لماذا يصعب علينا التحدث عن الموت؟

التحدث عن الموت
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة؛ لكن يصعب التحدث عن الموت أو الاعتراف به في ذات الوقت. حتى أن كلمة “الموت” تخيفنا!

نعرض فيما يلي ثلاثة أشخاص يتعاملون مع الموت بشكل يومي ويتحدثون عنه بحُرية مطلقة.

غالباً ما يثير إعلان الوفاة صمتاً محرجاً وتعزية ظرفية وتعاطفاً داعماً. فليس من السهل العثور على الكلمات المناسبة في مثل هذه الأحداث. وفي هذا السياق؛ يقول عالم الاجتماع ومؤلف كتاب “مكانة الموتى: الرهانات والطقوس” (La Place des Morts: Stakes et Rites) باتريك بودريه: “من المستحيل التفاعل مع اللامبالاة”. وفي الحقيقة، لم يطور أي مجتمع منظوراً للموت.

كتب الفيلسوف اليوناني “إبيقور” منذ العصور القديمة أن: “الموت من بين الشرور التي تبعث فينا أكبر قدر من الرعب”. وحتى بين الهنود الأميركيين من قبائل النافاجو، يشتبه في أن اسم الشخص المُتوفى يتسبب في الإصابة بالأمراض.

في ذات الصدد؛ تشير أخصائية علم النفس والمعالجة النفسية وعضو “المرصد الوطني لنهاية الحياة” (l’Observatoire national de la fin de vie) ماري دي هينيزل، إلى أن الكثير منا لديه خوف غير عقلاني من نطق الكلمة، “كما لو كنا سنموت بنفس الطريقة التي نلتقط بها عدوى مرض الأنفلونزا”.

شكل من أشكال الإنكار

تاريخياً؛ لطالما تجنبت الأديان والفلسفات دائماً جوهر الموضوع. وبحسب ما أشار إليه مؤلف كتاب “قاموس الموت” (Dictionnaire de la mort) فيليب دي فولكو: “إن الأسئلَة حول الحياة بعد نهايتها واسعة الانتشار”. في المقابل؛ هناك كم محدود من المعلومات حول علم الأحياء ومعاملة الجثث ومسؤولي تنظيم الجنائز.

في واقع الأمر؛ لا نريد التحدث عن الموت كثيراً تهرباً من احتمالية حدوثه. ففي الدين الإسلامي على سبيل المثال؛ سنبعث من جديد في الآخرة.

لقبول الموت بشكل أفضل؛ نتخيل أنه عبارة عن بداية الحياة الحقيقية. كما لن يخاف البعض منه، لأنه ليس هناك معاناة. يقول بيار لو كوز عن هؤلاء: “أود أن أرى هؤلاء المتظاهرين بالقوة في لحظاتهم الأخيرة”. فالتحدث عن الموت عموماً أسهل من مواجهته.

بالإضافة إلى ذلك؛ يستنكر الفيلسوف هايدجر فكرة التخلص من الموت من خلال التظاهر بأنه لا يهمنا، تماماً كما تؤكد الفيلسوفة راييسا مايار، في كتابها “قاموس الموت” ( le Dictionnaire de la mort). في كثير من الأحيان؛ رحيل الآخرين يقمع خوفنا الداخلي من الموت معتقدين أننا ما زلنا في مأمن منه.

انعدام الطقوس

بالنسبة لبيار لو كوز من الطبيعي أن تتجاهل الأمر؛ حيث يقول: “لقد سمح هذا للبشرية بالبقاء. لكن من لا يخاف الموت يعرض نفسه للخطر”. إن هذا الرفض موجود على وجه التحديد في دائرة الأسرة؛ حيث يلاحظ الطبيب النفسي جون سانتونجا أن هناك حالة انغلاق كلّية تحول دون الكلام عنه.

كما يوضح: “الشخص الذي يعرف أنه على وشك الموت يتعرض لضغط لا إرادي ممن حوله. لقد قيل له إنه سيكون على ما يرام وأنه سيتدارك الموقف؛ إنها طريقة للمضي قدماً. إذا كان من الصعب دائماً الحديث عن الموت، فيبدو أن القرن الحالي أكثر تحفظاً من القرن السابق.

تتذكر ماري دي هينيزيل: “عندما يتوفى شخص ما يكون محاطاً بالعائلة والجيران والأصدقاء. كان ذلك جزءاً من الحياة اليومية، وكان الأمر أكثر وضوحاً؛ حيث يُغطى الباب الأمامي باللون الأسود. ثم نكون حاضرين مع الجيران أيضاً، لنبقى لحظة بجانب سرير المحتضر. لقد تلاشت هذه الطقوس في الأماكن العامة. إننا نموت في المستشفى، وفي أغلب الأحيان بمفردنا كما اختفت رموز الحداد.

بالنسبة إلى ماري فريديريك باكيه؛ عالمة النفس ونائبة رئيس جمعية علم الثاناتولوجي أو معرفة تقاليد الموت: “كان رفض الممارسات الجنائزية صارخاً منذ الحرب العالمية الأولى. لقد كنا نستهزئ به من قبل؛ لكن عندما دُمّرت البلاد كانت طقوس الجنازة تُمارس في الغرف الخاصة بالأطباء”.

اليوم يَعتقد أقل من واحد من كل اثنين من الفرنسيين أن هناك شيئاً ما يحدث بعد الموت (استطلاع مجلة “تي إن إس سوفري-فيلوسوفي (TNS Sofres-Philosophie)، نوفمبر /تشرين الثاني 2010). ويؤكد بيار لو كوز أن: “المعاصرين متشككون؛ بل إنهم خائفون بشكل خاص من عدم البقاء على قيد الحياة”.

من جهته يشارك الطبيب النفسي كريستوف فوريه؛ عضو مجلس إدارة جمعية “عِش حدادك” (Vivre son deuil) رأيه: “يظهر الموت كمرآة قوية للرؤية الخلفية. والحديث عنه يعود إلى ما اختبرناه وأنجزناه واخترناه. والتمرين ليس سهلاً! يمكن أن يطاردنا الندم في هذا الوقت، خاصة في نهاية الحياة. لا سيما وأن الموت هو قبل كل شيء سؤال حميمي، فالشخص الذي سيموت ينبغي أن يكون بالقرب من المحيطين به للتحدث معهم”.

إنه ظرف يصعب فيه الكلام؛ لكن الرغبة في ذلك تستوجب موافقة الجانبين وإلا فلن ينشأ الحوار. يوضح باتريك بودريه: يمكن عرض صورة أو حكاية أو شيء ما يتعلق بالمُتوفى، فهناك العديد من الطرق لتفهم رحيل المُتوفى”. كما أشار أيضاً إلى أن أفضل أسلوب للرد على هذا النوع من الوداع هو أحياناً الصمت.

التحدث بشكل أفضل عن حيثيات الموت يكون من خلال الأشخاص الذين تعايشوا معه بعاطفة كبيرة. فيما يلي شهود عيان يشرحون لنا كيف كان ذلك:

إنهم يعملون مع الموت

خواكين 40 عاماً؛ مختص في التحنيط والثاناتولوجي

“وظيفتي تزعجني لكنها تثريني”

يقول خواكين: “كان عمري 20 عاماً عندما سمعت عن كيفية تحنيط المتوفى. فعند موت جدتي جاء رجل طويل للعناية بجسدها. وهكذا أثرت مداخلته فيّ بعمق، لأنها جمّلت من ملامح وجهها. كما ظهرت هذه الذكريات بعد عشر سنوات من وفاتها؛ كنت قد قررت خلالها بأن أصبح محلل صوت في الشرطة لكن حادثاً مفاجئاً حال دون ذلك.

دهست حافلة ساقي، وفي نهاية العملية تسببت جرعة زائدة من المورفين في توقف تنفسي تقريباً. لقد جربت الموت عن قرب!

علاوة على ذلك؛ بقيت في ​​المستشفى لمدة عام. حيث أُصيبت ساقي بالنخر العظمي وكان لابد من بترها؛ وبالتالي لم يعد بإمكاني الانضمام إلى الشرطة. استغرق الأمر مني عامين لأجد نفسي، ثم عادت ذكرى “السيد العظيم” إلى الظهور من جديد”.

ويوضح: “لقد نجحت على الفور في مسابقة التحنيط. إن وظيفتي تزعجني لكنها تثريني. أنا أقوم بواجبي مع المتوفين وعائلاتهم، ومن خلال التجربة التي مررت بها ومعرفتي عن الموت؛ أعتقد أنه عندما يموت الشخص، فإنه لم “يرحل” بعد. هو فقط غير قادر على التواصل”.

ويشرح خواكين: “تؤثر هذه الرؤية على عملي. فلا تغمرني المشاعر أبداً لأنني تقني؛ لكن إيماءاتي تراعي شعور المحيطين بالموتى. أعتقد أنني أقدم الرعاية النهائية للموتى بنفس الرقة التي تتعامل بها الممرضة عند تقديم الإسعافات الأولية لحديثي الولادة”.

سابين 48 عاماً؛ ممرضة دار لرعاية المسنين

“دوري هو المساعدة في اجتياز هذا الجزء المؤلم من الحياة”

تقول سابين: “لقد عملت دائماً مع المرضى الذين يتألمون على غرار مرضى الإيدز أو السرطان، والأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في كردستان، واليوم أنا أعتني بكبار السن. ما زلت مقتنعة بأنه من الضروري مرافقة كائن ما في نهاية حياته لأنه ليس مستعداً بالضرورة للموت، خاصة إذا كان يشعر بالحسرة. كما أن الأشخاص من حوله ليسوا متقبلين لفكرة التخلي عنه”.

وتضيف: “دوري هو التهدئة والمساعدة في اجتياز هذا الجزء المؤلم من الحياة. تلقيت تدريباً في الرعاية التلطيفية بالإضافة إلى قراءة الكتب. أعتقد أنني أعرف كيفية تخفيف الألم وتدليك تلك الأجساد المؤلمة. كما أعرف كيف أمسك بيد الشخص حتى آخر نفس له. لكن كلماتي وإيماءاتي تبدو لي أكثر توازناً منذ أن تعايشت مع الموت”.

وتوضح: “لقد كان طريقاً طويلاً مع علاجي النفسي. أدركت أنني كنت أختار هذا المسار المتطرف لإصلاح الجرح الداخلي. لقد فهمت أيضاً أن الموت جعلني قلقة. في كل مرة يموت فيها شخص ما؛ كنت أشعر بالصدمة. ما هي الكلمة التي يجب أن أقولها؟ ما هو الإجراء الذي كان يجب عليّ اتخاذه؟”.

وتضيف: “إن إدراكي لأنني لا أستطيع أن أنقذ العالم سمح لي بتحقيق التوازن اللازم في مهنتي كممرضة وفي حياتي على حد سواء. أعرف الآن لماذا اخترت المرافقة في نهاية الحياة، لأنني ببساطة أشعر بفائدة عميقة في أثناء المرافقة. في الحقيقة؛ لا أعرف كيف سأتصرف عند موتي لكن لدي يقين واحد: لن أشعر بالندم لأنني سأعيش بشكل كامل ما كان عليّ أن أعيشه”.

ساندرا 40 عاماً، مبتكرة الجرار الجنائزية

“كان علي أن أزيّن الموت للتعايش معه”

تقول ساندرا: “منذ عام ونصف؛ كنت أبحث عن فكرة للتوفيق بين معرفتي التجارية والفنية والحرفية. لطالما أحببت أن “أجعل الأشياء جميلة” من حولي، ثم خطرت لي فكرة صنع الجرار. هذا الإبداع يناسبني جيداً”.

وتوضح: “مع صناعة هذه الجرار الجنائزية؛ أشعر أنني في مكاني المناسب وأن لدي مهمة إضفاء الجمال لشيء جنائزي لتخفيف الحزن. لكن أحياناً ينزعج المحيطون بي من مشروعي. هل كانت فكرتي سيئة للغاية؟ أزعجني هذا الاحتمال لدرجة أنني تحدثت عن ذلك لمعالج نفسي. للحظة ما شعرت بأنني على صلة بالوفيات التي مررت بها منذ أن كنت مراهقة؛ حيث رحل تسعة من أقاربي بطريقة وحشية”.

وتضيف: “لم أشعر بالخوف أبداً. كما أنني لم أذرف الدموع في أثناء الجنائز مطلقاً. بل على العكس من ذلك؛ لقد كنت إيجابية. ألن يجدوا السلام مع الموت؟ مع معالجتي النفسية أدركت أنني كنت أحجب مشاعري لأنني صُدمت في وقت ما”.

وتشرح: “كانت هذه الدراما مصدراً للمعاناة بالنسبة لي إلى درجة أنني اضطررت إلى تجميل الموت من أجل التعايش معه. تسمح لي صناعة الجرار الجنائزية بالتعبير عن مشاعري والحزن على تجربة مريرة مررت بها سابقاً. لكن ماذا عن موتي؟ أتحدث الآن عن ذلك دون خوف. فضلاً عن أنني أفكر أكثر في حرق الجثث. وإذا اضطررت إلى اختيار واحدة من الجرار الخاصة بي، فسأختار الجرة المزينة بالفسيفساء. إنه تيار من الجمال والنور. إنه ببساطة صندوق الخلود”.

المحتوى محمي !!