هل هو خوف من الموت أم خوف من الفناء؟

فكرة الموت
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لا أحد فينا يرغب في أن يعتاد على هذا المصير البغيض. و لسائل أن يسأل: إلى أي مدى يكون هذا الرفض للموت طبيعياً؟ هل يكون ذلك عندما يصبح الخوف من الموت مَرَضِياً؟ فيما يلي توضيحات بشأن كيفية تَرَسّخ فكرة الموت فينا.

توضح سونيا: “حتى سن 32 عاماً، كنت أعتبر الموت فكرة مجردة إلى أن توفيت صديقتي المقربة في حادث سيارة. في ذلك اليوم أدركت حقاً أنني معنية بالموت أيضاً. ومنذ ذلك الوقت أيضاً أصبحت أشعر بالقلق بعض الشيء عندما يذهب والداي في رحلة. وبصفتي متسلقة للصّخور، فنادراً ما أخاطر”.

بالنسبة للنفسية البشرية يعدّ الموت من المفارقات. إنه قدرنا وبالتالي فهو ظاهرة عادية جداً، كما كتب الفيلسوف فلاديمير يانكيليفيتش في كتابه “الموت، لا أحد يعتاد عليه” (La Mort, nul ne s’y habitue): “كل وفاة تثير الدهشة وتبعث على النفور، كما لو كانت أول مرة نشهد فيها لحظات الموت”. في الوقت ذاته نتمكن من العيش والحب والتصرف على الرغم من التهديد اليومي تقريباً بالموت. هل سنكون بطوليين أم غير واعين؟ نادرون هم أولئك الذين يقولون لأنفسهم: “بما أنني سأموت لا محالة فسأشرع من اليوم في الاستسلام واستبعاد كل رغبة بداخلي”.

في الواقع، الأمراض المرتبطة مباشرة بالخوف من الموت قليلة. ومع ذلك، من أجل تحديد الحد الفاصل بين الخوف الطبيعي والخوف المرَضيّ في علاقتنا بالموت من الضروري تحديد المفاهيم التي تترسخ فينا وكذلك آثارها.

من الولادة حتى الموت

بحسب ما صرّحت به فرانسواز دولتو في كتابها “تكلم عن الموت” (Parler de la mort)، فإن “تجربة الولادة هي التجربة الأولى لبروز عملية الموت”. قدومنا إلى العالم يجعلنا بين أولئك الذين سيموتون لا محالة، وهذا بلا شك يعني الخسارة؛ خسارة المشيمة الواقية التي كانت جزءاً لا يتجزأ من المولود. من سن 2 إلى 3 أعوام يمكن للطفل إدراك أن شخصاً ما من حوله قد فارق الحياة لكنه يتخيل أنه ذهب ليعيش في عالم آخر قد يعود منه.

الموت بالنسبة للطفل هو العيش بشكل مختلف، لذا لا داعي للقلق إذا لم يبكِ ويذرف دموعاً سخيّة، ولم ينتابه الفضول سائلاً: “أين جدي الآن؟”. يثير الموت اهتمام الأطفال مثل الحياة الجنسية والإنجاب،و من ناحية أخرى يشير غياب تساؤلاتهم إلى وجود صعوبة لديهم، فالطفل يلتزم الصمت ليُجنب والديه التكلم بشأن هذه الوفاة. ومع ذلك فإن هذا الصمت يعرضه لخطورة أن يكون غير مؤهل لاحقاً لتحمل المواجهة مع الموت.

اقرأ أيضا:

بدأ شعور الخوف يستقر

هذه مرحلة طبيعية من نمو الطفل. في سن السابعة تقريباً، تصبح فكرة الموت نشطة للغاية. تتذكر داليا قائلة: “كنت أفكر في الأمر كل ليلة قبل النوم، كنت قلقة من فكرة أنني سأموت يوماً ما. لطمأنة نفسي رسمت شخصية خيالية أسميتها السيد تو لو وورلد(Tout-le- World)، وحكمت عليه بالموت المحقق ثم تعرفت عليه، وبذلك استطعت أن أقول لنفسي إن الموت شيء طبيعي، وسرعان ما انحسرت مشاعر الخوف داخلي”.

من ناحية أخرى؛ يخشى بعض الأطفال باستمرار أن “تموت الأم”. يأتي هذا القلق من الشعور بالضيق الذي يشعر به الطفل الصغير -عندما تغيب والدته- خشية ألا تعود، وطبقاً لتفسير المحللة النفسية ومؤلفة كتاب الطفل والموت (L’Enfant et la mort)، جينيت رايمبولت، يهدأ هذا النوع من القلق عادة مع تعلم الوحدة.

في وقت مبكر جداً يثير الوعي بالموت الخوف من الموتى المستوحى من الشعور بالذنب وفقاً لفرويد. إن علاقاتنا مع الآخرين يشوبها التناقض دائماً؛ حيث يمكن أن نكره أكثر كائن نحبه في نفس الوقت. أيضاً عندما يُتَوفى شخص مقرب، نشعر بالذنب بدرجة ما من الوعي بسبب المشاعر العدائية التي نحملها تجاهه. ومن هنا جاءت سيناريوهات الأطفال ورسومات الوحوش والأشباح التي نجدها في الأدب الرائع وأفلام الرعب.

ومع ذلك فنحن نعرف كيف نحمي أنفسنا ونحوّل الموتى إلى كائنات صالحة، باستثناء المواقف التي يسودها الغضب التي يبقى الشعور بالذنب فيها قوياً. لكن بشكل عام يؤثر الموتى فينا، وتشهد الاحتياطات الخطابية التي نتبناها لتحديد اسم المُتوفي على ارتباكنا. نفضل أن نقول إن الميت رحل أو غرق في نوم الأبدية، وسمى القديس بولس الموتى بـ”النائمين”.

سأموت أيضاً!

موت الآخرين يجعلنا ندرك واقعنا: “أنا أيضاً سأموت”. إنها معادلة خاصة بالإنسان ومستحيلة للحيوان الذي يعيش وهو يجهل المصير الذي ينتظره. أن تكون إنساناً هو أن تخشى الموت وتخترع طقوساً لتمييز مروره.

لم يتحدث المختصون في عصور ما قبل التاريخ عن “الأنسنة” إلا عندما بدأت مجموعات القردة العليا المشعرة (البشرنيات)، التي نعتبرها من أسلافنا الأوائل، بتكريم أمواتها بطقوس جنائزية. لماذا قاموا في هذه العملية باختراع الأديان؟ ربما لمحاولة إعطاء معنى للحياة وصورة للموت، لأنه غير مرئي وغير قابل للتمثيل بامتياز.

في الواقع، ليس من قبيل المصادفة أن تحاول معظم الأدبيات الفلسفية مساعدتنا في التفكير في الأمر؛ إما لإنكاره بشكل أفضل، إذ يقول أبيقور: “من غير المجدي التفكير في الأمر”، وإما لإقناعنا بقبول الموت بهدوء من خلال الفلسفة. وفي هذا السياق يؤكد مونتاني: “يمكننا أن نتعلم أن نموت”.

يقول أحمد: “في سن الأربعين، أرى أن الناس من حولي يصابون بالسرطان، لم يعد الموت مجرد ’حادث‘ في حياتنا اليومية. وقبل كل شيء، أخشى على والديّ؛ إنهما يتقدمان في السن وأنا أتخيل أنه في غضون سنوات قليلة سيكونان عاجزَين وآنذاك سيكون الموت حتمياً”.

إذا كان الخوف من موت الوالدين أو الأحباء أو المرضى أو المسنين أمراً مشروعاً، فإن الهوس باحتمالية موت جميع الكائنات من حولنا أمر يثير التوتر. تماماً مثل الخوف الدائم لدى بعض الأمهات على حياة أطفالهن. يعتبر التحليل النفسي أن هذا النوع من الأعراض هو تأثير رغبات الموت اللاواعية التي تحولت في الوعي إلى هوس دائم بالموت.

الرغبة في البقاء على قيد الحياة من أجل من يحتاجون إلينا هي مصدر قلق مشترك آخر. تعترف سناء البالغة من العمر 40 عاماً، وهي أم لطفلين يبلغان من العمر 10 و 13 عاماً: “عندما نذهب أنا وزوجي في رحلة لا نستقل نفس الطائرة أبداً، حتى لا نتعرض لحادث ويصبح أطفالنا أيتاماً. من المستحيل إحصائياً وقوع كارثتين جويتين متتاليتين”. كما أن تجنب المواقف التي يمكن أن تسبب موتنا المبكر لا تنم عن مشكلة مَرَضِيّة.

من ناحية أخرى، فإن الشعور بخطر دائم دون سبب هو الذي يثير إشكالاً أكبر؛ ربما لا نركب أبداً سيارة أو قارباً، وربما كنا مهووسين بفكرة أن أحبائنا سوف يرحلون، وقد يؤدي التشاؤم الناجم عن الاضطراب العصبي لدى البعض إلى ارتجافهم رعباً بمجرد قراءة كلمة “الموت” أو سماعها، إذ يعتبرونها علامة على أن شيئاً فظيعاً يمكن أن يحدث لهم.

في التحليل النفسي، ينجم الشعور المستمر بالموت الوشيك والقلق المَرضِي المزمن عموماً من صراعات نفسية لم يتم حلها بعد. في هذا الصدد تقول سلمى: “بفضل العلاج الذي خضعت له أدركت أن خوفي جاء من العلاقة التي كانت تربطني بوالدتي؛ عندما كنت طفلة لم أتمكن أبداً من الوثوق بها، والآن وقد أصبحت بالغة لم أعد أثق بالحياة. ومنذ ذلك الوقت تخيلت أنه لا شيء جيد يمكن أن يحدث لي”.

ماذا سيبقى من أنفسنا؟

لماذا نموت؟ وماذا يحدث بعد ذلك؟ لا نعرف شيئاً عن جوهر الموت. تصر فرانسواز دولتو على أننا نحمل الأوهام فقط؛ أي المعرفة التي اخترعناها لطمأنة أنفسنا. ويقول فرويد إن الأديان والأوهام الجماعية تجعلنا نأمل في الآخرة، من خلال بقاء “الروح”؛ إذ شرح أن الله يأخذ من يحبهم في وقت مبكر، وهي وسيلة لتحمّل معضلة الموت على نحو أفضل في حالة موت طفل.

لقد غرست فينا الأديان أيضاً فكرة أن الموت في بعض الأحيان هو تحرير، وهو العلاج الأكثر فاعلية لجروح الحياة. لكن فقدان الأديان لنفوذها يجعل الغرب اليوم أكثر عجزاً من أي وقت مضى؛ لم تعد لديه الكلمات والإيماءات التي سمحت له ذات مرة بمواجهة قابض الأرواح، ومن هنا تأتي نزعته إلى الانزواء في المستشفيات وإبعاد المرضى والمسنين عن نظره وإهمال طقوس الجنازة.

بما أنه من غير الممكن التفكير في الموت إلا من خلال التجربة الوحيدة التي نمتلكها، وهي الحياة، فالوهم ضروري؛ بعد لحظة الموت سيبقى شيء من أنفسنا، ومن هنا تأتي اقتراحاتنا بشأن كيفية معاملة جثثنا بعد الموت.

تشرح مريم قائلة: “أريد أن أُدفن كي يأتي الناس لزيارتي ويتذكروني، فالاسم المحفور على القبر يحافظ على وجودي نوعاً ما”. تشرح ليلى قائلة: “أود أن يُحرق جسدي ويُنثر رماده لأكون حرة. هل أترك جسدي للعلم؟ لا شك في أنه سيُشرّح!” إن استحالة إدراك أن ذواتنا لن تبقى في الوجود بمجرد موتنا هي أساس خيال واسع للغاية، وكأنه خوف من أن ندفن أحياء.

أكثر من الموت المجرد، “الفناء”هو بالتحديد ما يخيفنا. إن استحضار لحظة العبور هذه بين الحياة والموت، عندما يقول المرء لنفسه “أنا أموت”، يصيبنا بالدوار. ولكن بعيداً عن هذا الخوف الميتافيزيقي، لدينا أيضاً الخوف المبتذل جداً من الموت “البغيض” الذي يؤلم النفس. يرغب معظمنا في الموت أثناء النوم لكي لا يدركوا هذا “الموت”. والإصابة بنوبة قلبية وحشية أفضل من الألم البطيء الذي يتيح لنا الوقت للتفكير في الموت الذي لا مفر منه.

الموت محرك الحياة

كلنا نرفض الموت المجرد غير الشخصي، و”كل فرد يريد أن يتخلص من موته”، كما أشار فرويد في مقالاته عن التحليل النفسي. هذا هو السبب في أن المرء يتصرف ويحاول أن يبني مصيره. تبعاً للمحللين النفسيين، فإن لدغة الموت هي التي تدفعنا إلى إنجاب أطفال نعيش بفضلهم بعد العدم، كما أنه هو الذي يشجع الفنان على الإبداع من أجل تخليد اسمه. في هذا السياق صرح جيمس جويس، مؤلف نصوص غامضة بشكل خاص، عن ذلك بوضوح: “أكتب لأقدم عملاً للعلماء لقرون قادمة”.

في الواقع، قد يكون العيش إلى الأبد مملاً إلى ما لا نهاية. لأن الرغبة في العيش والإبداع والحب تتغذى على العقبات. وبدون أفق الموت من المحتمل أن تنطفئ هذه الطاقة الداخلية إلى الأبد. بعبارة أخرى، نحتاج نفسياً إلى الموت لنعيش.

إيروس مقابل ثاناتوس

كلما مرت السنين زاد الوعي بوضعنا الفاني الذي يترسخ في أذهاننا. تؤكد لجين البالغة من العمر 59 عاماً: “عندما كان والدي حياً كان من النادر أن أفكر في الموت والآن بعد أن أصبحت جدة أقول لنفسي إن دوري قد حان”.

كتابة الوصية هي بلا شك أكثر ما يضعنا بمواجهة الموت، ومع ذلك فنحن لا نؤمن بها كثيراً. كتب فرويد في مقالاته عن التحليل النفسي: “في اللاوعي يقتنع الجميع بخلودهم”، وعندما يتجاهل اللاوعي الوقت فهو يتجاهل الموت حتى لو رأينا الآباء والأصدقاء يرحلون، فإن همساتنا اللاواعية تردد “لن تموت”.

المريض الذي يطلب الموت الرحيم لا يعتقد أنه سيموت أيضاً؛ إنه يريد بشكل خاص تخفيف معاناته. لكن ثمة تفسير آخر لهذا الزخم الذي يلقي بنا أحياناً في أحضان الموت؛ وفقاً لفرويد، لدينا نوعان من الغرائز يواجه بعضهما البعض: الغرائز الجنسية والحفاظ على الذات (التي يسميها “إيروس”) وحملة الموت (التي يسميها “ثاناتوس”) الموجودة فينا منذ لحظة الولادة .

بالنسبة للفرد العادي، فإن الغريزتَين مترابطتان، وهذا ما ينتج حركة نحو الخلق أو الإنجاب. ومع ذلك، يحدث أن تؤدي تقلبات التاريخ الشخصي للفرد (سوء المعاملة أو الهجران أو التغلب بصعوبة على الفجيعة المبكرة) إلى انفصال هذه القوى، وهكذا يتولى الموت زمام الأمور.

ياسمينة؛ 25 عاماً: “أخبرت والدي أنه سيموت”

“ستعيش ثلاثة أشهر فقط” بهذه الكلمات، لم تتمكن الطالبة المتعاونة في مستشفى باريس من أن تقول لوالدها الذي يبلغ من العمر 77 عاماً إن إصابته بالسرطان وصلت إلى المرحلة النهائية. توضح: “لم تفعل والدتي ذلك ولن أفعلها أنا أبداً.

قلت له ذلك وأنا أشعر بغصة في حلقي، فأبي يكره الأكاذيب و من حقه أن يعرف. ها أنا جالسة أمامه في غرفة المعيشة، وعندما دخلت قلت: أبي، لقد كذبوا علينا، لم يتبقَّ لك متسع من الوقت لتعيش، لم يبق لك سوى ثلاثة أشهر. لديك ورم في رئة واحدة، بالإضافة إلى ورم في حلقك ونقائل سرطانية في كل مكان، لا يمكن فعل شيء، لقد انتهى الأمر”.

وتضيف: “أجاب أولاً بعيونه، متفاجئاً أن ناقل الرسالة هو ثالث أولاده. وأنا في الخامسة والعشرين من عمري يرفض والدي فكرة أنه سيترُكني. استطعت أن أقرأ ذلك في عينيه، لم يكن قلقاً جداً على نفسه، لقد توصل أخيراً إلى فكرة الموت. بعد هذا الصمت، أجاب: ’أعرف ذلك جيداً، فالحروق تزداد قوة في حلقي وظهري، كل يوم يصبح الوضع أسوأ. لكنني بخير، لقد عشت الحياة كما يجب أن تكون.

قرر أن يموت في المنزل، ولم يرد ممرضة، كما طلب أن نضع سياجاً جميلاً حول قبره. سمحت لنا هذه الكلمات غير المتوقعة بتجربة هذا العبور إلى المجهول على نحو أفضل. كانت وفاته بمثابة لحظة نعمة، فقد توفي في منزله محاطاً بمن يحبهم. كان له الحق في السعادة حتى وهو يحتضر. أنا واثقة من أن كلماتي لها علاقة بذلك”.

المحتوى محمي !!