ملخص: إن تقليل المرء من قيمة صفاته واعترافه صراحةً بجهله هما من دلالات "التواضع الحقيقي والتواضع الظاهري"؛ إلا أن الفلاسفة وعلماء النفس يخبروننا أن هنالك فرقاً كبيراً بين المفهومين.
"لولا مساعدتك لي لم أكن لأنجح"، "لقد كنتُ محظوظاً جداً"، "لا فضل لي أبداً في هذا النجاح"، "لقد كان هذا النجاح أولاً وأخيراً بفضل جهود الفريق". من الذكاء أن يفرق المرء بين التواضع الحقيقي والتواضع الظاهري علماً أن كليهما ينطويان على الآثار ذاتها؛ وهي تَسَطُّح الأنا ونسب الفضل للآخرين لا الذات، وربط النجاح بالحظ الجيد لا الموهبة الشخصية، كما يتضمن كلاهما التعبير عن الخجل والامتنان والإحراج معاً.
لو بحثنا في القواميس الاشتقاقية سنجد أن كلمة (Humility) التي تشير إلى التواضع الحقيقي هي مشتقة في الحقيقة من الكلمة اللاتينية (Humus) والتي تعني "الأرض والتربة". بينما عند البحث عن كلمة (Modesty) التي تشير أكثر إلى التواضع الظاهري فسنجد أنها تعود إلى الكلمة اللاتينية (Modestia) وهي تعني في هذا السياق "السلوك المدروس والمتحفظ". وترمز الأرض إلى التواضع الحقيقي، أما التربة فهي ترمز إلى حيث تنمو الشخصية وجوهرها وسريرتها؛ بينما يشير التواضع الظاهري إلى السلوك وطريقة التصرف، وهو وفقاً لكارل يونغ المظهر الخارجي والقناع الاجتماعي والشخصية التي نريها للآخرين.
الفرق بين التواضع الحقيقي والتواضع الظاهري
يقول المدرب والطبيب النفسي إريك ألبرت: "غالباً ما يحل التواضع الكاذب محل التواضع الحقيقي في المجال المهني" ويوضح أن الأنغلو ساكسون كانوا من ساهموا في نشر ثقافة "السلوك المتحفظ" هذه على نحو واسع.
ولكن في معظم الأحيان كان التواضع الظاهري مسألة تقليد اجتماعي، لأنه إذا كان الأنغلو ساكسون قد نجحوا في نشر هذه الثقافة فإن ذلك يرجع بالتأكيد إلى وجود أرضية مواتية لذلك؛ وهي الثقافتان اليهودية والمسيحية اللتان تنصان على أن التواضع يعني قبل كل شيء السجود لله، وقد وصف الكتاب المقدس الذين يرفضون ذلك بأصحاب "الرقاب المتيبسة" مدفوعين بخطيئة الكبرياء؛ أولى الخطايا السبع المميتة. ودعونا لا ننسى أن السيد المسيح قدم نفسه أولاً وقبل كل شيء على أنه "وديع ومتواضع القلب"، وكما في الإيمان يمكن للمرء في العمل أن يتصنع التواضع ويخفي غروره عن الآخرين.
بالنسبة لنيل بورتون؛ الفيلسوف والطبيب النفسي الإنجليزي وكاتب مقالة "هل يجب أن نكون متواضعين؟" (Should we be humble?).
فإننا قد لا نتمكن من التفريق بين التواضع الحقيقي والتواضع الظاهري لأن المظاهر خادعة، ففي معظم الأحيان يبدو التواضع الظاهري حقيقياً رغم أنه حالة خارجية وسطحية ولا تنطوي على العمق والجوهر الذي يتميز به التواضع الحقيقي. وبينما قد يُظهر التواضع الظاهري حُسن خلق صاحبه، فإن الشخص المتواضع بحق قد يبدو للآخرين متعجرفاً في الطريقة التي يعبر بها عن نفسه.
ويذهب نيل بورتون إلى أبعد من ذلك في نقده للتواضع الظاهري؛ إذ يوضح أنه غالباً ما ينطوي على مهارة في التظاهر وربما حتى النفاق أو الزيف في بعض الأحيان.
بالنسبة إلى المعالجة ومختصة التحليل النفسي آن ماري بينوا، فإن القدرة على التواضع ترتبط بالنرجسية الحميدة لدى الفرد. وتقول: "رغم أن الاستخفاف بالنفس أو صعوبة تلقي المديح قد يدلان أحياناً على تواضع حقيقي، فإنهما يمكن أن يكونا تعبيراً عن نقص عميق في احترام الذات أو مظهراً من مظاهر التواضع الكاذب للتمويه على الأنا المتضخمة، وعلى العكس من ذلك فإن النرجسية الحميدة تحمي المرء من الغرور واستنكار الذات على حد سواء. وتتابع: "إن إدراكك لقيمتك وحدودك يساعدك على العيش في تآلف مع نفسك ومع الآخرين، فلا يكون هنالك مبالغة بالمواهب والصفات ولا انتقاص من قيمتها؛ كما أنك ستكون قادراً على إدراك عيوبك وفهم أنها ليست سبباً للتقليل من قيمة الذات". وجدير بالذكر أنه ليتمكن المرء من التآلف مع نفسه بهذه الطريقة يجب ألا يكون ضحيةً للإهمال أو الاستغلال العاطفي أو الحب المشروط.
يستخدم مختص علم النفس الأميركي كريستوفر بيترسون؛ المؤلف المشارك لكتاب "نقاط قوة الشخصية وفضائلها" (Character Strengths and Virtues) في إحدى مقالاته عبارةً تلخص بوضوح الفرق بين التواضع والتقليل من احترام الذات، فيقول: "التواضع ليس أن تقلل من قيمة نفسك؛ بل أن تفكر فيها بصورة أقل، ويضيف أن الشخص المتواضع بحق لا يستخف بذاته بل هو أكثر فهماً لها ويملك نظرةً أكثر وضوحاً حولها".
التواضع الحقيقي والتواضع الزائف
بالنسبة إلى نيل بورتون؛ تكمن القوة العظيمة للتواضع الحقيقي في أنه يلغي حاجة المرء إلى خداع نفسه أو خداع الآخرين. ويقول: " يقودنا التواضع الحقيقي إلى التعرف على أخطائنا، والتعلم منها، والاعتراف بصفات الآخرين وجهودهم واحترامها دون الشعور بأنها مصدر تهديد لنا. ولأنه أعمق وأكثر ثباتاً من التواضع الزائف، فهو لا "يتحطم" تحت تأثير الضغط أو الظروف. إذا كان من الممكن التظاهر بالتواضع، فإن التواضع الحقيقي يتطلب تنميةً حقيقةً قائمةً على الوعي. تقول آن ماري بينوا: "لا يمكن أن يُبنى التواضع الحقيقي إلا على الوعي الذاتي الذي ينطوي على أكبر قدر ممكن من الخير والصدق" وهو ما يسمح للمرء بعدم الانهيار عند مواجهة الفشل أو الشعور بالجهل، ويسمح له من جهة أخرى بتقدير معرفته وجهله بما فيه الكافية ليقول لنفسه وللآخرين "لا أعرف"، وأن يستخدم هذا الجهل كمحرك للمضي قدماً؛ وهو ما يميز التواضع الحقيقي عن التواضع الزائف بصورة جذرية وفقاً لإريك ألبرت الذي يقول: "ينطوي التواضع الحقيقي على اعتقاد المرء بقدرته الدائمة على التعلم والتطور والتحسن؛ إنه التواضع الذي يحرره من خطاب التقليل من قيمة الذات أو الشعور بأنه لا شيء".
في كتابه "رسالة صغيرة عن الفضائل العظيمة" (Petit Traité des grandes vertus)، يُعرِّف الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل التواضع بأنه "فضيلة واضحة تنشأ دائماً من حب الحقيقة والرغبة في الخضوع لها؛ أن تكون متواضعاً هو أن تحب الحقيقة أكثر من أن تحب نفسك". إن تقدير ما نعرفه ولكن قبل كل شيء ما لا نعرفه، والوثوق بقيمة الذات، يمكِّننا من إيجاد مكاننا بين الآخرين دون الشعور بالخوف أو الاستكانة مدركين لما بوسعنا تقديمه لهم من مشورة ودعم ومعرفة.