ملخص: تحدث الذكريات الكاذبة عندما لا نتذكر الأحداث على نحو دقيق، أو حتى قد نتذكر أحداثاً لم تحدث أبداً. يمكن أن تتكوّن هذه الذكريات لأسباب عدة؛ مثل التأثّر بالمعلومات والأسئلة المطروحة. على سبيل المثال، أظهرت دراسة علمية أن صياغة الأسئلة يمكن أن تغير ذكريات المشاركين عن حادث سيارة. بالإضافة إلى التحيزات الشخصية والعاطفية؛ حيث تؤدي الأحداث المشحونة عاطفياً إلى ذكريات حية لكنها غير صحيحة. أما اضطراب التخيل، فهو يدفع المصاب إلى اختلاق قصص دون وعي لملء فجوات الذاكرة، في حين تشير نظرية الأثر الضبابي إلى أن البعض يميل إلى استرجاع انطباع عام عن التجربة، وليس التفاصيل الدقيقة. وعلى الرغم من أن الذكريات الكاذبة غير ضارة عادةً، فإنها قد تخلّف عواقب وخيمة، مثل الإدانة ظلماً بالجرائم. لتجنّب الآثار السلبية للذكريات الكاذبة، يمكن اتباع بعض الاستراتيجيات، أهمّها التأمّل النقدي أي التشكيك بدقة الذكريات، والتحقق من مصادر خارجية، وممارسة اليقظة الذهنية والتأمل للحد من تأثير العوامل الخارجية في التذكر والحد من التعرض للمعلومات المضللة، واستشارة المختص النفسي.
محتويات المقال
قد تنسى أين وضعت مفاتيح سيارتك، أو ربما ماذا كان عشاء البارحة، لكنك حتماً لا تنسى تلك الذكرى لأول لقاء لك بشريكة حياتك، أو هذا ما تعتقده، إذ بينما تسترجع مقتطفات من تلك الليلة، تفاجئك زوجتك بأن الوقت كان صباحاً وليس ليلاً، وأن الأغنية التي كنتما تسمعانها مختلفة عما تعتقده! ما الذي حدث؟ لماذا تختلف رؤيتكما للموقف ذاته؟
الحقيقة أن ذاكرتك ليست آلة تسجيل، تنتظر تمرير شريط الذكريات لتعرضه كما هو، بل غالباً ما يحدث أن تُخطئ في استرجاعها؛ فتتذكر الأحداث على نحو مشوب ببعض المعلومات المغلوطة، أو حتى قد تتذكر أحداثاً لم تحدث أبداً. مثل هذه الذكريات الكاذبة طبيعية وغير ضارة في الغالب، ومع ذلك، قد يكون لبعض الذكريات الكاذبة عواقب وخيمة، كما في إدانة شخصاً ما ظلماً. فلماذا يختلق البعض ذكريات كاذبة؟ وكيف يمكن مواجهة هذه الحالة؟
ما هي الذكريات الكاذبة؟
هل تذكر تلك المرة التي أقسمت فيها أنك أغلقت الموقد جيداً قبل خروجك من المنزل، أو أنك ضبط المنبه لتذكيرك بموعد الاجتماع، ثم اكتشفت لاحقاً أنك لم تفعل ذلك في الواقع؟ يُعرف هذا النوع من الذكريات بالذكريات المزيفة أو الكاذبة.
ميّز مختص الإرشاد النفسي، عبد الله سافر الغامدي، الذكرى الكاذبة عن ضعف الذكرى كما يلي: "أن يأتي الشخص بذكريات واهية ومختلقة على اعتبار أنها صحيحة، وهي تختلف عن ضعف الذاكرة الذي يحدث للجميع".
أما الباحثة في علم النفس الإدراكي، وأحد أبرز الخبراء في مجال الذاكرة، إليزابيث لوفتس (Elizabeth Loftus)، التي أجرت العديد من الدراسات حول طريقة تكوّن الذكريات الكاذبة، فقد عرّفت مفهوم الذاكرة الكاذبة بأنه: "عندما تعتقد أنك رأيت أو فعلت شيئاً لم تره أو تفعله". وتوضح لوفتس بأن الفرد عُرضة لاصطناع أشياء دون أن إدراك ذلك، لأن ذكرياته قد تتأثر بالمعلومات والأفكار والمعتقدات الجديدة، والتي قد توحي أو تتداخل مع وعيه، مسببة تشوهاً في الذاكرة أو تحريفاً لها.
اقرأ أيضاً: هل يختلق عقلنا ذكريات طفولتنا؟
لماذا قد تظهر الذكريات الكاذبة؟
عندما نتذكر، فإننا نعتمد على مسارين مختلفين ومنفصلين من الذاكرة:
- الذاكرة الدلالية؛ التي تخزن الأسماء والأرقام والتعريفات والحقائق.
- الذاكرة العرضية؛ التي تخزن ذكريات الأحداث الشخصية؛ مثل أول لقاء لك مع صديقك المفضل، أو حادثة سقوطك عن الشجرة، وما إلى ذلك من أحداث ومواقف.
يمكن تخزين الحدث الإدراكي في الذاكرة العرضية بناءً على كيفية إدراكه. على سبيل المثال، يمكن تخزين مشاهدة غروب الشمس الجميل كذاكرة عرضية إذا كانت له أهمية شخصية. في حين تحتفظ الذاكرة الدلالية بالمعارف والمعلومات التي نستخدمها يومياً.
يمكن للذاكرة الدلالية، تخزين المعرفة والحقائق العامة من خلال ربطها بما تعرفه بالفعل. على سبيل المثال، إذا سمعت قائمة من الكلمات المتعلقة بالنوم؛ مثل الفراش الراحة والحلم، فقد تتذكر خطأً سماع كلمة "نوم" حتى لو لم تُذكر. في المقابل، تنطوي الذاكرة العرضية على ذكريات مفصلة للأحداث، بما فيها السياق الذي حدثت فيه.
يؤدي التفاعل بين الذاكرة العرضية والدلالية في بعض الأحيان إلى تشوّهات في الذاكرة. عندما نتذكر حدثاً، يعيد الدماغ بناء الذاكرة من خلال الجمع بين التفاصيل من الذاكرة العرضية والمعلومات ذات الصلة من الذاكرة الدلالية. يمكن أن تؤدي عملية إعادة البناء هذه إلى أخطاء، ما يؤدي إلى ذكريات كاذبة.
اقرأ أيضاً: كيف تسترجع ذكريات الطفولة الدفينة؟
عموماً، تسبب عدة عوامل خللاً في هذه المسارات التي تبني الذكريات، إليك أهمها:
الاستدلال والتأثّر
عام 1974، حاولت لوفتس دراسة تأثير اللغة على تكوين الذكريات الكاذبة في الدراسة التي نشرتها مجلة التعلم اللفظي والسلوك اللفظي (Journal of Verbal Learning and Verbal behavior)، وفيها عرضت مقطع فيديو لحادث سيارة على المشاركين؛ ثم طرحت عليهم عدة أسئلة حول تفاصيل الحادث، مثل:
- "ما سرعة السيارتين لدى تصادمها؟".
- "ما سرعة السيارتين عند تحطمها في الحادث؟".
وجدت لوفتس أن أفراد المجموعة التي طرحوا عليها السؤال الثاني "صيغة التحطم" توقعوا أن تكون سرعة السيارتين أعلى مما هي عليه في الواقع. كما كانت المجموعة ذاتها أكثر عرضة لتذكر الزجاج المكسور من المجموعة الأولى على الرغم من عدم وجوده.
توصّلت لوفتس إلى أن طريقة صياغة السؤال تؤثر في الذاكرة. بعبارة اخرى، يضيف طرح سؤال ما بطريقة معينة، زيفاً إلى الذاكرة، والاعتقاد بتذكر شيء ما لم يحدث فعلاً.
إليك مثال آخر، قد يسألك شخص ما عن لون القناع الذي كان يرتديه اللص خلال محاولته سرقتك: "هل كان أسودَ أم رمادياً؟"، فتجيبه بأنه كان أسود، لكن في الحقيقة لم يكن اللص يرتدي قناعاً، إلا أن الحديث عن قناعه زرع ذكرى غير حقيقية لديك عن حادثة السرقة التي شهدتها.
استنتجت لوفتس أن الذاكرة البشرية لا توثق الأحداث بدقة عالية كما نعتقد، ولا يمكننا استرجاعها كما هي بأي لحظة، وإنما هي كما وصفتها لوفتس، مثل صفحة ويكيبيديا يمكن لأي فرد أن يؤثر فيها كما يرغب.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن لذكرياتنا أن تشكل هوياتنا وشخصياتنا؟ وهل يمكن أن تخدعنا الذاكرة؟
التحيز الشخصي
توصّل الباحثون في دراسة نشرتها دورية آفاق في علم النفس (Frontiers in Psychology)، إلى طريقة لتحفيز ذكريات غير حقيقية تُعرف بنموذج "مهمة دييز-رويديغر-ماكديرموت" (Deese-Roediger-McDermott) أو نموذج "دي أر إم" (DRM). خلال هذا النموذج يقدم الباحثون قائمة من الكلمات ذات الصلة؛ مثل ما يلي:
- الغيتار.
- البيانو.
- الأكورديون.
- الهارمونيكا.
- الفلوت.
بعد قراءة القائمة، يُطلب منهم تذكر أكبر عدد ممكن من الكلمات، ويُسألون عن كلمة غير موجودة فعلياً بالقائمة لكنها مرتبطة بها لغوياً، مثل "كمان". من المثير للدهشة أن المشاركين غالباً ما يعتقدون خطأً أنهم يتذكرون سماعها. كما أشارت الدراسة ذاتها إلى أن هذه الذكريات الكاذبة تبقى غالباً لمدة تصل إلى 60 يوماً.
التحيز العاطفي
التحيز العاطفي هو خطأ منهجي في التفكير، يؤثر على كيفية معالجتنا للمعلومات، وقد يؤدي إلى أفكار أو أحكام غير عقلانية، تكون غالباً في هيئة ذكريات أو معتقدات. يمكن القول أن الأحداث المثيرة عاطفياً (مثل الرعب أو السعادة المفرطة) يمكن أن تؤدي إلى ذكريات حية وواضحة، ولكن من المحتمل أن تكون غير صحيحة، أي أن قدرتنا على تذكر الأحداث معرّضة للخطأ إلى حد كبير.
في دراسة نشرتها دورية العاطفة (Emotion)، تبين أن الأحداث ذات الدلالات العاطفية كانت أكثر قدرة على تكوين الذكريات الكاذبة. وفي تجربة أجرتها لوفتوس، ونشرت نتائجها في دورية حوليات الطب النفسي (Psychiatric Annals)، تبين أن الأشخاص الذين قيل لهم (على نحو غير صادق) إنهم ضاعوا في مركز للتسوق عندما كانوا أطفالاً، تذكروا تفاصيل إضافية لم تُذكر لهم، عندما سئلوا عنها بأسلوب متكرر. وقد دافعوا عن هذه الذكريات الكاذبة لاحقاً، حتى بعد إخبارهم بأنها غير صحيحة.
اقرأ أيضاً: كيف يؤثر القلق في ذاكرتنا ويوهمنا بذكريات زائفة؟
التخيل
الاختلاق أو التخيل هو الكذب الصادق، ويُقصد به تقديم الشخص إجابات خاطئة أو خيالية أو مختلقة عن ذكريات معينة. قد يبدو للوهلة الأولى أنه كذب، لكنه في الواقع يحدث نتيجة خلل في الذاكرة، يُعرف باضطراب التخيل. يعاني المصاب بالتخيل فقداناً في الذاكرة، بحيث يلجأ لاختراع القصص دون وعي لإخفاء فقدان ذاكرته أو ملء الفجوات فيها بالمعلومات المقدمة إليه، والتي قد تكون بيانات غير واقعية.
لا يعد التخيل اضطراباً بحدّ ذاته، لكنه ينجم عن اضطرابات الذاكرة والإصابات واضطرابات الصحة الذهنية، والتي تسبب تلفاً في منطقتين من الدماغ تؤديان دوراً في الذاكرة، هما الفص الجبهي والجسم الثفني.
الأثر الضبابي
تشير نظرية الأثر الضبابي إلى أننا أحياناً نحتفظ بتفاصيل الأحداث كما حدثت، وأحياناً أخرى نركز فقط على جوهر تلك الأحداث. أي أنك عندما تتذكر حدثاً معيناً، لا تولي دائماً اهتماماً للتفاصيل الدقيقة، بل تميل إلى استرجاع انطباع عام عن التجربة.
تستند الذكريات الدقيقة، إلى نقل الحقائق كما هي، بينما تركز الذكريات الضبابية على كيفية تفسيرك لتلك الأحداث، وتعكس كيف تختصر المعلومات وتبسّطها لتسهيل استرجاعها وفهمها لاحقاً.
على سبيل المثال، إذا شاهدت فيلماً، فقد تتذكر الشعور العام الذي تركه الفيلم في نفسك أو الرسالة الرئيسية التي حاول إيصالها، بدلاً من تفاصيل الحوار أو مشاهد معينة.
ما هو تأثير الذكريات الكاذبة؟
على الرغم من حسن نوايا من يمر بتجربة الذكريات الكاذبة، فقد تكون لها مجموعة من التأثيرات التي تتباين في شدتها، إذ قد تؤثر في اتخاذ القرارات في الحياة اليومية؛ سواء في المنزل أو العمل. مثل:
- تغير العادات الصحية: يمكن أن تؤثر الذكريات الكاذبة على السلوكيات الصحية. على سبيل المثال، في الدراسة المنشورة في دورية علم النفس المعرفي التطبيقي (Applied Cognitive Psychology)، أوحى الباحثون للمشاركين بذكريات كاذبة حول إصابتهم بالمرض بسبب تناول طعام معين، فتجنبوه في المستقبل. يمكن استخدام هذه التقنية لخلق تأثير عكسي، مثل التحفيز على ممارسة التمارين الرياضية، وتخفيف القلق وعلاج الصدمات النفسية.
- اتخاذ القرارات المعقدة: يمكن أن تؤدي الذكريات الكاذبة إلى تعقيد عمليات اتخاذ القرار. حيث قد يتذكر الناس خياراتهم السابقة على نحو خاطئ، ما يدفعهم إلى اتخاذ قرارات سيئة في المستقبل.
- العواقب القانونية: قد تؤدي الذكريات الكاذبة إلى إدانات أو اتهامات خاطئة، نتيجة إفادة شهود العيان غير الدقيقة.بما فيها جرائم الاعتداء الجنسي والقتل.
كيف تتجنب الوقوع في فخ الذاكرة المزيفة؟
قد تعتقد أنك محصن ضد هذا النوع من الذكريات، وتثق تماماً بذاكرتك، لكن الدراسة المنشورة في دورية وقائع الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم (Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America) تبين أن كل شخص لديه ذكريات كاذبة، بما يشمل أولئك الذين يتمتعون بذاكرة ذاتية فائقة التفوق، ولتجنب مثل تلك الآثار السلبية للذاكرة المزيفة، ثمة بعض الاستراتيجيات التي قد تساعد على منع تشكل الذكريات الكاذبة أو التمييز بين الذكريات الحقيقية والذكريات الكاذبة، إليك أهمها:
- التأمل النقدي: أي شكك بانتظام في دقة ذكرياتك، بتفاصيلها ومدى توافقها مع حقائق معروفة.
- التحقق الخارجي: ابحث عن أدلة أو استشر الآخرين لتأكيد تفاصيل ذاكرتك. يمكن أن تساعد مقارنة ذكرياتك بمصادر خارجية، مثل الصور أو المستندات أو روايات أشخاص آخرين، في التحقق من دقتها.
- ممارسة اليقظة الذهنية والتأمل: تعزز اليقظة الذهنية والتأمل الوعي باللحظة الحالية، وتقلل ممارسة اليقظة الذهنية والتأمل.
- الحد من التعرض للمعلومات المضللة: يمكن تحقيق ذلك بالاحتفاظ بمذكرات تتضمن جدول زمني يوثق الأحداث بالتفصيل.
- استشارة المختصين: يساعدك المختص النفسي على كشف الذكريات الكاذبة ومعالجتها، باستخدام تقنيات مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT) الذي يسهم في فحص الأدلة وسياق ذكرياتك.