من منا لا يجد متعة خاصة بالتواجد قرب الشاطئ أو استنشاق الهواء النقيّ القادم من وسط أشجار غابة قريبة من المدينة؟
هذا يمكن فهمه جيّداً، حتى لو لم نطّلع على دراسات علمية تُثبت التأثيرات الإيجابية لتواجدنا بالقرب من الأماكن الطبيعية.
الإدراك العام لفكرة تفاعل الإنسان مع البيئة بشكل إيجابي ليس وليد عصرنا الحديث، فلطالما كانت الطبيعة وجمالها مصدراً لإلهام الفنانين؛ والرسامين والموسيقيين والأدباء.
ما قد يكون جديداً في الأمر هو الاكتشافات العلمية المُتزايدة حول الأثر العلاجي الفعّال للطبيعة في محاربة الاكتئاب وتحسين الصحة النفسية وتعزيز الراحة الجسدية للأفراد.
العلاج البيئي كنهج جديد في علم النفس
العلاج القائم على الطبيعة (Ecotherapy)، ويُسمّيه البعض العلاج البيئي أو العلاج الأخضر، هو مقاربة علاجية تتمثّل في إعادة الاتصال بين المريض و الطبيعة من خلال برنامج مخصص للقيام بأنشطة خارجية منتظمة في الطبيعة يقودها مُتخصّص معتمد وغالباً ما يكون مُعالجاً. وقد برز هذا النوع من العلاجات عبر الجمع بين نوعين من العلوم وهما علم النفس و علم البيئة.
يعتمد علم النفس الإيكولوجي (Echopsychology) على نحو مختلف عن النظريات النفسية الأخرى، على مفهوم أن الأشخاص لا يعيشون بمعزل عن البيئة الطبيعية والأرض، لذا فهم جزء من الطبيعة وليسوا منفصلين عنها.
يظهر ذلك جلياً أكثر مما مضى في السنوات الأخيرة؛ حيث أضحت صحة كوكب الأرض في خطر بسبب التصرفات اللامسؤولة للبشر؛ تلك المُتمثّلة بشكل رئيسي في إزالة الغابات والاستمرار في استخدام الوقود الأحفوري، إضافة إلى نزعة الاستهلاكية.
وبالتالي ترتّب عن ذلك ما نعرفه حالياً بأزمة المناخ الشهيرة؛ والتي تُعتبر دليلاً قاطعاً بلا أدنى شكّ عن العلاقة التفاعلية بين الأرض والإنسان.
وتذهب عالمة النفس ليزلي غراي (Leslie Gray) إلى وصف علم النفس الإيكولوجي كالتالي: "علم النفس الإيكولوجي مجال ناشئ يعترف بأنه لا يمكنك التمتّع بسلامة العقل من دون علاقات سليمة مع بيئتك ".
اقرأ أيضا:
التواصل مع الطبيعة مفتاح شفاء النفس
حتى نفهم كيف يمكن أن يساعد العلاج البيئي فعلاً في تخفيف الأعراض الأكثر تعقيداً للاكتئاب والقلق؛ من الضروري جداً أن نستوعب طبيعة العلاقة التي تجمع بين النفس البشرية والمحيط البيئي.
يؤكد الارتباط البيولوجي الوثيق بين الإنسان والأرض الذي تمّت الإشارة إليه سابقاً أنه حين يعاني عنصر من هذين العنصرين، يتأثر الآخر بالتبَعيّة. وهكذا لا يمكننا أن نتعجّب كثيراً حين يُعاني الإنسان جسدياً وعاطفياً كلما زاد انفصاله عن الطبيعة.
لا بد أن كلّ واحد فينا بات يُدرك القوقعة التي أجبرتنا تكنولوجيا التواصل في حبس أنفسنا فيها. تؤكد عشرات الدراسات المنتشرة كيف نجح فيسبوك في خلق نوع جديد من الاكتئاب وتعزيز الإحساس بالوحدة. أمر غريب فعلاً؛ كيف أن نفس الحاجة الإنسانية للتواصل وتقليص الإحساس بالعزلة التي أدّت لتخليق فكرة مواقع التواصل الاجتماعي في بادئ الأمر، هي التي أدّت إلى تحويل الاكتئاب والوحدة إلى آفة اجتماعية ذات طابع وبائي.
إن الاتصال والتواصل مع باقي الكائنات الحيّة هو مفتاح التطوّر لدى الإنسان، وهو ما يؤدي إلى التوازن في جميع الأنظمة البيئية (Ecosystems)، بدءاً من تلك التي تخص الكائنات الحية الدقيقة (Microorganisms) إلى البنيان النفسي والعاطفي للأفراد.
اقرأ أيضا: علاج الاكتئاب بالتنويم المغناطيسي.
كيف تستعين بالعلاج البيئي لمُعالجة الاكتئاب؟
خلُصت ورقة بحثية بعنوان: "نظرة على دليل أبحاث العلاج البيئي"؛ والتي صدرت سنة 2009 من جامعة "جون كينيدي" (John F. Kennedy University) بكاليفورنيا، بعد اطلاعها على العديد من الدراسات في العلاج البيئي، إلى أن أكثر الموضوعات المتكرّرة في هذه البحوث هو أن الانفصال عن الطبيعة ينتج مجموعة متنوّعة من الأعراض النفسية التي تشمل القلق والإحباط والاكتئاب. وأنه من شأن إعادة الاتصال بالطبيعة التخفيف من هذه الأعراض والمُساهمة بشكل كبير في تعزيز احترام الذات والعلاقة بالنفس.
هناك العديد من الممارسات و الأنظمة العلاجية التي أثبتت جدواها في تحسين المزاج بشكل عام؛ كالتأمّل أو اليوغا على سبيل المثال. إلا أن اضطرابات الاكتئاب بشتى أنواعها ودرجاتها تختلف من شخص لآخر، لهذا قد يجد المصابون ضالتهم في أنواع المُعَالجات المختلفة التي يُقدّمها العلاج القائم على الطبيعة.
لا يتعلق الأمر فقط بمشاهدة صور مناظر الطبيعة أو أخذ صور فوتوغرافية لها، أو الخروج في فسحات إلى الأماكن الطبيعية بين الفينة والأخرى؛ ولو أنه يمكن أن يبدأ من هنا على الأقلّ.
يقترح العلاج البيئي الانخراط في أنشطة متنوّعة بشكل منتظم مثل أعمال البستنة والزراعة المنزلية أو في مساحة مخصّصة مع مجموعة أشخاص آخرين، أو قضاء الوقت مع الحيوانات في مزرعة أو تمشية الكلاب ورعاية القطط أو حتى السباحة مع الدلافين.
لقد أدركت العديد من الحضارات منذ سنين طويلة مدى أهمية الطبيعية لصحة الإنسان. وفي هذا الشأن؛ نجد أن مصطلح الاستحمام الغابوي (Forest Bathing) ظهر في اليابان في الثمانينات، وبات معروفاً عند الغرب بعدها.
يُطلق على الاستحمام الغابوي اسم "شينرين- يوكو" (Shinrin-Yoku) باليابانية، وهو أشبه بترياق ضد الثورة التكنولوجية وما جلبته من عزلة للبشر، إضافة إلى إعادة إحياء الصلات القديمة بين الناس والغابة.
اقرأ أيضا: ماذا يعلمنا طب نمط الحياة عن التعامل مع الاكتئاب؟
فوائد العلاج البيئي
لا يتوقّف الأثر الإيجابي للعلاج المُعتمِد على الطبيعة عند المساعدة على تجاوز الاضطرابات الاكتئابية فحسب؛ بل يتعدّاها إلى تأثيرات تشمل جوانب أخرى من الصحة النفسية وكذلك الجسدية. وفيما يلي الفوائد الأخرى للعلاج البيئي:
1. زيادة النشاط البدني
تُعتبر ممارسة أيّ نوع من الرياضة ضمن مجموعات في الهواء الطلق من ضمن أنواع الأنشطة المُقترحة في برامج العلاج البيئي. يساعد ذلك في زيادة تدفّق الدم، تحسين المزاج ونظام النوم، بالإضافة إلى اكتساب لياقة بدنية عالية.
2. تخفيف التوتّر
بالتأكيد نتفق كلّنا على أن مجرّد التجوّل لبعض الوقت أو التنزّه في الأماكن الطبيعية قد يجعلنا هادئين ومُرتاحي البال حتى لبضع ساعات، فتصوّر كيف يمكن لرحلات شهرية منتظمة إلى منطقة برّية أن تجعل التوتّر والضغط اليومي الذي نواجهه في عملنا وحياتنا يتقلّص بالتدريج، مانحةً إيانا فرصة لمواجهة أعباء الحياة بمرونة وعصبّية أقلّ.
3. تعزيز الصحة الجسدية
قضاء ساعتين في الأسبوع، 120 دقيقة بالضبط، في الحدائق والمساحات الخضراء قادر على تحسين الوضعية الصحية الجسدية لدى الأفراد.
هذا ما أثبتته دراسة صادرة عن المركز الأوروبي للبيئة وصحة الإنسان بجامعة "إكستر" (University of Exeter) سنة 2019. حيث أُجري البحث على 20,000 شخص من بينهم مصابون بأمراض وإعاقات مزمنة.
أظهرت النتائج تأثيرات إيجابية قويّة وتحسّناً في صحة المشاركين الذين استوفوا الحد؛ وهو ساعتان أسبوعياً في الأماكن الطبيعية.
لن يختلف اثنان حول أهميّة إعادة التواصل مع الطبيعة للإنسان المُعاصر الذي اختطفته الثورة الصناعية والمعلوماتية من أحضان أمّه الأرض. وزيادة على ذلك، فكلّ الدلائل العلمية تُشير إلى أنه حان وقت العودة إلى إحياء علاقة ليس لها بديل ولا غنى عنها للإنسان والكوكب معاً، فالطبيعة تُنادينا جميعاً لأن صحتنا النفسية والجسدية باتت على المِحَكّ.
اقرأ أيضا: