هل تؤدي الصدمات النفسية إلى فقدان الذاكرة؟

5 دقيقة
فقدان الذاكرة التفارقي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

هل سمعت سابقاً بفقدان ذاكرة لا يحدث نتيجة إصابة جسدية أو مرض عضوي مثل سكتة دماغية أو خرف أو ما إلى ذلك؛ وإنما نتيجة صدمة نفسية؟ هذا هو فقدان الذاكرة التفارقي؛ أحد أنواع الاضطرابات التفارقية المسماة أيضاً "الاضطرابات الانشقاقية أو الانفصالية" (Dissociative disorders)؛ وهي حالات تمس الصحة النفسية تتضمن انفصال الفرد عن أفكاره أو ذكرياته أو مشاعره أو محيطه أو سلوكه أو هويته؛ أي تشمل الهروب من الواقع بطرائق غير مرغوب فيها وغير صحية. لنتعرف أكثر إلى فقدان الذاكرة التفارقي وأنواعه وأسبابه وإن كان قابلاً للعلاج أم لا.

اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن اضطراب الهوية التفارقي؟

ما هو فقدان الذاكرة التفارقي أو الانفصالي؟

في البداية، ما معنى "التفارق" أو "الانفصال" (Dissociation)؟ لفهم ذلك، تنبغي معرفة أن ما يدركه الإنسان من تجارب يعتمد على العديد من العمليات والقدرات الدماغية التي تعمل معاً، وتشمل كلاً من الذاكرة، والوعي بالذات والمحيط، والهوية، والعواطف، والإدراك الحسي مثل البصر والسمع، والقدرة الحركية، والسلوك. لكن يحدث في بعض الحالات، عقب حدث صادم أو ضغط نفسي شديد مثلاً، أن يلجأ الدماغ إلى ما يُسمى بـ "الانفصال"؛ وهو آلية دفاع نفسية تهدف إلى حماية الشخص عن طريق منع أحد تلك العناصر من العمل مع البقية؛ ما يؤثّر في كيفية تجربته للوقائع وفهمها وتذكره لها.

إذاً؛ فقدان الذاكرة التفارقي (Dissociative amnesia) هو حالة صحية نفسية تتميز بفقدان كبير للذاكرة؛ حيث يعجز المُصاب عن تذكّر المعلومات الشخصية المهمة أو التجارب المتعلقة بنفسه وحياته. ويحدث عندما يسبب الانفصال حجب الذاكرة لحماية الفرد من الألم العاطفي الذي غالباً ما يرتبط بأحداث صادمة أو مرهقة أو مؤلمة. بكلمات أخرى: لا يرجع فقدان الذاكرة هذا إلى حالة طبية أو إصابة جسدية؛ إنما هو استجابة نفسية لصدمة أو ضغوط شديدة.

قد يبدو الشخص المصاب بفقدان الذاكرة التفارقي مرتبكاً أو مشوشاً بشأن هويته أو ظروفه؛ لكنه وعلى عكس المصابين بفقدان الذاكرة الناتج عن سبب عضوي، فنادراً ما يعبّر المصاب عن قلقه بشأن فقدان ذاكرته؛ وهو ما قد يبدو محيراً لمن حوله.

اقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع الانفصال العاطفي وتحرّر مشاعرك الدفينة؟

ما الذي قد ينساه المصاب بفقدان الذاكرة التفارقي؟

قد ينسى الأفراد أحياناً أحداثاً صادمة معينة؛ مثل حادث سيارة أو حادثة تحرش أو عنف، وقد ينسون في حالات أخرى تواريخهم الشخصية بالكامل أو هوياتهم أو تفاصيل أخرى مهمة في حيواتهم. عموماً، فيما يلي بعض أهم أنواع فقدان الذاكرة التفارقي:

  • فقدان الذاكرة المُوضَّع (Localized amnesia): ينسى الشخص كل ما مر معه خلال فترة زمنية قصيرة ومحددة من الحياة، فلا يستطيع تذكُّر أي شيء من هذا الإطار الزمني المحدد.
  • فقدان الذاكرة الانتقائي (Selective amnesia): يفقد الشخص ذكريات معينة متعلقة بحدث واحد أو عدة أحداث متشابهة خلال فترة محددة من الحياة؛ لكنه يحتفظ بذكريات أخرى من الفترة الزمنية نفسها. ويُسمى هذا النوع أيضاً بـ "فقدان الذاكرة الرّقعي" (Patchy amnesia)؛ لأنه يؤثّر في ذكريات معينة دون أُخرى.
  • فقدان الذاكرة العام (Generalized amnesia): هو نوع نادر جداً، يحدث فيه أن ينسى الفرد كل ما قد حدث خلال مدة زمنية طويلة تمتد شهوراً أو سنوات، وقد ينسى الشخص معلومات تخص هويته وتاريخ حياته.
  • فقدان الذاكرة المستمر (Continuous amnesia): يؤثر هذا النوع في القدرة على تكوين ذكريات جديدة؛ ما يصعّب عملية تذكُّر الأحداث الأخيرة أو المعلومات أو المحادثات الجديدة.
  • فقدان الذاكرة المنهجي (Systematized amnesia): ينسى الشخص المعلومات المتعلقة بموضوع معين أو شخص أو فئة محددة. على سبيل المثال؛ قد ينسى الشخص التفاصيل المتعلقة بحياته المهنية كلها بينما يحتفظ بذكريات حياته الشخصية.

اقرأ أيضاً: ما الفرق بين اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) واضطراب ما بعد الصدمة المعقد (Complex PTSD)؟

6 أعراض لفقدان الذاكرة التفارقي

بصرف النظر عن الأنواع المذكورة من فقدان الذاكرة، فإن الأفراد الذين يعانون فقدان الذاكرة الانفصالي قد يُظهرون أيضاً أعراضاً وسلوكيات معينة مرتبطة بفقدان الذاكرة؛ مثل:

  1. نقص الوعي: لا يدرك الأشخاص المصابون بفقدان الذاكرة التفارقي في كثير من الأحيان امتلاكهم فجوات في الذاكرة، وقد يستمر هذا الجهل حتى يؤثر فقدان الذاكرة في هوياتهم أو إلى أن ينوّه شخص آخر بحدث ما؛ حدثٍ يدرك المريض أن عليه تذكُّره لكنه لا يستطيع.
  2. استرجاع اللقطات (فلاش باك): عندما يستعيد بعض الأشخاص ذكرياتهم، فقد يشعرون وكأنهم يعيشون الأحداث المؤلمة مرة أخرى؛ أي تكون هذه الذكريات قوية إلى درجة لا يمكن تمييزها عن الواقع.
  3. الارتباك أو الضلال: في الحالات الشديدة، خاصة مع فقدان الذاكرة العام، قد يبدو المصاب وكأنه يواجه صعوبة في فهم ما يجري حوله، أو لا يدرك هويته الشخصية حتى.
  4. مشكلات العلاقات والثقة: غالباً ما يواجه الأشخاص المصابون بفقدان الذاكرة التفارقي صعوبة في تكوين العلاقات الرومانسية أو الصداقات أو الحفاظ عليها.
  5. قصر مدة النسيان: يقول الطبيب النفسي، زياد العرندي، إن حالات فقدان الذاكرة التفارقي غالباً ما تكون قصيرة الأمد؛ أي قد تستمر من عدة لحظات إلى ساعات أو أيام؛ في حين قد يستمر بعض الحالات مدة أطول تمتد أسابيعَ أو شهوراً، وقد تكون دائمة في حالات قليلة.
  6. وجود بعض الحالات النفسية المصاحبة: بالتزامن مع فقدان الذاكرة، فقد يصاب الشخص باضطراب ما بعد الصدمة، أو الاكتئاب، أو اضطرابات القلق أو اضطرابات الشخصية، أو اضطرابات النوم، أو اضطرابات تعاطي المخدرات أو إدمان الكحول.

يُذكر إنه حتى لو أدرك الشخص وجود ذكريات مفقودة، فغالباً ما يتجنبها أو يقلل أهميتها أو يجد مبررات لعدم قدرته على التذكر.

اقرأ أيضاً: ما الاضطراب الفصامي العاطفي؟ وكيف يمكن علاجه؟

لماذا قد يُصاب البعض بفقدان الذاكرة التفارقي؟

يمكن أن يحدث فقدان الذاكرة الانفصالي نتيجة حدث منفرد وقع مرة واحدة فقط أو نتيجة ضغوط نفسية متكررة أو صدمات طويلة الأمد. عموماً، فيما يلي بعض الأسباب الشائعة:

  • الصدمة الشديدة: يمكن أن يؤدي بعض التجارب مثل الإساءة الجسدية أو الجنسية أو العاطفية، خصوصاً في مرحلة الطفولة، إلى فقدان الذاكرة الانفصالي.
  • الإجهاد العاطفي: من المحتمل أن يسبب فقدان شخص عزيز فجأة، أو الطلاق، أو الخراب المالي، أو التعرض إلى العنف أو مشاهدته، أو التجارب التي تغيّر الحياة مثل اللجوء، إلى فقدان الذاكرة الانفصالي.
  • الحرب والتعذيب والكوارث الطبيعية: قد يتعرض المحاربون القدامى والأفراد الذين تعرضوا إلى التعذيب أو الأسْر، إلى فقدان الذاكرة الانفصالي؛ وكذلك قد يعاني الأشخاص الذين شهدوا كارثةً طبيعية ما.

باختصار: يمكن أن يحدث فقدان الذاكرة التفارقي نتيجة عوامل مختلفة، وخاصة عندما تكون الأحداث المؤلمة شديدة أو مطولة أو متكررة. وكلما زادت عوامل الخطر، زادت احتمالية الإصابة بهذه الحالة. وقد تؤثر العوامل الوراثية أيضاً في قابلية الإصابة، فالأفراد الذين يمتلكون تاريخاً عائلياً من فقدان الذاكرة التفارقي قد يصابون به بسهولة أكبر، حتى مع وجود عدد أقل من العوامل المسهمة.

اقرأ أيضاً: فقدان الذاكرة الناتج عن صدمة نفسية: البحث عن هوية

هل من الممكن علاج هذا النوع من فقد الذاكرة؟

في الواقع، لا يوجد علاج مباشر لفقدان الذاكرة التفارقي؛ لكن تُمكن إدارة الحالة وتخفيفها عن طريق مجموعة من العلاجات تشمل:

  • إزالة المحفزات أو إيقافها: أولى الخطوات في علاج فقدان الذاكرة الانفصالي هي تحديد العوامل التي قد تسبب فقدان الذاكرة أو تفاقمه وإزالتها. على سبيل المثال؛ يمكن إبعاد الفرد عن البيئات أو المواقف التي تسبب تجاربه المؤلمة أو ترتبط بها.
  • العلاج النفسي: يعد كلّ من العلاج بالكلام والعلاج السلوكي المعرفي والعلاج السلوكي الجدلي أدوات مهمة تساعد المريض على اكتشاف مشاعره وفهم حالته والتعامل مع المشاعر المرتبطة بالذكريات المستعادة؛ وهذا ما يُعدّ أمراً مهماً على نحو خاص عند استعادة الذكريات التي قد تكون غالباً مرهقة أو ساحقة، وقد تساعد تقنيات التنويم المغناطيسي وجلسات الأسئلة والأجوبة بمساعدة الأدوية على استرجاع الذكريات.
  • العلاج الدوائي: على الرغم من عدم وجود أدوية مصممة خصيصاً لعلاج فقدان الذاكرة التفارقي، فقد يُوصَف بعض الأدوية لعلاج الأعراض المصاحبة أو الحالات الصحية النفسية المصاحبة؛ مثل القلق أو الاكتئاب. ومن خلال إدارة هذه الأعراض، قد يستسهل المصاب الانخراط في طرائق العلاج الأخرى على نحو فعال.

يمكن القول إن الأشخاص معظمهم يستعيدون ذكرياتهم بمرور الوقت، ويمكن للعلاج أن يسرِّع هذه العملية ويساعد على إدارة آثار استعادة الذاكرة؛ لكن لسوء الحظ، لا يستعيد بعض الأشخاص ذكرياتهم المفقودة أبداً. ختاماً، تنبغي معرفة أن العديد من الأشخاص المصابين بفقدان الذاكرة التفارقي لا يدركون أنهم مصابون به؛ لكن إذا كنت تعاني فقدان الذاكرة التفارقي أو كنت قلقاً بشأن الإصابة به، فمن الجيد التحدث إلى المختص النفسي والحصول على تشخيص دقيق.

المحتوى محمي