تقنية فعّالة لتحصل على ما تريد دون أن تطلبه

التعامل مع الآخرين
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: محمد محمود)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: عندما يتصرّف الإنسان بأمانة عند التعامل مع الآخرين فإنه يفسر ذلك في الغالب بطبيعة أخلاقه وشخصيته. لكن إحدى الدراسات أثبتت أن هذا السلوك لا يكون دائماً جزءاً من شخصية الإنسان بل قد نحفزه عليه من خلال خداعه ببعض الإجراءات، وإليك تفاصيل ذلك.

ماذا لو كان بإمكاننا خداع الآخرين لتحفيزهم على التصرف بأمانة؟ وفقاً للأبحاث العلمية المنجَزة في علم النفس الاجتماعي؛ فإن بعض سلوكاتنا الذي يبدو عفوياً ظاهرياً، يكون في الحقيقة موجَّهاً باستخدام أسلوب خداع خاص، يسمح للذين يتقنونه بالحصول على خدماتنا حتّى دون أن يطلبوها.

من منّا لم يلجأ يوماً إلى أساليب التحايل من أجل الحصول على ما يريده؟ من منّا لم يتعرّض للتوجيه بذكاء نحو فعل شيء لم يكن ليفعله أبداً بمحض إرادته؟ نحن جميعاً مخادعون أو عرضة للخداع دون وعي.

يوضح أستاذ علم النفس الاجتماعي والمؤلف المشارك في كتاب “بروتوكول الخداع المختصر للأشخاص النزهاء” (Petit traité de manipulation à l’usage des honnêtes gens)، روبير فنسنت جول (Robert-Vincent Joule): “التأثير في الآخرين من صميم الحياة الاجتماعية، فبمجرد أن يلتقي شخصان فإنهما يشرعان في تبادل التأثير، سواء لأغراض الخير أو الشر”.

كيف يمكن توظيف الخداع لخدمة الأمانة؟

هل يمكن أن نوظف سلوك الخداع مع الأشخاص الأمناء؟ للإجابة عن ذلك سنعود إلى تعريف قاموس لاروس الفرنسي (Larousse) لنجد أن مصطلح الخداع (La manipulation) يعني: “توجيه سلوك شخص معين أو مجموعة من الأشخاص نحو الاتجاه الذي نرغب فيه دون أن يشعروا بذلك”. إنه إذاً استخدام واعٍ لأساليب الإقناع لا أقل ولا أكثر.

لا شيء يشير في هذا التعريف إذاً إلى طابع الخبث باستثناء تلك العبارة التي تخفي معنى من معاني التلاعب في قوله: “دون أن يشعروا بذلك”. وإذا استندنا إلى المنطق السليم سيظهر أن المخادع شخص ذكي للغاية يخطط بأسلوب استراتيجي، ويحصل على ما يريده من ضحاياه العاجزين؛ بل اللاواعين بما ينتظرهم، دون حتّى أن يقترب منهم أحياناً.

ويتردد هذا المفهوم كثيراً في الخيال الجماعي للمجتمع منذ ظهور عروض التنويم المغناطيسي إلى بروز شخصيات الأشرار الأذكياء في أفلام السينما، مروراً بالشهرة التي حققها المنحرفون النرجسيون ونظريات المؤامرة المثبتة بأسلوب أو بآخر. وإذا لم يكن هذا التصور خاطئاً تماماً، فإنه يظل محدوداً جداً على كل حال، وفقاً للطبيب النفسي جان فرانسوا مارميون (Jean-François Marmion) في مقاله “الخداع حق للجميع” المنشور في مجلة العلوم الإنسانية (Sciences Humaines)، العدد 287.

الخداع سلوك منبوذ سواء تجلّى في تلاعب المنحرفين النرجسيين الذين يوظفون الابتزاز العاطفي للوصول إلى أهدافهم، أو في احتيال تجار الأحلام الكاذبة الذين يرسمون لك مستقبلاً واعداً إذا استجبت لطلباتهم. وينطوي الخداع في اللّاوعي الجماعي على سلوكات التحايل والمكر، التي يوظفها الأشرار والخبثاء.

ومع ذلك، ثمة مجموعة متنوعة من أساليب الخداع التي يشيد بها الباحثون في مجال علم النفس الاجتماعي، تتيح لصاحبها الحصول على خدمة معينة “بأمانة”؛ ومن بين هذه الأساليب أسلوب خداع “خيّر” تجسّده تجربة ورق جول النقدية المفقودة. يحمل هذا الأسلوب اسم مُبتكره، وهو أستاذ علم النفس الاجتماعي روبير فنسنت جول.

ويوضح لنا هذا الباحث من خلال هذه التجربة المثمرة كيف يمكن للخداع أن يكون في خدمة الأمانة من خلال تحسين سلوكات الناس ودفعهم إلى القيام بواجبهم طواعية.

ما هي تجربة ورقة جول النقدية المفقودة؟

تُظهر دراسات عِدة أُجريت في جامعة إكس أون بروفونس (Aix-en-Provence) أن اتخاذ بعض الإجراءات المسبقة يمكن أن يؤدي إلى تحفيز سلوكات الإيثار المتوقعة لدى الآخر دون الحاجة إلى طلبها. في إحدى تجارب هذه الدراسات، يفقد أحد المارة ورقة نقدية في أحد الأزقة، وليس هذا الشخص سوى مشارك في التجربة؛ حيث سيخبره 20% فقط من شهود العيان في مجموعة التحكّم أن الورقة النقدية سقطت منه.

وفي المقابل، كان كافياً أن يتخذ المشارك إجراءً مسبقاً يتمثل في طلب خدمة منتقاة بعناية من شهود العيان لزيادة احتمال إخبارهم له بسقوط الورقة النقدية منه، فارتفعت نسبة هذا الاحتمال إلى 40% في التجربة التي طلب فيها المشارك من المارة خدمة بسيطة (تقديم معلومة له) قبل إسقاط الورقة النقدية، ووصلت النسبة إلى 70% عندما طلب المشارك من المارة خدمة تستدعي جهداً أكبر (قطع مسافة 30 متراً لمساعدته على إيجاد طريقه). وتبيّن أن احتمال قيام المارة طواعية بما يُنتظر منهم، دون أن يُطلب منهم ذلك، قد تضاعف أكثر من 3 مرات عندما سبقه طلب خدمة أخرى.

ولنفترض أننا أخبرنا المارة الذين أعادوا الورقة النقدية لصاحبها بعد الواقعة أنهم كانوا يخضعون للملاحظة كالتالي: “مرحباً، اسمح لي أن أقدّم نفسي، أنا فلان، باحث. ننجز حالياً دراسة حول سلوكات سكان المدن، ونلاحظ في إطارها الطريقة التي يتصرف بها الناس عندما يرون شخصاً يضيع نقوده، وأنت أحد الأشخاص الذين أعادوا الورقة النقدية إلى هذا الشخص، وهو أمر نادر، فهل يمكنك أن تقول لي لماذا أعدتها إليه”؟ سيجيبك دون تردّد: “لأن هذه هي طبيعتي؛ لأنني شخص أمين”.

والحقيقة أن هؤلاء المارة تعرّضوا جميعاً للخداع دون أن يشعروا بذلك؛ لأن الخدمة التي طلبها المشارك منهم في البداية خلقت صلة بينه وبينهم. إن مجرد تبادل الحديث مع حامل تلك الورقة النقدية غيّر قواعد اللعبة على عكس الموقف الأول الذي وجد فيه المارّة تلك الورقة النقدية فقط دون أيّ تواصل إضافي مع المشارك.

ففي الحالة الثانية، أصبح المارة يدركون أن الورقة النقدية تعود إلى شخص معروف، ولم يعد التقاطها من الأرض يمثل فرصة بالنسبة إليهم من أجل كسب المال؛ بل أصبحت إعادتها لمالكها الحقيقي في نظرهم واجباً تفرضه الأمانة.

ووفقاً لروبير فنسنت جول؛ فإن اللجوء إلى بعض الإجراءات التحضيرية المسبقة يمكّن من تحقيق بعض المكاسب على مستويَين:

  • يسمح بزيادة احتمال تحقّق السلوك المطلوب؛ الذي يجسّده في هذه التجربة إخبار الشخص المجهول بسقوط ورقته النقدية.
  • يسمح بتحقّق السلوك المطلوب في ظروف تجعل الشخص الذي يُقْدِم عليه يستحضر قِيمه وشخصيته (في هذه التجربة يستحضر أنه خَدوم وأمين لتفسير سلوكه؛ ما سيدفعه إلى الاستمرار في التصرف بأمانة بعد ذلك).