تتراكم التجارب والخبرات التي نمر بها على مدار سنوات حياتنا في شكل أشبه بالتكوين الهرمي حسب أهميتها وما خلّفته في نفوسنا من آثار إيجابية أو سلبية. قد نتعرّض لموقف أليم أو حدث أثّر يؤثر فينا بشدة ويسبب لنا ما يسمة بـ "الصدمة النفسية"، فنحاول معالجته لكي لا يترك ندوباً. لكن هناك بعض المواقف التي تستعصي على الحلول الجذرية؛ مواقف تطلي النفس بالألم، فنتركها كما هي دون علم أنها ستؤثّر حتماً على صحتنا النفسية ما دامت غير مُعالَجة.
في حين أن الصدمات التي نتعرّض لها طوال سنوات حياتنا تؤثّر على صحتنا النفسية والجسدية؛ أشارت دراسة أجراها باحثون من جامعات واشنطن وستانفورد وهارفارد، إلى أن التعرّض لصدمات الطفولة والمراهقة -سواء كانت على شكل عنف نفسي أو جسدي أو سوء معاملة أو تهديد أو حرمان أو إهمال جسدي أو عاطفي- يجعل الجسم والدماغ يشيخان بشكل أسرع. يمكن أن يُفسِّر ذلك سبب تعرض الأطفال الذين يعانون من الصدمة إلى اعتلال الصحة النفسية والجسدية في وقت لاحق من حياتهم.
اقرأ أيضاً: سوء معاملة الأطفال يؤثر على صحتهم النفسية
ما هي الصدمة النفسية؟
الصدمة النفسية هي استجابة عاطفية لحدث يجده الشخص مرهقاً نفسياً للغاية؛ والذي قد يتسبب في مجموعة واسعة من الأعراض الجسدية والعاطفية. تنتج بعد الحدث مباشَرة صدمة وإنكار لما حدث، بينما تشمل ردود الفعل طويلة المدى مشاعرَ لا يمكن التنبؤ بها، وكذلك بعض الأعراض الجسدية.
على الرغم من أن البعض يستطيع تجاوز تلك المشاعر بعد فترة زمنية قصيرة؛ فإن آخرين قد يجدون صعوبة في المضي قدماً في حياتهم، ومواصلتها في سلام بعيداً عن شبح تلك الذكريات الأليمة، فيحتاج الأمر معالجة السبب الجذري لتلك المشكلة، وإيجاد طرق فعّالة للسيطرة على أعراضها المزعجة حتى لا تتطوّر إلى كرب ما بعد الصدمة (PTSD).
اقرأ أيضاً: دور العلاج بالرقص والحركة في علاج المشكلات النفسية
أنواع الصدمات النفسية
قد يتعرض الشخص للصدمات النفسية كرد فعل على أي حدث يجده مُهدِداً أو ضاراً، سواء كان جسدياً أو عاطفياً، وتتعدد أنواعها بين:
- الصدمة الحادة: تنتج عن حدث واحد مرهِق أو خطير.
- الصدمة المزمنة: تنتج عن التعرُّض المتكرر لأحداث مرهقة للغاية خلال فترة زمنية طويلة؛ يشمل ذلك حالات إساءة معاملة الأطفال أو التنمر أو العنف المنزلي.
- الصدمة المُعقّدة: تنتج عن التعرض لأحداث صادمة متعددة.
- الصدمة الثانوية أو غير المباشرة: شكل آخر من أشكال الصدمة يُصاب فيها الشخص بأعراض الصدمة من خلال الاتصال الوثيق مع شخص تعرّض لحدث مؤلم.
ما هي التجارب التي قد تسبب صدمة نفسية؟
في حين أن أحداثاً مؤلمة كوفاة شخص عزيز، أو التعرّض لحادث مؤلم، قد تكون أسباباً واضحة للصدمات النفسية؛ إلا أن هناك بعض العوامل التي قد تكون خفية لكنها قد تؤدي لصدمات نفسية؛ ومنها التعرّض لمواقف يشعر فيها الفرد بالخوف أو التهديد أو الإذلال وعدم القدرة على مواصلة ما يفعله في حياته اليومية. كذلك تلك المواقف التي يشعر فيها بالرفض أو عدم الأمان،وغياب الدعم الحقيقي الذي يحتاجه الشخص أو الشعور بالضعف.
ما هي أعراض الصدمة النفسية؟
تتراوح أعراض الصدمات من خفيفة إلى شديدة حسب قوّة الحدث بالنسبة للشخص. كما تحدد بعض العوامل الأخرى كيفية تأثير الحدث الصادم على الشخص؛ بما في ذلك وجود أمراض نفسية أخرى، أو التعرُّض السابق لأحداث صادمة، أو طريقة تعامله مع المشاعر القوية والاستجابة العاطفية والنفسية لها.
يحمل التعرُّض للصدمات عدداً من المشاعر المختلفة؛ كالإنكار، والغضب، والخوف، والحزن، والشعور بالخزي والذنب، بالإضافة إلى الارتباك، والقلق، والاكتئاب، ومواجهة صعوبة شديدة في التركيز.
علاوة على ذلك، فقد يجد الشخص صعوبة في التكيُّف مع ما يشعر به، ويحاول الانسحاب من مشاركة الآخرين؛ حيث ينغمس في اجترار ذكريات الماضي، ويسترجع الحدث الصادم في ذهنه مراراً وتكراراً.
إلى جانب الاستجابة العاطفية لتلك الأحداث المؤلمة؛ يمكن أن ترافقها بعض الأعراض الجسدية مثل الشعور بألم الرأس، والإعياء، والتعرّق الزائد، وخفقان القلب، والشعور بالاختناق، وكذلك تقلّب المزاج.
في بعض الأحيان؛ قد يعاني الشخص من فرط النشاط، والأفكار المتسارعة، ومواجهة مشاكل في الذاكرة، أو مواجهة صعوبة في الاسترخاء؛ حيث يشعر كأنه في حالة يقظة دائمة، ويعاني من الأرق.
عندما تستمر أعراض الصدمة أو تسوء لعدة أسابيع أو أشهر بعد الحدث الصادم، قد تتطور لكرب ما بعد الصدمة (PTSD)؛ والذي يتداخل مع حياة الشخص اليومية وعلاقاته ويؤثّر عليها سلباً.
من أسباب تطوّر الصدمة النفسية لكرب ما بعد الصدمة:
- وجود ألم جسدي أو إصابة.
- الحصول على القليل من الدعم بعد الصدمة.
- التعامل مع ضغوط أخرى في نفس الوقت؛ مثل الصعوبات المالية.
- القلق أو الاكتئاب السابق.
علاج الإجهاد الناتج عن الصدمات النفسية
تشمل أنواع العلاج التي يمكن أن يستفيد منها الشخص المُصاب بالصدمة ما يلي:
- الإسعافات الأولية النفسية (PFA): وهي مصمَّمة في الأساس لمساعدة الأطفال والمراهقين والبالغين والعائلات في أعقاب كارثة أو إرهاب، ويتم استخدامها أيضاً لمساعدة الأشخاص الذين عانوا من أي نوع من الصدمات.
يعتمد هذا النوع من العلاج على فكرة أن الكرب أمر طبيعي بعد حدث صادم. بدلاً عن معالجة هذا الضغط كاضطراب؛ ينصبّ تركيز هذا النهج على تقديم الدعم والمساعدة ومشاركة المعلومات حول استراتيجيات التأقلم على المدى القصير والطويل.
- العلاج المعرفي السلوكي (CBT): والذي يُستَخدَم بنجاح لعلاج العديد من الاضطرابات النفسية؛ بما في ذلك الإجهاد الناتج عن الصدمة. يساعد هذا العلاج الناس على تعلّم تغيير أنماط التفكير والسلوك غير المفيد.
- تقنية الاستثارة الثنائية لحركة العينين وإعادة البرمجة (EMDR): وهو علاج شائع آخر للصدمات يهدف إلى مساعدة الناس على معالجة الذكريات المؤلمة ودمجها. من خلال هذه التقنية؛ يسترجع الفرد لفترة وجيزة تجارب صادمة معينة، بينما يوجّه المعالج حركات عينيه. النظرية التي يقوم عليها هذا النوع من العلاج هي أنّ تذكَّر أوقات الضيق أثناء تشتيت الانتباه، يجعلها أقل إزعاجاً. بمرور الوقت؛ يمكن أن يقلل التعرُّض لهذه الذكريات من آثارها النفسية.
اقرأ أيضاً: دور العلاج بالرقص والحركة في علاج المشكلات النفسية
كما تُستَخدَم تقنيات جسدية في علاج الصدمات النفسية؛ والتي تعتمد على الجسم لمساعدة العقل والجسم على معالجة الصدمات.
تشمل هذه العلاجات:
- التجربة الجسدية: تتضمن هذه التقنية مساعدة الشخص على استعادة الذكريات المؤلمة في مكان آمن من قِبَل مختص.
- العلاج النفسي الحسي الحركي: يجمع هذا النوع من العلاج بين العلاج النفسي والتقنيات القائمة على الجسم لتحويل الذكريات المؤلمة إلى مصادر قوة.
- تحفيز نقاط الوخز: يتضمن ضغط المعالِج على نقاط معينة في الجسم؛ ما يؤدي إلى شعور الشخص بحالة من الاسترخاء.
قد يكون للأدوية دور مساعد في علاج الصدمات النفسية بجانب العلاج النفسي؛ لكنها لا يمكن أن تعمل وحدها، فهي يمكن أن تساعد الشخص في إدارة أعراض مثل القلق والاكتئاب واضطرابات النوم، لذلك يجب على الشخص التحدث إلى الطبيب حول طرق العلاج المناسبة له.
جدير بالذكر أنه دائماً ما يكون لنمط حياة الفرد وروتينه اليومي دور مهم في العلاج، لذلك تشمل طرق الرعاية الذاتية للصدمات ما يلي:
- ممارسة الرياضة: يمكن أن تنشط الصدمة استجابة الجسد للقتال أو الهروب، لذلك قد يساعد التمرين في التخفيف من بعض هذه الآثار للاستجابات الحادة. يمكن للفرد ممارسة الرياضة لمدة 30 دقيقة على الأقل يومياً في معظم أيام الأسبوع.
- اليقظة الذهنية: يمكن للتنفس اليقظ والتمارين الأخرى التي تعتمد على اليقظة والتركيز، أن تجعل الفرد حاضراً في اللحظة الحالية؛ ما قد يمنعه من إعادة إحياء الحدث الصادم. يمكن أن يكون ذلك فردياً أو ضمن مجموعة.
- التواصل مع الآخرين: إن الابتعاد عن الآخرين والانعزال هو عرض شائع للصدمة، لذلك من المهم جداً التواصل مع الأصدقاء والعائلة؛ ذلك التواصل يمكن أن يساعد في منع الصدمة من أن تتطوّر لكرب ما بعد الصدمة.
- أسلوب حياة متوازن: قد يجد الشخص المصاب بالصدمة صعوبة في الاسترخاء أو النوم جيداً. ومع ذلك؛ يؤدي كل من النوم والاسترخاء والنظام الغذائي دوراً في الصحة العقلية. إذا أمكن؛ يجب على الشخص أن يحاول النوم لمدة 7-9 ساعات في الليلة، ويتبع نظاماً غذائياً متوازناً، ويخفف التوتر بممارسة التأمل والأنشطة الممتعة.
اقرأ أيضاً: ماذا نتعلم من المحن التي تواجهنا؟
إذا كان التعرّض للصدمات على مدار حياتنا أمراً لا مفر منه، فالتعرّف على كيفية إدارة الآثار النفسية السلبية الناتجة عنها يصبح شديد الأهمية حتى يمكننا مواصلة حياتنا دون الوقوع في شرك الذكريات الأليمة التي قد تلتهم حياتنا بأكملها.