جُبِلت طبيعة الإنسان على التعقيد والتعدّد إذ تتحكم فينا وتسكننا كيانات وأصوات كلّ منها يلائم جانباً من جوانبنا المعُقدة الكثيرة، وبالتالي فإن التعرف إلى هذه الشخصيات ومساءلتها يساعدان على تقبّل الذات.
في سنة 1980، قام كلّ من هال ستون وسيدرا ستون بوضع أساس مفهوم الشخصيات الفرعية (subpersonalities) النفسي في أثناء استحداثهما طريقة الاستكشاف الاستبطاني (Introspective method) عن طريق الحوار الداخلي (Voice Dialogue).
وتوضح المدربة المتخصصة في السيوفولوجيا، لطيفة غالّو ذلك بقولها: "يسمح ذلك بالتعرف إلى مختلَف جوانب شخصياتنا وأصواتنا الداخلية، فمجرد إدراكنا أننا خليط من عدة شخصيات يجعلنا نكفّ عن اختصار أنفسنا في سمةٍ واحدة، وهكذا يصير بوسعنا سبر أغوار ثرائنا الدّاخلي وتقبّله.
على صعيد آخر، فكل شخصياتنا الفرعية بمثابة آلية دفاع من صُنع أذهاننا غرضها هو حمايتنا. يخرج الطّفل إلى هذا العالم ضعيفاً وهشّاً، ففي حال وجد نفسه في كنَفِ أسرة مُتسلطّة وصارمة سيطور شخصية فرعية "مطيعة" كي يحظى برضا وحب أبويه؛ لكن إذا كانت شخصيته الفرعية المقابلة وهي "المتمرّدة" مُعرّضةً للكبت فإنه سيبقى خاضعاً منقاداً للناس ومنصاعاً للأحداث طوال حياته، فيما سيخلق هذا الجزء المكبوت داخله صراعاً داخلياً يسبّب له آلاماً جسدية ونفسية على المدى البعيد".
وهنا تكمن أهمية إخراج هذه الجوانب من ذواتنا من الظلّ إلى النور، لا سيما إذا كان الأمر كما تعبّر عنه لطيفة غالّو: "كلما تعرّضت إحدى الشخصيات الفرعية للتهميش والتجاهل صار خروجها عن السيطرة وراداً في أوقات الأزمات؛ لكن في المقابل لو تقبّلناها فستنخفض احتمالية رغبتها في الظهور بطريقة سلبية".
تعرّف إلى شخصياتك الفرعية الأساسية
الشخصيات الفرعية التي تُعرب عن أنفسها بوضوح والأكثر نشاطاً هي تلك التي تظهر على السطح بشكل دوري؛ وبالتالي يمكن أن نعتبرها النواة والأساس الصلب لشخصيتنا. دوّن قائمة من صفاتك الإيجابية والسلبية وكأنها شخصيات: الواعية والمتطلبة والمبتهجة والحساسة والمنظمة والمِقدامة والمُتحكّمة والكريمة والمتعاطفة. لا تطلق حكماً لا بالإيجاب أو السلب على طبيعة هذه الصفات؛ بل عوضاً عن ذلك افتح حواراً معها.
اطرح الأسئلة الآتية على كل شخصيةٍ منها على حدة ثم دوّن أجوبتها:
- منذ متى وأنت موجودة؟
- في أي ظروف تظهرين بشكل أكثر وضوحاً؟
- ما هي نواياك الحسنة؟
ثم أجب عن الأسئلة الآتية:
- أيّ شخصية فرعية هي الطّاغية عليك؟
- في أي ظروف تظهر؟
- أي طاقةٍ تنشر حين تكون هي المُتسيِّدة؟ فكّر في المشاعر التي تعتري جسدك والأحاسيس التي تُولِّد فيك.
- هل ثمة شخصيات فرعية أساسية التي بالغت في تطوّرها؟ على سبيل المثال الشخصية الفرعية النشطة التي قد تقودك إلى الإنهاك بسبب نشاطها المبالغ فيه.
تعرّف إلى شخصياتك الفرعية المقابلة
إنها تقف على النقيض من شخصياتك الفرعية الأصلية، فإذا كانت الشخصية الفرعية الأساسية مُتطلبة فمقابلتها مُتساهلة، وإذا كانت الأساسية كريمة فمقابلتها أنانيّة. بعد ذلك انتقل إلى طرح هذه الأسئلة على كلّ واحدة منها:
- هل حصل وأعرَبت عن نفسها سابقاً؟
- كيف؟ وتحت أي ظرف؟
- بماذا قوبلت حين ظهرت في وسط الأسرة أو بيئة العمل أو مع الشريك أو بين الأصدقاء؟
- ماذا ستجني من وراء السماح لها بالظهور بشكل أكثر وضوحاً؟ على سبيل المثال: " لو أني متساهل قليلاً من وقتٍ لآخر سأكون أكثر استرخاء".
الشخصيات الفرعية التي لا نعترف بها تُكبَت إما لأنها قوبلت بالرفض من طرف الشخصيات الفرعية الأساسية أو من طرف المجتمع. ولهذا تظهر بشكلٍ صارخ في الأزمات أو تحت الضغط أو أثناء عملية الإسقاط النفسي؛ أي حين نرى في الآخر العيوب التي نعمى عن رؤيتها في أنفسنا، وذلك لا يصبّ في مصلحتنا بالتأكيد.
ومن هنا تنبع أهمية حَصر هذه الشخصيات وفهم عُمقها لتسخيرها لمصلحتنا، فلو أن إحدى شخصياتك الفرعية على سبيل المثال "متواضعة" فإن نقيضتها ستكون الشخصية "المغرورة". وإذا تم تجاهل هذه الشخصية الفرعية سيجعل ذلك منك شخصاً تسهل السيطرة عليه ويهاب المواجهة.
حين تبدأ بالتمييز بين هذه الشخصيات الفرعية، اطرح هذه الأسئلة على نفسك بخصوص كل واحدة منها:
ما الذي لا يروقك فيها؟
كيف يمكن أن تعود عليك بالنفع؟ على سبيل المثال: " إذا استعضْت بالغرور عن تواضعي يمكن أن أكسر صورة الشخص اللطيف التي كوّنها الآخرون عني".
بماذا سيعود عليك تركها تظهر بشكل أكبر؟ على سبيل المثال: "لو أني تحليّتُ أحياناً بالغرور أكثر كنت سأحظى باحترام أكبر، وكنتُ سيِّدَ القوم أيضاً لا فقط خادِمَهُم"، ولتحول دون تحوّل "المتواضع" إلى "راضخٍ" لأهواء الآخرين، افتح حواراً مع هذه الشخصية واطلب معها أن تتراجع قليلاً لتفسح المكان للمغرورة. أخرج المزايا المدفونة لشخصياتك الفرعية الخبيئة.
تعرّف إلى شخصياتك الفرعية الدّفينة
هي مزاياك ومواهبك التي لم تلاقي التقدير أو التشجيع فتوارت إلى الظلّ. دوّن اسم شخصٍ أنت مُعجب به، سوء أكان من المشاهير أو الأقرباء، ثم عدّد ما يسحرك فيه ويعجبك. اكتب كل ذلك بضمير الغائب: "هي أو هو" ثم اقرأ بصوت مرتفع مواهبه ومزاياه ولكن هذه المرة بالانتقال إلى ضمير المتكلم: "أنا".
المواهب والمزايا التي نحبها عند الآخرين هي في النهاية مزايانا نحن، وإن كانوا يتمتّعون بها بشكل أكبر. إذ من شأن إعجابنا بإبداع ليوناردو دافنشي أن يشير إلى امتلاكنا موهبة فنية شبيهة، وإن لم نكن على نفس القدر من البراعة.
اسأل مزاياك الدفينة كيف يمكن أن تعرب عن نفسها، وفي أي مجالٍ وبأي إيقاع، وأي حيّز تريد أن تشغله في حياتك. حاول أن تضع يدك على الحواجز الداخلية التي تجعلك تحجم عن ذلك، فهل تخشى مثلاً تغيير الصورة التي كوّنها الآخرون عنك؟ هل تفعل ذلك نتيجة تدنّي ثقتك في نفسك؟ تقبّل هذه الجوانب في شخصيتك وتصالح معها.
واجه عيوبك
يمكن للشخصيات الفرعية المدفونة أن تكون ضعفاً أو هشاشة أو قصوراً نرفض الاعتراف به، سيتسبب في ضيق وصراعات داخلية وتعقيدات في علاقاتنا. دوّن اسم شخصٍ يسبب لك الضيق بشكل خاص، عدّد ما يزعجك فيه؛ كلّ عيوبه وصفات شخصيته المُستفِزّة، فنحن نسقط على الآخر مزايانا المكبوتة كما عيوبنا المُخجِلة كذلك.
حلّل وضع هذا الشخص وأنت تعتبر عيوبَه عيوبَك أنت التي تخبّئها. ذلك أن ادعاءاتنا السلبية التي نفترضها في الآخرين هي في مجملها مناقص نرفض أن نراها في أنفسنا. لا تتحمّل نفاقه؟ مع أن الحياة داخل أي مجتمع لا تخلو من النفاق! حاول أن تجد الحالات التي كنتَ فيها منافقاً ولو بشكل طفيف ثم اسأل:
- ماذا يكشف نفورك من هذه الخصلة عن تاريخك الخاص وماضيك؟
- إلى أي حقيقة تريد أن تصل؟ وممن؟
- هل مررت بتجربة كان النفاق فيها سبب معاناة لك؟
- أو على العكس: من يطالبكم بالحقيقة والشفافية والصراحة ويُكرهكم على الاعتراف بكل شيء؟
وفي قبولنا لهذا الجانب المكبوت منا، نصير أكثر تسامحاً مع الآخرين. فور أن تُنهي هذه التمارين انتقل إلى مطالعة أسئلتك وأجوبتك وواظب على العودة إليها. بذلك ستنجح مع مرور الوقت في دمج شخصياتك الفرعية والالتئام بذاتك.