من الإصابة بمرض، ما يؤدي إلى قلقه المفرط على صحته.
متى ينتهي وسواس الموت؟
من المفترض أن يتلاشى الخوف من الموت مع التقدم في السن. وفقاً للمعلومات الصادرة عن الخبراء في ميندلر (Mindler). حيث يقلّ شعور الرهبة تجاه تيمة الموت. ويكون الشخص قد تمكن بعد المرور بالعديد من التجارب من تقبّل الموت كجزء طبيعي من الحياة. وذلك وفقاً للنظرية النفسية الاجتماعية المعروفة باسم"تكامل الأنا" التي طوّرها عالم النفس التطوري والمحلل النفسي إريك إريكسون.
إذ يتمكّن الأشخاص الذين وجدوا معنى أو هدفاً في حياتهم من تحقيق تكامل الأنا. وبالتالي التوقّف عن مقاومة فكرة الموت كنهاية حتمية للجميع. وهو ما يحدث عكسه لدى الأشخاص الذين يشعرون بالفشل نتيجة عدم قدرتهم على تجاوز معظم المحن التي يواجهونها في حياتهم، ما قد يسهم في زيادة الخوف لديهم من نهاية وجودهم، وخشية الموت بشكل مرضي.
إلا أن الخبراء يؤكدون أنه يكون لدى النساء احتمالات أكبر لعودة ظهور أعراض هذا النوع من الرهاب في الخمسينات من أعمارهن.
كيف أتخلص من وسواس الخوف من الموت؟
قد تساعد تقنيات التأمل والتنفس في تقليل أعراض القلق الجسدية وقت حدوثها، وتخفيف حدّتها عموماً في المستقبل. كما يمكن لشبكات الدعم الاجتماعي ودعم الأسرة والأصدقاء توفير إحساس الأمان للشخص الذي يقلق بشدة بشأن الموت.
لكن هناك علاجات رئيسة يتفق حولها مختصو الطب النفسي والصحة من ميديكال نيوز توداي و كليفلاند كلينيك وهيلث لاين (Healthline). وهي كالتالي:
- العلاج المعرفي السلوكي (CBT): ويهدف إلى تغيير نمط تفكير الشخص المريض بالتدريج حتى يتمكن من تهدئة عقله بشأن المخاوف المتكررة من الموت، ويحدث ذلك من خلال مساعدة المعالج المختص الذي يقترح حلول عملية للتغلب على مشاعر القلق، وبالتالي التحكم بشكل أفضل في كيفية تفاعل المصاب مع أفكار الموت.
- العلاج الدوائي: قد يصف الطبيب المختص أدوية تشمل حاصرات بيتا أو الأدوية المضادة للاكتئاب في حالة تشخيص اضطراب القلق العام (GAD) أو كرب ما بعد الصدمة. وهي في حالة الرهاب، قد تسهم في التخفيف من مشاعر الذعر والتوتر على المدى القصير. لكن الاستخدام طويل الأمد لمثل هذه الأدوية قد لا يكون الحل الأمثل. لذلك من المستحسن العمل على مواجهة المخاوف والاستعانة بالعلاج النفسي.
- العلاج بالتعرّض (Exposure Therapy): يركّز هذا النوع من العلاج على جعل المريض يواجه مخاوفه ويعترف بمسببات القلق لديه بشكل تدريجي وبطيء. بحيث يقوم بذلك في بيئة آمنة له، حتى تقل استجابة القلق. وذلك عن طريق تقنيات مختلفة يقترحها المعالج. مثل كتابة الأفكار المتعلقة بالموت أو زيارة المستشفى ومعاينة المرضى عن كثب.
طرق مجرّبة لعلاج رهاب الموت
وبالرغم من دقّة توصيات الخبراء لعلاج وسواس الخوف من الموت ومدى فعاليتها. بعض الأشخاص قد يفضلّون استكشاف كيفية التخلص من رهاب الموت من خلال طرق مجربة قام بها مرضى آخرون ونجحوا في تجاوز محنتهم النفسية. ما سيقودنا إلى قصة الفيرا التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال، لنستخلص منها بعض الطرق العملية من وحي تجربتها الخاصة.
9 خطوات للشفاء من قلقك الشديد من الموت
- التواصل مع أشخاص يعانون من نفس الحالة: بإمكان الانضمام لمجموعة على فيسبوك أو أي منصة تواصل اجتماعي أخرى، مختصة في مناقشة مواضيع وسواس الخوف من الموت، أن يساعد في التواصل مع الأشخاص الذين يمرون بنفس الخوف. حيث يمكنهم دعم بعضهم البعض وتقليل شعور العزلة.
- مطالعة كتاب "عندما تنهار الأشياء": توصي الفيرا بقراءة كتاب المؤلفة الأميركية بيما شودرون بعنوان:"عندما تنهار الأشياء" (When Things Fall Apart). لأنه جعلها تتجاوز أسوأ مرحلة من مرضها. وهو كتاب يقدم نصائح قيّمة تمنح القارئ الثقة في النفس لمواجهة أصعب الأوقات.
- الالتزام بروتين يومي: ساعد الالتزام بروتين يومي محدد الفير على تجاوز نوبات الهلع التي تصيبها عقب الاستيقاظ كل صباح. إذ كانت تلازم السرير حينها وتحاول تهدئة نفسها قبل النهوض للقيام بمهام أخرى.
- تقنية التخيل الإبداعي: استخدام تقنية التخيّل الإبداعي (Visualization) والتنفس بمساعدة المعالج النفسي، من شأنه أن يساعد المريض على بلوغ حالة ذهنية هادئة ومستقرة.
- شاي الأعشاب: تساعد بعض الأعشاب الطبية كالخزامى على تقليل التوتر وتعزيز الهدوء النفسي بشكل عام إن أخذت في الصباح مثلاً أو قبل النوم. ولكن ينبغي دائماً استشارة مختص إذا ما وجدت حالة صحية أخرى قد تتعارض مع شرب شاي الأعشاب.
- نزهات قصيرة إلى الخارج: قد يميل الأشخاص الذين يعانون من رهاب الموت من الانزواء في منازلهم، لتجنب التعرّض للمواقف أو الأشياء التي تثير رعبهم عادة. لذلك، يمكنهم الاستفادة من تحسين حالتهم النفسية من خلال بعض النزهات القصيرة برفقة أحد المقربين في الهواء الطلق بجوار مسكنهم.
- تدوين الأفكار والمشاعر: يعد الاحتفاظ بمذكرات يومية واحدة من التقنيات العلاجية المعروفة التي ينصح بها المختصون مرضى القلق بشكل عام. إذ تمنح المصاب طريقة لتتبع مشاعره بشكل دوري وملاحظة كيفية تكوّنها وتطورها.
- التواصل مع الطبيعة: يمكن للطبيعة أن تقدم الكثير من فرص التعافي وتعزيز الصحة النفسية. فأمور قد تبدو بسيطة للبعض، مثل الجلوس في صمت ولمس العشب أو استشعار أشعة الشمس أو المطر، والاستماع إلى أصوات العصافير، من شأنها إبعاد أفكار القلق وعيش اللحظة الحالية.
- التوقف عن المقاومة: وجدت الفيرا راحة بعد توقفها عن مقاومة شعور الخوف والاستسلام ـ حسب قولها ـ لحكمة الطبيعة، أو القدر أو الإله حسب ما يفضل كل شخص. فمحاولة التظاهر بأنه يمكنك التحكم في كل جوانب حياتك يزيد من سوء وضعك النفسي، ويفتح باباً للمزيد من الوساوس إزاء الموت.
علامات الشفاء من وسواس الموت
تعيق الإصابة الشديدة برهاب الموت صاحبها من عيش حياة طبيعية. فهو يتجنّب الكثير من الأماكن والمواقف وكذا الأشخاص، الذين سيذكرونه ربّما بتيمة الموت والنهاية. لذا علامات الشفاء من وسواس الموت لن تكون سوى استرجاع الشخص قدرته على ممارسة الأنشطة الحياتية المعتادة. والاستمتاع قدر الإمكان بحياته دون الإحساس بالذعر في كلّ مرة يذكر فيها موضوع الموت. من طرف أحدهم أو حتى في فيلم أو دعاية على سبيل المثال.
ولعل واحدة من العلامات في رحلة شفاء الفيرا هو اكتسابها القدرة والشجاعة على التعايش مع المجهول. وتقبّل مشاعر الخوف الطبيعي، ما يفوق قدرة العقل البشري على فهم جميع تفاصيله كالموت.
وجود رهاب خاص بالموت لا يعني أن الخوف من هذه النهاية لكل كائن حي هو شعور غير مقبول وينبغي مقاومته! فهو إلى حدّ معقول طبيعي جدّاً. وقد يجد بعض الأشخاص مبرراً منطقياً لخوفهم من الموت. سواء تعلّق ذلك بفقدان أحد الأحبة أو معايشة مرض أحد الوالدين إلى آخر لحظة من حياته. غير أن وسواس الخوف من الموت الذي يعرقل حياتك بشكل واضح، يجب ألا يجعلك تتردد في طلب المساعدة المتخصصة. وتعزيز التدخّل الطبي بخطوات ذاتية تخفّف من أعراض الرهاب لديك.