هل سبق ووجدت نفسك تتنقل بين تطبيقات هاتفك دون توقف وبلا هدف؟ تبدأ نشاطاً ثم تتركه بعد عدة دقائق؟ تشعر بعدم الرضا حتى في أوقات الراحة أو الترفيه؟ إذا كانت إجابتك "نعم" فأنت لست وحدك، الكثير منا يعاني اليوم ما يسمى بظاهرة الملل السريع؛ ذلك الشعور الغامر بعدم الرضا وفقدان المتعة بسرعة على الرغم من الانخراط في الكثير من الأنشطة. فقد أصبحنا نعيش في عالم يوفر لنا كل شيء فوراً مثل الطعام والحصول على المعلومات والتواصل والترفيه. ومن ثم، تعلمت أدمغتنا توقع التحفيز المستمر، وعندما لا يحدث ذلك، نشعر بالملل السريع والفراغ. ولكن ما هو الحل؟ وكيف يمكن التعامل مع هذه المشكلة؟ الإجابة عبر هذا المقال.
فهم سيكولوجية الملل السريع في العصر الحديث
الملل بصفة عامة هو حالة ذهنية تتسم بفقدان الاهتمام والحافز والتفاعل مع العالم من حولك، وعندما يداهمك الملل، قد تشعر بالضيق والتوتر وعدم الرضا، وقد تعاني أيضاً أعراضاً جسدية مثل التعب والخمول ونقص الطاقة. وعلى الرغم من أن الملل هو شعور طبيعي وشائع يصيب معظم الأشخاص، فإن الملل السريع أضحى قريناً بالعصر الحديث الذي نعيشه.
ففي عصر التكنولوجيا، تغيرت سيكولوجية الملل؛ حيث أصبح سريعاً للغاية ويتسم بعدم القدرة على التركيز على مهمة واحدة، والرغبة المستمرة في الانتقال من مثير إلى آخر دون الوصول إلى حالة الإشباع. فاليوم تستحوذ الأجهزة الإلكترونية على قدر كبير من اهتمام الناس، وبدلاً من التخلص من الملل على المدى القصير، يقضي الكثيرون ساعات طويلة أمام الأجهزة الإلكترونية، وقد تقلل تطبيقات الهاتف الشعور بالملل فترة قصيرة، لكنها على الجانب الآخر تسبب مشكلة أعمق، وهي تضاؤل قدرة الدماغ على التعامل مع شعور الملل.
والآن دعني أخبرك عن العلاقة المعقدة بين الملل والتكنولوجيا الحديثة؛ عندما تتصفح هاتفك باستمرار، تتلقى جرعات صغيرة وسريعة من الدوبامين مع كل فيديو قصير أو إعجاب أو خبر جديد، وهذا التحفيز المستمر يؤدي إلى ما يعرف بـ "إزالة الحساسية"، حيث يرفع الدماغ سقف التوقعات للمثيرات.
ونتيجة لذلك، تصبح الأنشطة الطبيعية مثل قراءة كتاب أو الجلوس في هدوء أو حتى العمل بتركيز وانتباه مملة وبطيئة لأنها لا توفر سرعة الدوبامين وكثافته نفسها التي يوفرها الهاتف. ونتيجة لذلك، فإن التكنولوجيا لم تقضِ على الملل، بل جعلتك أقل قدرة على مواجهته، وأكثر اعتماداً على المثيرات الخارجية لملء أي فراغ زمني، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى ظهور الملل السريع.
اقرأ أيضاً: ما الذي يؤدي إلى الملل المزمن؟ وكيف تتجنبه؟
كيف تتأكد أنك تشعر بالملل السريع؟
يتسم الملل بالشعور بالفراغ، بالإضافة إلى إحساس بالإحباط من هذا الفراغ، وفي بعض الحالات قد يصعب الملل التركيز ويسبب لك التوتر أو تشتت الانتباه، ومن أهم العلامات التي تخبرك بأنك تشعر بالملل هي:
- الشعور بالانفصال أو عدم الاهتمام بما تفعله.
- النظر إلى الساعة باستمرار أو عد الدقائق المتبقية للانتهاء من المهمة التي تنجزها.
- الشرود الذهني.
- المماطلة وتجنب المهام.
- الانخراط في أنشطة لا تتطلب تركيزاً مثل تصفح مواقع التواصل الاجتماعي.
- فقدان الاهتمام بما يدور حولك كله.
- الإحساس باللامبالاة أو الإرهاق أو التوتر أو القلق.
ما هي أهم الأسباب التي قد تدفعك إلى حالة الملل السريع؟
من المهم للغاية أن تتعرف إلى الأسباب التي تدفعك للملل السريع، وذلك لأن هذا الملل يشكل في الكثير من الأحيان حافزاً قوياً يدفعك إلى الانخراط في بعض الأنشطة السلبية من أجل تخفيف وطأته؛ فالأشخاص الذين يعانون الملل المزمن هم الأكثر عرضة لإدمان المخدرات والكحول والمقامرة، ويمكن القول إن أهم الأسباب التي تفاقم شعور الملل هي:
1. تدني القدرة على التنظيم الذاتي للانتباه
يرتبط الملل السريع ارتباطاً وثيقاً بضعف القدرة على التحكم في الانتباه؛ فالشخص الذين يواجه صعوبة في التركيز والانتباه على مهمة واحدة فترة طويلة، غالباً ما يبدأ عقله بالبحث عن مشتتات خارجية بطريقة قهرية، وبمجرد أن يتوقف المشتت عن تقديم إثارة جديدة، يرتد الشعور بالملل فوراً وبقوة أكبر.
2. عدم وجود تحديات جديدة
ربما تكون قد وصلت إلى مرحلة في حياتك تشعر فيها بالملل السريع بسبب عدم وجود تحديات تحفزك؛ سواء بسبب طبيعة عملك الروتينية أو علاقاتك الاجتماعية التي لا تحتوي على ممارسة أنشطة جديدة ومختلفة أو كنت تفعل الأشياء نفسها كل يوم مدة طويلة، وقتها تفقد الحياة متعتها ولهذا تشعر بالملل.
3. فقدان المعنى في الحياة
في جوهره، غالباً ما ينبع الملل من الشعور بأن أنشطتك اليومية تفتقر إلى المعنى أو الأهمية أو الهدف، ففي الوقت الذي تشعر فيه بأن مساعيك في الحياة لا تتوافق مع قيمك أو لا تسبب أي تأثير إيجابي، وقتها سوف تشعر بخيبة الأمل واللامبالاة، ومع مرور الوقت سوف تنجز تلك الأنشطة وأنت تشعر بالملل سريعاً.
4. الإصابة بأحد اضطرابات الصحة النفسية
في بعض الأحيان يكون الملل السريع عرضاً لأحد الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب الذي يجعلك تفقد الشعور بالمتعة والاتجاه والهدف في الهدف. علاوة على ذلك، فإن الملل السريع هو أحد أعراض اضطراب نقص الانتباه وتشتت الحركة، حيث يواجه الدماغ صعوبة بالغة في الحفاظ على الانتباه.
اقرأ أيضاً: هل تشعر بالملل كثيراً؟ هذا السلوك يخلصك منه؟
6 نصائح فعالة تساعدك على التعامل مع مشكلة الملل السريع
بدلاً من الهروب من مشاعر الملل وتفقد وسائل التواصل الاجتماعي باستمرار، ما هو رأيك في تطبيق النصائح التالية من أجل علاج مشكلة الملل السريع:
1. راقب مستوى الملل لديك
حين يداهمك الشعور بالملل، لا تمسك هاتفك على الفور وتبدأ بتفقد الرسائل، لكن عوضاً عن ذلك خصص بعض الوقت لنفسك، واجلس بصحبة الملل، واسأل نفسك هل تشعر بالملل بسبب العمل أم الأسرة أم الهواية التي تحبها؟ عبر عن مشاعرك في رسالة صوتية على هاتفك، أو دونها على الورق، وبعد بضعة أسابيع أو أشهر يمكنك مراجعة الأمر لمعرفة ما إذا كان هناك أي أنماط متكررة.
يمكنك أيضاً استخدام هذه المعلومات لتحديد ما يمكنك فعله حيال الملل. على سبيل المثال، إذا كان عملك يشعرك بالملل الشديد على نحو متكرر، فربما لا تشعر بالتحدي الكافي أو لا تشعر بالهدف. في هذه الحالات، قد يكون الحل هو التحدث إلى مديرك بشأن المهام التي تؤديها أو يمكنك مثلاً أن تطلب الانضمام إلى مشاريع جديدة، أو تعلمك مهارات مختلفة تساعدك على تطوير عملك.
2. تقبل مشاعرك
لا تخف من شعور الملل، فهو جزء طبيعي من الحياة، لهذا حاول أن تتقبله وألا تتجاهله أو تكرهه، بل انظر إليه كفرصة لتجديد نشاط عقلك وتطوير حلول إبداعية للمشكلات. على سبيل المثال، تخيل أنك تجلس بعطلة نهاية الأسبوع، وداهمك الملل، لا تهرب منه ولا تتجاهله، فقط تقبل وجوده واعترف بأنه شعور طبيعي، لذا فأنت لست وحدك، كن لطيفاً مع نفسك ولاحظ ما تشعر به دون أن تحكم على ذاتك.
3. مارس الصيام الرقمي لإعادة ضبط مستوى الدوبامين
يشير مصطلح الصيام الرقمي إلى فترة من الوقت تمتنع خلالها عن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والأجهزة التقنية، وذلك بهدف اكتساب المزيد من التركيز على أداء مهام الحياة الواقعية والأدوار الاجتماعية دون تشتت انتباه. وبما أن التكنولوجيا هي المحرك الأول للملل السريع، فإن أهم خطوة هي تقليل الضجيج الرقمي؛ يمكنك أن تبدأ بتخصيص فترات زمنية قصيرة، ساعة مثلاً قبل النوم أو عند الاستيقاظ بعيداً تماماً عن الشاشات، وهذا سوف يساعد الدماغ على خفض سقف التحفيز المستمر، ما يجعل الأنشطة اليومية العادية تبدو أقل مللاً بمرور الوقت.
اقرأ أيضاً: الصيام الرقمي عادة صحية أم حلم غير قابل للتحقيق؟
4. جرب أنشطة جديدة
لنفرض أنك تعمل في وظيفة لا تحبها أو تقضي ليلة نهاية الأسبوع وحدك في البيت، حين يداهمك الشعور بالملل، جرب نشاطاً جديداً، ما هو رأيك لو غيرت ترتيب أثاث البيت أو خرجت من أجل مقابلة أصدقائك؟ يمكنك أيضاً أن تجرب طهي أكلة جديدة لم تذقها من قبل، وإذا كنت تود تجربة أنشطة لا تتطلب تفكيراً أو مجهوداً بدنياً، شاهد فيلماً من ثقافة مختلفة، أو استمع إلى بودكاست يخص موضوعاً لم تسمع عنه من قبل.
وفي هذا السياق، يوضح استشاري الطب النفسي عبد الإله الحديثي أن قلة الخروج وممارسة الأنشطة تؤديان إلى الجمود النفسي، وهذا الجمود يؤدي إلى تفاقم مشاعر التوتر وانخفاض الدافع، ومن ثم يزداد الثقل والملل لأن الدماغ لا يتعرض لحركة أو ضوء أو تجارب جديدة، لذلك ينصح الحديثي بالخروج والتعرض لضوء الشمس وتجربة أنشطة وهوايات جديدة.
5. أطلق العنان لإبداعك
هل تعلم أن الملل يمكن أن يمنحك فرصة نادرة لمواجهة أفكارك العميقة، كما يتيح لك اكتشاف الأمور التي تهمك حقاً والتي تثير شغفك، وذلك لأن الملل هو الجسر الذي يربط بذاتك بعيداً عن المؤثرات الخارجية التي تملي عليك ما يجب أن تفكر فيه أو ما تشعر به، لذلك في المرة القادمة التي تشعر فيها بالملل جرب الرسم أو التلوين أو حتى كتابة قصيدة أو قصة قصيرة، يمكنك أيضاً تجربة الرقص في غرفتك.
6. مارس الامتنان
رتم الحياة السريع يدفعك أحياناً إلى الركض المحموم وراء تحقيق الإنجازات والنجاحات، ومن ثم أنت لا تملك الوقت الكافي من أجل تأمل الذات، ومع مرور الوقت سوف تفقد الشعور بالرضا والسعادة لأنك تعيش تحت ضغط رهيب، لذلك دعني أقدم لك نصيحة مهمة، حين تشعر بالملل السريع، لا تنجرف مرة أخرى في تيار الحياة؛ تمهل، والتقط أنفاسك قليلاً، وجرب ممارسة الامتنان الذي يعزز الشعور بمعنى الحياة.