ماذا نتعلم من المحن التي تواجهنا؟

مواجهة المحن
shutterstock.com/PHOTOCREO Michal Bednarek
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

من أزمات الحياة الزوجية، إلى التسريح الوظيفي والإصابة بالأمراض. تعتري حياة الإنسان الكثير من الشدائد والآلام، وفي حين أنها قد تُضعف المرء من جهة؛ إلا أنها ستكون من جهة أخرى، ومن خلال مواجهة المحن والحصول على الدعم المناسب، سبيلاً له ليعيد تعريف ذاته ويلقي نظرة جديدة عليها.

  • “يجب أن نتجنب التفكير في المصير”
  • إذاً ما هو اللغز وراء هذا التفاوت بين البشر في القدرة على مواجهة المصاعب؟
  • “مواجهة المحنة تتطلب قدراً من المرونة”
  • هل التغلب على الصعوبات مسألة شجاعة؟
  • إعطاء معنى للمحنة التي نمر بها

نواجه كل يوم فيضاً من الأخبار السيئة التي تغذي لدينا مشاعر عدم الأمان وعدم الاستقرار. وفي مجتمع يعطي السلوك الاستهلاكي أولوية على الروابط الاجتماعية، فليس من المستغرب أن تكون أكبر مخاوفنا هي الخوف من الفقر والحرمان: إذا تركني شريكي، سأعاني من العزلة، وإذا فقدت وظيفتي، فسوف ينتهي بي المطاف بلا مأوى، وإذا مرضت، فذلك يعني خروجي من “عالم الأصحاء”.

تسبب هذه المصاعب شعوراً بالعجز لدى الإنسان، ومع ذلك، فإن هذا السياق ليس هو المسؤول الوحيد عن مخاوفنا عندما نفكر في أمور كالانفصال عن الشريك، أو الإقالة من العمل، أو الإصابة بمرض خطير. يوضح المحلل النفسي أوليفييه دوفيل أن: “جميع المحن الوجودية التي يتعرض لها الإنسان، ومهما كانت طبيعتها، تشير إلى حالة من الضيق الكامن في أعماق نفسه”. وعند مواجهة هذه المحن يعود مرة أخرى إلى حالة الطفل الصغير العاجز الذي كان عليه من قبل، أو الطفل الذي يعتمد كلياً في حياته على حسن نية الآخر؛ كالأم على سبيل المثال.

وفي مواجهة هذه المحن، تتسلل إلى أذهاننا العديد من الأسئلة التي قد ينبع معظمها من اللاوعي لدينا مثل: من قد يرغب بي الآن بعد أن هجرني شريكي؟ ما هي قيمتي الآن لأنني سأضطر إلى التخلي عن الإنسان الذي اعتقدت أنني سأقضي حياتي معه، وطردني مديري من العمل، وأصبت بالمرض؟ 

نحن نسيء في مثل هذه الحالات استخدام مساحتنا الحميمة، ونشكك بعنف في الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا؛ إذ تدفعنا الأحداث المؤلمة إلى اكتشاف أنماط التفكير التي تدفعنا بدورها، دون علم منا، إلى العثور على طريقة للتكيف، إما لمواجهة ضعفنا أو على العكس مواجهة إمكاناتنا خلال ما نتعرض له من قوى الحياة غير المتوقعة.

“يجب أن نتجنب التفكير في المصير”

اتّبعت الكائنات الحية منذ ظهورها على كوكب الأرض استراتيجيتين رئيسيتين للبقاء؛ هما القتال والفرار. واستبدل البشر في سياق تطورهم الكثير من هذه الاستجابات الجسدية بأخرى فكرية؛ من خلال أسئلة مثل: ما العمل للتغلب على هذه المشكلات؟ هل أُحللّها أم أنكرها؟ هل ألوم الآخرين والقدر؟ هل أطلب المساعدة؟ أم استسلم لها؟

ووفقاً لأوليفييه دوفيل، فإن مواجهة الصعوبات التي تُعرّض كياننا للخطر تتطلب أولاً تمييز هذه الصعوبات عن بعضها البعض: “فالإقالة من العمل ليست كالانفصال عن الشريك على الرغم من أن كلا الحالتين تسببان للمرء شعوراً بالوحدة، وتدنياً في احترام الذات وقلقاً من التخلي”، ويتابع: “يجب أن نتجنب التفكير في المصير الذي وصلنا إليه، لقد هجرني شريكي، أو طُردت من العمل، أو مرضي خطير، أو أنه قدري، ولا مفر منه، لذا أنا أستحق ذلك، لأنني أقل من لا شيء. فكلما زادت دوافعنا لإيذاء ذاتنا زادت صعوبة الخروج من حالة النظر لأنفسنا على أننا كائنات مقدر لها أن تموت”.

فعلى العكس من ذلك؛ يجب أن نسعى جاهدين لإدراك أن الآخرين قد عانوا حتماً من هذه المأساة التي حلت بنا. وحتى لو شعرنا بأننا لا شيء، في الواقع؛ يجب النظر إلى ذلك على أنه وضع جديد حققناه للتو، وبدلاً عن النظر إلى أنفسنا كمنبوذين عاطفياً أو مهنياً أو “من عالم الأصحاء”؛ يجب أن ندرك أن هذه الحالات تعطينا فرصةً لتعريف أنفسنا بشكل مختلف، لقد تركني شريكي؛ لكنني عدت عازباً مرة أخرى، أو لقد أصبحت زائداً عن الحاجة في العمل؛ لكنني لم أصبح عديم الفائدة، أو غير قادر، فهذا الوضع يعطيني فرصة لأعيد تقييم نفسي والتساؤل عما يمكنني وعما أريد فعله، أو أنا مصابة بالسرطان؛ لكن هذا المرض لن يحد من قدراتي، لقد قُدر لي ألا أموت بسببه، ومع ذلك، فمن أجل البقاء على قيد الحياة؛ يجب علي أن أواظب على الدواء.

هنالك الكثير من الأنشطة التي تعد علاجاً فعلاً للكرب والحزن؛ مثل ممارسة الكتابة، لأن الكتابة تعني الإبداع، والعمل، حتى عندما يبدو أن المحن التي نواجهها تحكم علينا بالسلبية. وقد يتجه آخرون إلى الرسم أو حتى تأمل السماء والنجوم ببساطة، أو المشي، أو الجري، أو السباحة. كما أن أخذ إجازة في الريف عند تسريحك من العمل تعتبر فكرةً جيدة. يقول أوليفييه دوفيل: “يجب أن نتذكر أن لنا الحق في العيش، حتى عندما لا نكون مفيدين للنظام التجاري”. 

وفي حين أن هناك الكثير من الاستراتيجيات الدفاعية الفعالة؛ إلا أنه لا توجد إجابة واحدة تناسب الجميع.

عندما تنهار إحدى دعامات حياتنا الأساسية، سواء في المجال المهني أو الأسري أو العاطفي، أو حتى عند رحيل أحد الأحباء، يجب علينا أن ندخل أنفسنا في مرحلة حداد داخلي. وفي بعض الأحيان قد يكون من الأفضل إنكار حقيقة الخسارة لبعض الوقت، إذا كان هذا التغاضي العابر يجنبنا الدخول في حالة شديدة من الاكتئاب. وخلاصة القول هنا هي أن قدرات البشر متفاوتة في مواجهة محن الحياة.

إذاً ما هو اللغز وراء هذا التفاوت بين البشر في القدرة على مواجهة المصاعب؟

يوضح أوليفييه دوفيل: “هنالك بعض الناس “النرجسيين” الذين تكون لهم مقدرة أفضل على مواجهة مصاعب الحياة، ويوضح أن هؤلاء يتمتعون بصورة ذاتية جيدة، ولديهم الثقة في مقدرتهم على استعادة توازنهم عندما تواجههم هذه الصعوبات”، ويتابع قائلاً: “لكن الاعتقاد بأن قوتنا النفسية وطاقتنا الداخلية تظل كما هي طوال حياتنا هو اعتقاد خاطئ، فكل فرد لديه عيوب في نظامه الدفاعي”.

ويبدو أن الأفراد الذين يفرز دماغهم كميةً كبيرةً من هرموني الدوبامين والسيروتونين، هم أكثر استعداداً لمواجهة صعوبات الحياة، فهم أكثر نشاطاً وأكثر تفاؤلاً. وتكمن المشكلة هنا أنه مثل طاقتنا النفسية، تخضع مستويات الدوبامين والسيروتونين للتقلبات، وهي لا تضمن وحدها تمتع الفرد بالمعنويات الصلبة أو الرغبة في التغلب على المحنة؛ إذ إن الصورة التي لدينا عن أنفسنا، والروابط التي قمنا بتشكيلها تؤدي دوراً أساسياً بنفس القدر.

“مواجهة المحنة تتطلب قدراً من المرونة”

تشير فاليري بلانكو إلى أن “التمتع ببعض المرونة النفسية أمر ضروري للتعامل مع تقلبات الحياة”. ولكن العامل الحاسم قبل كل شيء هو المعنى الذي تحمله المحنة للفرد، على سبيل المثال: حافظت امرأة تبلغ الثلاثين من العمر على تماسكها عندما فقدت طفلها الصغير، وحافظ الأب الذي فقد ابنته أمام عينيه على تماسكه أيضاً، أما المرأة التي اضطرت للتخلي عن وضعها كمديرة لشركة كبيرة وهي في سن الخمسين، فقد دخلت في حالة اكتئاب عميق؛ إذ اعتبرت أنها أصبحت لا شيء بعد تسريحها من وظيفتها، لا أحد، ووجدت نفسها دون دعم يعينها على متطلبات الحياة اليومية.

هل التغلب على الصعوبات مسألة شجاعة؟

يجيب أوليفييه دوفيل: “لا، فالشجاعة هي مثال أخلاقي رائع، وفضيلة فلسفية؛ لكنها لا تعني شيئاً من وجهة نظر التحليل النفسي. فمواجهة المحن ليست حدثاً عارضاً؛ بل بل هو فن متكامل لعيش الحياة يتضمن المقدرة على قبول خشونتها والتحولات التي تنطوي عليها”. 

هل تجعلك المحن أكثر مقاومةً؟ “نعم، لأنها تجبرنا على حشد قوانا الحيوية. فهي رغم الكرب والحزن المحيطين بها؛ تتيح لنا اكتساب معارف جديدة”.

يشير الجو التنافسي في عصرنا إلى أن الفرد الذي يتمتع بذات قوية سوف يعمل بشكل أفضل. ويخلص أوليفييه دوفيل إلى أن “تبدو وجهة النظر هذه خطرةً بالنسبة لي، لأنها من المحتمل أن تؤدي إلى علم نفس يرجح أفراداً متفوقين لا تشوبهم شائبة على أفراد يتسمون بالضعف”. فعلى العكس من ذلك؛ يجب أن نتقبل المحنة التي نمر بها، وأن نسعى للحصول على الدعم، وأن نقترب أكثر من أولئك الذين مروا بتجارب مماثلة، “لأنك لا تخرج من محنة كبيرة بمفردك”.

كان مفهوم المرونة النفسية غائباً عن مفرداتنا قبل ثلاثين عاماً من الآن. أما اليوم، وبفضل عمل الطبيب النفسي العصبي والمعالج النفسي بوريس سيرولنيك، وعلى وجه الخصوص كتابه “مصيبة رائعة”، فقد انغمس هذا المفهوم في لغتنا اليومية بشكل واضح، لدرجة أننا كثيراً ما نسيء استخدامه. وغالباً ما تعني عبارة “شخص مرن” أنه قادر على التعافي والخروج من محنته، وأنه صلب ويتمتع بقوة داخلية كبيرة. ومع ذلك، فإن المرونة ليست سمةً شخصية، ولا صفة مثل اللطف أو الجشع. 

عرف بوريس سيرولنيك المرونة بأنها: “فن الإبحار في السيول، كما وصفها بأنها “عملية نسج”، وإعادة توازن يستمر طوال الحياة”. فعند تعافينا من مرض ما نحن لا ننسى الصدمة أو الذكرى التي ارتبطت بهذه المحنة الكبيرة والتي ستضاف إلى خبراتنا؛ إذ نعيد كل يوم بناء أنفسنا. ولا تأتي المرونة النفسية من الأداء أو الإنجازات الشخصية للفرد، إنما تأتي من الآخرين كالأصدقاء، والشركاء، دون أن نغفل دور الغرباء ذوي الأخلاق الكريمة أيضاً، الذين يوجهوننا إلى الطريق الصحيح.

إعطاء معنى للمحنة التي نمر بها

هل يتطلب تجاوز هذه المحن التي نتعرض لها إعطاءها معنى؟ (بوصفها فداءً للخطايا، وخطوةً نحو الحياة الأبدية)؟ أو- على العكس من ذلك- النظر لتلك المحن على حقيقتها فقط، وهي أنها عبارة عن حادث مأساوي يتعامل معه البشر بأفضل ما في وسعهم؟

يقترح الفيلسوف بيار الزاوي؛ مؤلف كتاب “تخطي المحن” (La Traversée des catastrophes)، طريقة أخرى للنظر من أجل “مواجهة المحن”؛ وهي أن الخضوع لمحنة يعني اكتشاف الجانب الذي كنا نجهله من الحياة، واكتشاف القيم المتغيرة لدينا وللآخرين وللعالم من حولنا، وبعيداً عن ألم المحنة التي نمر بها، فإننا خلال مرورنا بهذا الألم نعيد نسج الحياة مرة أخرى. يقول بيار الزاوي: “لا تُمثل السعادة المفهوم المضاد للمحنة؛ إذ يمكن أن ترى كليهما ينشآن ويسيران معاً وذلك رغم اختلاف الجوهر في كل منهما… وقد يضيف العديد من ضحايا المحن، في قلب الحزن، شذرات من الفرح والمعنى”.

المحتوى محمي !!