كيف يمكن أن يدفعك القلق الشديد إلى السعي الدائم للإنجاز الفائق؟

6 دقائق
الإنجاز الفائق

لا يأتي تقييم الأداء السنوي إلا ويندرج به اسم عُمر كأحد أبرز الموظفين وأكثرهم إنجازاً واهتماماً بتفاصيل العمل التي ترقى لمستوى الكمال في كثير من الأحيان، حتى أصبح الأمر معتاداً لكل من حوله. وليس من الغريب أن اسمه كان مدرجاً دائماً خلال المراحل الدراسية المختلفة في قائمة الطلبة المتفوقين؛ كما أن ذلك الشاب دائمُ السعي للحفاظ على جودة علاقاته الاجتماعية ويُظهر اهتماماً بالاطلاع على العديد من المجالات -بخلاف عمله الرئيسي- ويمتلك هوايات مختلفة يحاول أن يبلي فيها بلاءً حسناً.
تلك هي الصورة الذهنية لهذا الشاب في عقول مَن يتعاملون معه؛ الصورة التي يرغب في الظهور بها وترسيخها لديهم. قد يراه البعض في هذه الصفات الكمالية متكلفاً، وقد يراه آخرون عبقرياً؛ لكن هناك إطاراً آخر يمكن أن تندرج تحته هذه الشخصية يُظهر جانباً قد يغفل عنه الكثيرون؛ وهو "الشخص فائق الإنجاز شديد القلق".

ما هو الإنجاز الفائق؟ وكيف يختلف عن الأداء المرتفع؟

يشير رئيس تحرير مجلة الشباب والمراهقة ودورية أبحاث المراهقين، الأستاذ روجر ليفيسك (Roger J. R. Levesque) في كتابه "موسوعة المراهقة" (Encyclopedia of Adolescence) إلى الإنجاز الفائق بأنه الأداء بمستوى أعلى من المتوقع بناء على القدرات والظروف المحيطة والأدوات المتاحة.

ويختلف فائقو الإنجاز عن أصحاب الأداء المرتفع في عدة نقاط، فهم يركزون على الوصول إلى النتيجة النهائية أكثر من تركيزهم على العمل خطوة بخطوة؛ حيث يتمحور شعورهم بالإنجاز حول الوصول إلى النهاية مهما بلغت صعوبة الأمر ومتطلباته التي قد تبدو مستحيلة وفقاً للمؤلفة واختصاصية إعادة التأهيل النفسي، كندرا شيري (Kendra Cherry).

على الجانب الآخر، يركز أصحاب الأداء المرتفع على تحقيق أهدافهم؛ لكنهم يهتمون أكثر بمدى جودة أدائهم، فالنجاح لا يعني فقط الانتهاء في الوقت المحدد أو إنجاز مهام معينة من قائمة الأعمال. بدلاً عن ذلك؛ يتعلق الأمر بالعمل ككل، ومدى نجاح المشروع، ومقدار التعلم على طول الطريق.

ويظهر السعي الدائم للإنجاز الفائقفي السياقات المختلفة كما يلي:

1. المدرسة

كثيراً ما يتم تحديد الطلاب فائقي الإنجاز على أنهم طلاب يتفوقون على المعايير المتوقعة لمستواهم العمري. وغالباً ما تتم مقارنتهم مع من يعانون من نقص في التحصيل الدراسي، والذين يكون أداؤهم أقل مما يتوقعه المعلمون بحسب دراسة من جامعة أليكانتي الإسبانية (University of Alicante).

وتؤثر هذه التصنيفات كثيراً في كيفية معاملة هؤلاء الطلاب من قِبل معلميهم، وكذلك أدائهم في المدرسة. فقد يواجه الطلاب الذين تم تصنيفهم على أنهم فائقو الإنجاز توقعات أعلى من معلميهم، في حين أن الذين يُنظر إليهم على أن تحصيلهم منخفض قد لا يتلقون الدعم والتوجيه الذي يحتاجون إليه للنجاح في المدرسة.

2. العمل

تشير دراسة من مركز ماكليلاند للأبحاث والابتكار التابع لمجموعة هاي غروب في بوسطن (Hay Group's McClelland Center for Research and Innovation) إلى ميل الأشخاص الذين يفرطون في السعي للإنجاز إلى أن يكونوا ناجحين للغاية في حياتهم المهنية.

في الأدوار القيادية، يمكن اعتبارهم قساةً وديكتاتوريين بسبب توقعاتهم المرتفعة للغاية من أفراد الفريق؛ حيث يلتزمون بمستوىً عالٍ يكاد يكون مستحيلاً، ويميلون إلى تطبيق الدرجة نفسها من الالتزام والتوقعات على مرؤوسيهم.

قد يحترم أعضاء الفريق الآخرون ذلك؛ لكنهم قد يشعرون بأنهم مثقلون بثقل هذه التوقعات على المدى الطويل ما يُشعرهم بالإرهاق.

3. الحياة العائلية والاجتماعية

بالإضافة إلى ما سبق؛ يمكن للأشخاص فائقي الإنجاز الانخراط في هذا النوع من السلوك مع أسرهم أيضاً، فقد يكونون دائمي السعي ليكونوا آباء وأمهات مثاليين، وكذلك في ممارسة الهوايات والأعمال المنزلية، وغيرها.

على سبيل المثال؛ قد يتعامل الشخص الساعي للإنجاز الفائق الذي يشارك في نشاط رياضي مجتمعي مع هذا الدور بجدية أكبر بكثير من المشاركين الآخرين، ويعمل بكد للتأكد من أن أداءه أفضل بكثير من أي شخص آخر في الفريق.

اقرأ أيضاً: متلازمة البط: أن تكافح من أجل البقاء!

6 سمات أساسية للشخص فائق الإنجاز كثير القلق

لا شك في أن السعي إلى النجاح والإنجاز أمر صحي وجيد؛ لكن في كثير من الأحيان تضر محاولة تحقيق ذلك مع إغفال دافعه الحقيقي المدمر؛ وهو القلق الشديد الذي يمكن أن يدفع الشخص للسعي إلى الإنجاز الفائق دون توقف ما يؤثر سلباً في صحته النفسية، وبدلاً عن أن يكون السعي للإنجاز حافزاً يصبح مدمراً.

وتشير أستاذة علم السلوك والطبيبة، كريستين لي (Kristen Lee) في مقالها إلى عدد من صفات الشخص فائق الإنجاز كثير القلق كما يلي:

1. الالتزام بأعلى المعايير ثم انتقاد الذات عندما لا ينفذها بسرعة ودقة

من الطبيعي أن نشعر بشيء من الإحراج تجاه تصرفاتنا الحمقاء وأوجه قصورنا. ومع ذلك، فإن الأشخاص فائقي الإنجاز يميلون إلى توبيخ أنفسهم لفشلهم في الارتقاء إلى مستوى توقعاتهم العالية بشكل مفرط. فقد يضعون أهدافاً يستحيل تحقيقها، ثم يتهمون أنفسهم وينتقدونها لفشلهم في الارتقاء إلى مستوى هذه المعايير التي يتعذر الوصول إليها من الأساس!

يقترن هذا النوع من السعي الدائم للإنجاز بالخوف من الفشل، ويصبح مصدراً للتوتر والقلق والتشكيك الذاتي في القدرات.

2. الاعتماد على تأييد الآخرين والأوسمة لتغذية تقدير الذات

في هذه الحالة، يكون لدى الفرد تقدير ذاتي مشروط كما أنه غالباً ما يكون مدفوعاً بالخوف من خذلان الآخرين أو الظهور بمظهر ضعيف أو غير كفؤ. يكون ذلك باعثاً على القلق، وينصب تركيزه على تجنب النتيجة السلبية (الفشل) بدلاً عن تحقيق نتيجة إيجابية (تحقيق الهدف المنشود).

غالباً ما يؤدي هذا النوع من السلوك إلى الضيق والقلق والمشاعر السلبية التي بدورها يمكن أن تؤثر سلباً في الثقة بالنفس وتقدير الذات.

3. الحاجة الملحّة إلى العمل الدائم والارتقاء في المناصب

العمل دون استراحة إحدى صفات الأشخاص فائقي الإنجاز القلقين، وقد يصبح هذا السلوك مزمناً لديهم ويكونون غير قادرين على "إيقافه" والاسترخاء؛ ما يجعلهم يضغطون بشدة على أنفسهم مع عدم الالتفات لكيفية تأثير ذلك في صحتهم الجسدية والنفسية.

4. عدم الرضا عن الأداء وإهمال الاحتفال بثمار العمل

يميل فائقو الإنجاز إلى الاعتقاد بأن الشيء الوحيد المهم هو الوصول إلى النتيجة النهائية، ويحكمون على أنفسهم وفقاً لهذا المعيار؛ كما أنهم يعتقدون أن الآخرين يحكمون عليهم بنفس الطريقة أي أن إنجازهم هو مقياس لمدى جدارتهم.

وبوصولهم إلى النتيجة النهائية التي يريدونها؛ يشعرون بالارتياح لأنهم لم يفشلوا لكنهم لا يشعرون بالفخر أو الفرح بإنجازهم؛ بل يستمر القلق الشديد في استنزافهم بشأن ما يجب عليهم إنجازه لاحقاً والمصاعب التي سيواجهونها.

كذلك، فهم يهملون إلى البقاء في اللحظة الحالية والاستمتاع بها لأنهم دائمو القلق بشأن المستقبل والأشياء التي قد تحدث أو لا تحدث لاحقاً.

5. السعي الحثيث للكمال

قد يصبح الأشخاص فائقو الإنجاز في بعض الأحيان قلقين للغاية من ألا يكونوا مثاليين، فعدم الكمال بالنسبة لهم هو علامة على الفشل، لذلك فهم يبذلون أي جهد للحفاظ على صورتهم المثالية. لكن هذه المثالية المفرطة قد تصبح مصدراً للتوتر والقلق؛ ما قد يؤدي إلى اندلاع انفعالات عاطفية عندما لا تسير الأمور وفقاً للخطة.

6. عدم الاكتفاء بالنجاحات المحقَّقة

بالإضافة إلى العمل الجاد بشكل عام؛ يشارك فائقو الإنجاز في العديد من المشاريع غالباً، فلا يشعرون بالرضا عن كونهم ماهرين في مجالات محددة؛ يريدون النجاح في كل شيء.

في المدرسة، من المحتمل أن يشاركوا في كل نادٍ أو منظمة أو نشاط يمكنهم القيام به. وفي العمل، يمكن أن يتطوعوا في العديد من المشاريع أو المهام التي يمكنهم المشاركة فيها. لكن لسوء الحظ، فبدلاً عن أن يصبحوا بارعين في العديد من المهارات؛ قد ينتهي بهم الأمر إلى عدم الكفاءة في أي شيء بالإضافة إلى الشعور بالإرهاق.

اقرأ ايضاً: هل ترغب في علاقات اجتماعية وعملية ناجحة؟ عزز ذكاءك العاطفي

ما أسباب السعي إلى الإنجاز الفائق؟ وكيف يمكن إبقاؤه أمراً صحياً؟

يشير ليفيسك في كتابه أيضاً إلى أسباب السعي للإنجاز المفرط والذي يمتد بجذوره إلى مرحلة الطفولة والمراهقة.

ففي السياق الأكاديمي، في حين يبدو أداء الطلاب الذين يتمتعون بذكاء عالٍ متماشياً مع توقعاتهم المبنية على قدراتهم الحالية بسبب الرضا عن النفس أو لأسباب أخرى، فإن الطلاب الذين يمتلكون قدرات أقل لديهم دافع أكبر للسعي الصحي لتحقيق الكمال والسعي للإنجاز الفائق؛ كما أن الحساسية تجاه الأقران ومقارنة النفس بهم يمكن أن تسهم في تعزيز الرغبة في الإنجاز الفائق.

لذلك يمكن تحديد دوافع السعي إلى الإنجاز الفائق في هذه المرحلة في أمرين: إما أنها تنشأ من المراهقين أنفسهم، أو أنها تنبثق من الأفكار والمواقف التي غرسها الآباء أو المعلمون فيهم.

في هذا السياق، توضح لي في مقالها دور طريقة تنشئة الفرد في سعيه بكد ليكون فائق الإنجاز شديد القلق. وتوضح إن الوالدين قد يحمّلون الطفل فوق طاقته بأن يبدأ كل شيء مبكراً وبسرعة؛ يقرأ مناهج دراسية أكبر من سنّه، ويشترك في العديد من الرياضات في نفس الوقت، ويفكر في الكلية التي يود أن يلتحق بها وهو لا يزال في المراحل الدراسية الأولى، وغيرها من الأشياء التي يقيّم بها الآباء جودة أداء أطفالهم، وهي مقاييس مرتفعة للغاية.

وتوضح إن هذه المعايير ضارة ويمكن أن تؤثر سلباً في صحتهم النفسية؛ كما أنها قد تحرمهم من تعلُّم مهارات التأقلم الصحية وتطويرها.

وللتغلب على النتائج السلبية للسعي الحثيث إلى الإنجاز الفائق مع الحفاظ على روح السعي للنجاح؛ تقدم لي عدداً من النصائح كما يلي:

  • تحديد الأولويات والمعايير الأساسية والعمل وفقاً لها، مقابل الاضطرار إلى القيام بكل شيء بشكل مثالي طوال الوقت.
  • احتضان نقاط القوة والضعف معاً، ورؤية الأخطاء كدروس مستفادة واستخدامها كمحفز للنمو.
  • اتباع نهج طويل الأمد قائم على التعلم بدلاً عن الشعور المزعج بالإلحاح للوصول بسرعة إلى القمة.
  • مناقشة حالات عدم الأمان علانيةً مع الأشخاص المقربين، وطلب المساعدة عند الحاجة.
  • تحديد أهداف معقولة ومحاولة التكيُّف عندما لا تسير الأمور كما هو مخطط لها.
  • الانخراط في ممارسات التعاطف مع الذات والرعاية الذاتية، وتجنب الأفكار المدمرة غير المفيدة والمقارنة المستمرة والتنافس الدائم.
  • إدراك أن القيمة الحقيقية تكمن في القدرة على الإسهام بشكل إيجابي في المهام والأنشطة، وليس الانغماس بشكل كامل في كل منها.
  • الانتقال من التركيز على الـ "أنا" إلى الـ "نحن"، وكذلك التركيز على الإنجاز من أجل المساهمة الجماعية، وليس التقدم الفردي فقط.

اقرأ ايضاً: كيف أتعامل مع زميل العمل الغيور؟

إن بريق كلمتيّ النجاح والإنجاز لا يُضاهى؛ لكن الطريقة المتَّبعة للوصول إليهما والحفاظ على مكانة مرموقة ينبع من التشجيع على التميز، واستخدام قدرات الفرد ومهاراته التي تميزه حتماً دون صب الاهتمام على المقارنة والتنافس والسعي نحو الكمال الذي يرهق العقل ويدعو الفرد للتلفت الذي يعيق وصوله إلى أهدافه الحقيقية.

المحتوى محمي