تخيل معي أن يطرق أحدهم باب منزلك ويطلب منك التبرع لجمعية خيرية لمكافحة مرض نادر. ربما تتهرب من التبرع بحجة أنك لا تملك ما يكفي من النقود في الوقت الحالي. تخيل الآن أن هذه المنظمة تتصل بك مرة أخرى لتعطيك دبوساً يحمل شعار الجمعية لمكافحة المرض النادر، وتطلب منك ارتداء هذا الدبوس مدة أسبوع للتوعية بهذا المرض. وبعد أسبوعين يعودون ليطلبوا منك التبرع مرة أخرى، قد تجد الآن لديك دافعاً ورغبة داخلية بتلبية طلبهم والمساهمة في حملة التبرع. فما الذي دفعك لتغيير موقفك؟ في الواقع لقد استخدم معك مسؤولو الجمعية إحدى تقنيات علم النفس الاجتماعي لدفع الآخرين للامتثال لرغبتهم، والتي تُعرف بـ "توطئة القدم" (Foot-in-the-Door). فما هي تقنية الإقناع هذه؟ وكيف يمكنك استخدامها لدفع الآخرين للامتثال لطلباتك؟
محتويات المقال
تقنية توطئة القدم: كيف تقنع الآخرين بطلباتك؟
تتضمن تقنية توطئة القدم تقديم طلب أولي صغير من المرجح أن يوافق عليه الشخص، يليه طلب أكبر. والفكرة هي أن الامتثال للطلب الأول يزيد احتمالية الامتثال للطلب الثاني الأكبر. يعود اكتشاف هذه التقنية إلى عام 1966، عندما حاول عالما النفس في جامعة ستانفورد (Stanford University)، جوناثان فريدمان (Jonathan Freedman) وسكوت فريزر (Scott Fraser)، معرفة كيفية حثّ الناس على تقديم الخدمات للآخرين، في دراستهم الشهيرة التي نشرتها مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي (Journal of Personality and Social Psychology).
في الدراسة، تظاهر الباحثان بأنهما ممثلان لمبادرة المواطنين من أجل القيادة الآمنة، والتي تهدف إلى زيادة السلامة المرورية المحلية. وطلبا من أصحاب المنازل في أحد الأحياء وضع لافتات كبيرة أمام منازلهم تحمل عبارة "قُد بآمان" لتذكير السائقين المارة بالقيادة بأمان. لكن اللافتات كانت كبيرة جداً لدرجة أنها كانت ستحجب معظم الحدائق الأمامية والمنازل. لذلك اعترض معظم أصحاب المنازل على هذا التشويه لممتلكاتهم، بينما وافق نحو 17% منهم فقط.
في المقابل، اتباع الباحثان أسلوباً آخر مع سكان حي آخر، حيث تقدما بطلب صغير من السكان قبل أسبوعين، متمثلاً بوضع لافتة صغيرة جداً على النافذة أو سيارتهم مكتوب عليها "كن سائقاً آمناً" (Be a safe driver). وبما أن اللافتة الصغيرة لم تكن مشكلة، فقد وافق معظم أصحاب المنازل. وعندما عاد الباحثان مرة أخرى بعد أسبوعين وطلبوا وضع لوحة إعلانية ضخمة أمام منازلهم، وافق 76% من أصحاب المنازل على ذلك بدلاً من 17%.
اقرأ أيضاً: تقنية فعّالة لتحصل على ما تريد دون أن تطلبه
في تجربة أخرى أجراها الباحثان على ربات المنازل، خططا لزيارة منازل النسوة وطلبا جرد موجودات المطابخ المستخدمة في الطهو والتنظيف. وجد الباحثان أن ربات المنازل اللاتي خضعن لاستبيان قصير قبل الطلب الثاني كنّ أكثر ميلاً للسماح للباحثين بدخول منازلهن.
أثبتت تجارب فريدمان وفريزر، أنك عندما تجعل الشخص يلبي طلبك عدة مرات مسبقاً بطلبات سهلة وبسيطة، فإنك توسّع تصوّره لما هو على استعداد للقيام به، ويصبح أكثر ميلاً للموافقة على طلباتك الأخرى، لأنه بالفعل امتثل لطلبات سابقة.
وفي السياق ذاته، أثبتت التجارب اللاحقة والمماثلة أنه يمكن استخدام تقنية توطئة القدم في العديد من التطبيقات، مثل حث النساء على المشاركة في سلوكيات الصحة الوقائية، كفحوص السرطان، والتبرعات الخيرية، والتبرع لبنك الدم، والعلاج النفسي، والتسويق ومندوبي المبيعات، والحملات الاجتماعية والسياسية، بالإضافة إلى الاستخدام اليومي لها في التفاعلات الاجتماعية.
اقرأ أيضاً: تأثير المتفرج: ما الذي يجعل البعض يمتنعون عن مساعدة الآخرين في المواقف الصعبة؟
الأسباب النفسية لتقنية توطئة القدم: كيف يمكن التحكم بالناس إلى هذا الحد؟
مع هذا الفارق الكبير بمعدل الموافقة في التجارب التي درست نظرية توطئة القدم، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هو كيف يمكن دفع الناس إلى قبول ما هو مرفوض بالنسبة لهم بهذه الطريقة؟ يشير المعالج النفسي، أسامة الجامع، إلى أن البعض قد يمتثلون لطلبات الآخرين أو احتياجاتهم سعياً منهم لأن يكونوا مقبولين وخوفاً من الرفض. ومع ذلك، طرح الباحثون النفسيون نظريتان قد تفسران سبب نجاح تقنية توطئة القدم، وانصياع الأفراد للطلب الثاني على وجه التحديد، وهما:
نظرية الفهم الذاتي
نظرية الفهم الذاتي (Self-perception theory)، مفادها أن الفرد يميل إلى العرض الإيجابي للذات من خلال تقديمها في أفضل صورة. فعندما يوافق على الطلب الأول يشعر بأهميته بالنسبة للآخر وبأنه يقدم يد العون له، ما يدفعه لتلبية طلبه الثاني.
على سبيل المثال، في تجربة اللافتات الكبيرة، عندما سُئل سكان الحي عما إذا كانوا على استعداد لإنشاء لافتة صغيرة لضمان سلامة القيادة على الطريق وإنقاذ حياة الناس، وافق معظمهم بسهولة. إلا أن هذه الموافقة كانت بالفعل كافية لتفعيل الشخصية المساعدة، لذا عندما طُلب منهم مرة أخرى وضع لافتة عملاقة، لم يكن أمام معظمهم خيار سوى الحفاظ على صورتهم الذاتية الإيجابية من خلال الموافقة على الطلب.
ويوضح المعالج النفسي، أسامة الجامع، أن الفرد يميل إلى الحفاظ على صورة إيجابية عنه تقديراً لذاته، حيث يتأثر تقييم الفرد لنفسه من خلال الدور الاجتماعي الذي يقوم فيه، ونوع العلاقات الاجتماعية التي يملكها؛ أي أن الفرد قد يوافق على الطلب الثاني تعبيراً عن أهميته وقيمته الذاتية.
اقرأ أيضاً: احترام الذات: أسباب تدنّيه ونصائح لتعزيزه
الالتزام والاتساق
الالتزام والاتساق (Commitment theory)، من المبادئ الستة التي أنشأها عالم النفس روبرت سيالديني (Robert Cialdini) عام 1984 في كتابه "التأثير: علم نفس الإقناع"، ويُقصد بهذا المبدأ الطريقة التي يريد بها الناس أن تتوافق معتقداتهم وسلوكياتهم مع قيَمهم وصورهم الذاتية. وفقاً لذلك، يميل الفرد إلى الاتساق في سلوكه لسببين هما:
- اعتبار الاتساق سمة اجتماعية جذابة ومؤشراً على أن الشخص عقلاني وجدير بالثقة.
- تبسيط عملية صنع القرار، خاصة مع العدد الكبير من القرارات التي يضطر الفرد لحسمها يومياً، لذا يلجأ لتخفيض عددها عن طريق استخدام القرارات السابقة مرجعاً للخيارات اللاحقة المشابهة.
نتيجة هذا التحيز المعرفي هو أن الفرد يتصرف بطرق تتسق مع أفعاله وأفكاره السابقة، ومع الصورة التي قدمها للآخرين، ومع الصورة العامة التي تكونت في أذهان الآخرين عنه.
في المثال السابق، كانت الموافقة على وضع لافتة صغيرة كافية ليشعر السكان بأنّهم منخرطون في الحملة وملتزمون بها. ونظراً للرغبة في الاتساق، فقد تكوّن لديهم ضغط للتصرّف وفقاً للسلوك السابق. ونتيجة لهذا فإن رفض وضع اللافتة العملاقة كان من الممكن أن يُنظر إليه باعتباره سلوكاً غير متسق، وهو الأمر الذي قد يرغب أغلب الناس في تجنبه.
اقرأ أيضاً: ما هو العلاج بالقبول والالتزام؟ وكيف تمارسه لتجد معنى لحياتك؟
5 نصائح لتطبيق تقنية توطئة القدم وحثّ الآخرين على الامتثال لطلباتك
يمكنك استخدام تقنية توطئة القدم على نحو فعال وأخلاقي، وبما يضمن تلبية الآخرين لطلباتك بكامل إرادتهم باتباع النصائح التالية:
- بناء الثقة: الثقة والاحترام أمران بالغا الأهمية عند استخدام تقنية "توطئة القدم"، إذ عليك التأكد من أن الشخص الآخر يفهم دوافعك وراء الطلبات. تعمل هذه الشفافية على بناء الثقة، ما يجعله أكثر ميلاً للتعاون. على سبيل المثال، إذا كنت تعمل مع فريق، اشرح أسباب طلبك مساعدتهم في مهمة صغيرة أولاً؛ عندما يرون أن نواياك صادقة ومحترمة، فمن المرجح أن يوافقوا على المساعدة في المهام الأكبر لاحقاً.
- احترم حدود الآخر: إن فهم حدود الآخرين واحترامها أمران أساسيان، إذ يجب عليك عدم التلاعب بشخص ما أو الضغط عليه للموافقة على طلباتك. إذا كان غير مرتاح للطلب، فيجب أن تكون مستعداً للتخلي عنه، مع الاعتراف بجهده دون الضغط عليه أكثر. على سبيل المثال، إذا طلبت في البداية من أحد الزملاء مراجعة مستند لك (وهو طلب صغير) ثم طلبت منه لاحقاً تولي جزء كبير من المشروع (وهو طلب أكبر)، فكن منتبهاً لحجم العمل ومستوى الراحة لديه، بما لا يؤخره عن إنجاز مهامه، أو يضغط عليه.
اقرأ أيضاً: كيف تضع حدوداً صحية في علاقاتك مع الآخرين؟
- زد طلباتك تدريجياً: ابدأ بطلب صغير يسهل على الشخص الموافقة عليه، ثم اعمل على زيادتها تدريجياً، لجعلها أكثر قابلية للتحقيق. على سبيل المثال، إذا كنت تجمع التبرعات، فابدأ بالسؤال عما إذا كان بإمكان الآخر التوقيع على عريضة، ثم التبرع بمبلغ صغير، ثم اسأله لاحقاً عما إذا كان بإمكانه التطوع بضع ساعات.
- استخدم التعزيز الإيجابي: أي الاعتراف بما قدمه الفرد وتقديره، وتسليط الضوء على التأثيرات المفيدة جراء امتثاله للطلب الأولي، ما يشجعه على مواصلة سلوكه الداعم، ويعزز دافعه للمساعدة مرة أخرى. كأنْ توجّه له شكراً على تبرعاته وتشرح كيف أحدثت مساهمته تأثيراً كبيراً في توفير مكاتب مدرسية لأطفال محتاجين.
- كن صبوراً: امنح الآخر الوقت الكافي ليشعر بالراحة مع كل خطوة قبل تقديم طلبك التالي إليه، وحتى يرى نتائج تلبيته في الطلب الأولي.