ماذا تعرف عن اضطراب الهوية التفارقي؟

اضطراب الهوية التفارقي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: لدى زينب 9 شخصيات؛ “جنى” هي الشخصية المسيطرة بين التسعة، أما دور شخصية “أروى” فيتمحور حول الاهتمام بالشؤون الدراسية الخاصة بزينب، وبالإضافة إليهما ثمة طفلان ومراهقة يعيشون في رأس زينب: أريج البالغة من العمر 8 سنوات، ودانة ذات الـ 13 سنة ونُها ذات الـ 16 سنة. يبلغ متوسط عدد الشخصيات التي تظهر في هذا الاضطراب 15 شخصية غير أنه ثمة حالات استثنائية شهدت وجود قرابة الألف! يتحول المصابون بـ “اضطراب الهوية التفارقي” إلى شخصيات على خشبة مسرح، وتتناوب على الظهور عليها 3 أو 10 أو 30 شخصية.

وقد تقدّم هذه الشخصيات نفسها بشكل منفصل وقد تظهر مجتمعةً أحياناً، يتخبط المصابون به في حيرة كبيرة، ذلك ألا وجود لعلاج مصمم لأجلهم حتى الآن ولذلك يجعلون من شبكات التواصل الاجتماعي فضاء ليقدموا من خلاله الدعم لبعضهم بعضاً ويُسدون عبره المشورة لمن يحتاج إليها.

زينب البالغة من العمر 24 سنة طالبة في علم الأعصاب، ولم تتحدث بحرية عن إصابتها باضطراب الهوية التفارقي إلا سنة 2020 حيث أظهرت أمام الملأ الشخصيات المختلفة التي تسكنها. لكل من هذه الشخصيات كيانها واسمها وتوجهاتها الفكرية واهتماماتها ولغتها بل وحتى خطَّ يدٍ خاص بها، مكوِّنة فيما بينها نظاماً نفسياً معقداً. إذ يحصل أحياناً أن تظهر شخصيتان اثنتان في الوقت نفسه غير أن كلاً منهما تلعب دوراً محدداً مختلفاً، حتى أن بعض الشخصيات قد يكون حاضراً لأجل توفير الحماية لشخصية أخرى. ولدى زينب 9 شخصيات؛ “جنى” هي الشخصية المسيطرة بين التسعة، أما دور شخصية “أروى” فيتمحور حول الاهتمام بالشؤون الدراسية الخاصة بزينب، وبالإضافة إليهما ثمة طفلان ومراهقة يعيشون في رأس زينب: أريج البالغة من العمر 8 سنوات، ودانة ذات الـ 13 سنة ونُها ذات الـ 16 سنة. يبلغ متوسط عدد الشخصيات التي تظهر في هذا الاضطراب 15 شخصية غير أنه ثمة حالات استثنائية شهدت وجود قرابة الألف!

اضطراب يعني الجميع

لدى الناس جميعاً شخصيات مختلفة؛ إذ نتمتع بسمات شخصية متناقضة وتتنازعنا رغبات متناقضة فنحن لا نأتي إلى هذا العالم بشخصية محددة المعالم، فالأنا ليست كياناً واحداً بل متعدداً مثل قشور حبة البصل، وهي نتيجة الاندماج التدريجي للسلوكيات والأذواق والمُنفرات والطموحات والرغبات التي التقطناها ممن نحب أو على العكس، ممن نخافهم، فالأنا في المحصلة هي الآخر. غير أن هذه الكومة من المشاعر والأفكار والسلوكيات تُشكل في النهاية كياناً واحداً متسقاً ومنسجماً، في حين أن هذه الفوضى لا تلتئم في كيان واحد بل تظل مشتتة عند المصابين باضطراب الهوية التفارقي لدرجة يمكن لشخصية من شخصياتهم أن تنسى أو تكون على جهل تام بما تعرفه الهويات الأخرى. تحكي زينب عن تجربتها قائلةً: “اكتشفت ذات مرة وأنا مقبلة على الامتحانات أني لا أتذكر نصف دروسي في الكيمياء؛ بل والأنكى من ذلك أن هذه الدروس كانت مكتوبة بخط تصعب قراءته، ذلك أني أنا وأروى وجنى لا نستعمل الطريقة نفسها في تدوين الملاحظات. صَعُب عليّ التواصل مع أروى رغم محاولاتي الحثيثة والمضنية لاستدعائها وفسح المجال لها كي تكون هي المسيطرة على باقي شخصياتي، كنت في وضع صعب وحرِج”. يمكن لهذا النوع من “فقدان الذاكرة نفسيّ المنشأ” والشائع عند المصابين باضطراب الهوية التفارقية أن يطال ذكريات مفجعة كفقدان شخص قريب؛ غير أنه لا يظل حصراً عليها بل يمكنه أن يطال أفعالاً عادية كأن يعود المرء مثلاً من البقالة ويستغرب من اقتنائه صابون اليد فيما كانت نيته في الأصل من الخروج من البيت وشراء خبز للفطور. كما يمكن لهذا النسيان أن ينسحب على سنواتٍ بأكملها ويمحوها تماماً من الذاكرة.

التغيّب عن الذات

أن تكون مصاباً باضطراب الهوية التفارقي، ذلك يعني عيشك غريباً عن ذاتك نفسها حيث يرافق هذا الاضطراب شعور بالانفصال عن الواقع وإحساس بالغياب عن الذات؛ كما لو أن المصاب به جالس في صفوف المتفرجين مكتوف اليد فيما شخصياته تتولى تقديم العرض الذي يُلعَب أمامه، تسيطر عليه مشاعره وتتحكم في ردات فعله المتأرجحة وأحياناً المتناقضة، وقد يرافق هذا الاضطراب في بعض الحالات الحادة اكتئاب وإدمان و اضطرابات أكل؛ كأن تكون إحدى الشخصيات مصابة بالشّره المرضي (البوليميا) فيما تعاني الأخرى من فقدان شهية العصبي (أناروكسيا). يعزو الطب النفسي هذا الخلل في الشخصية إلى صدمات الطفولة الموسومة بالعنف سواء النفسي منه أو الجسدي، وكذلك يمكن للمرور بمصاب مفجع كموت أحد المقربين أو تجربة مهولة ومرعبة كالحرب أن يحول بين الطفل وبين تكوينه لهوية متسقة وموحدة.

عرف هذا الاضطراب في ثمانينيات القرن الماضي بالولايات المتحدة الأميركية انتشاراً غير مسبوق بين الناس ورُصِد أول ظهور له في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM1) تحت اسم “اضطراب تعدد الشخصيات” قبل أن يعاود الظهور سنة 1994 تحت مسمى “اضطراب الهوية التفارقي”. غير أنه كان موجوداً قبل ذلك بفترة طويلة؛ حيث وصف عالم النفس والأعصاب الفرنسي بيير جانيه (Pierre Janet) (1859 إلى 1947) حالات تفارق حصلت بعد التعرض لبعض الصدمات كما وجد عدد كبير من المعالجين تشابهاً بين أعراض اضطراب الهوية التفارقي مثل التغيب والتقلبات الحادة للمزاج والسلوك، وبين تلك التي كان يشتكي منها مرضى الهستيريا لفرويد (Freud). وإذا كان الأطباء والمعالجون النفسيون في أميركا الشمالية على دراية واطلاع بأعراض هذا الاضطراب، فإن الأمر مختلف في بقية بقاع العالم حيث ما يزال بعض الأطباء النفسيين والمعالجين يشكك في حقيقة وجوده نظراً للاعتقاد السائد بأن المرضى يدّعون الإصابة به.

هل هو وجه من أوجه الفصام (السكيزوفرينيا)؟

إن الفصام على عكس ما روجت له سينما هوليوود في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وعلى وجه التحديد في فيلم “ذُهان” (Psychose) لألفرد هيتشكوك (Alfred Hitchcock) الذي يدور حول شاب مختل يتلبس شخصية والدته، ليس ازدواجاً في الشخصية، ذلك أنها نظرة قاصرة غذَّتها الأفلام والروايات أما الفُصام في واقع الأمر فهو مرض عقلي مزمن يتّسم بالهذيان والتهيؤات والانفصال التام عن الواقع، يضع صاحبه في عالم يصعب على بقية الناس اختراقه أو الوصول إليه. أما في حالة المصاب باضطراب الهوية التفارقي، فإنه رغم تعدد شخصياته يظل محافظاً على اتصاله بالواقع والآخرين؛ لكن تبقى النقطة المشتركة الوحيدة بينه وبين مريض الفصام أنهما معاً يتخيلان سماع أصواتٍ حولهما تخاطبهما. عدا ذلك، فإن المصابين باضطراب الهوية التفارقي يستجيبون للعلاج النفسي لو توفر المعالج المناسب. في المقابل؛ يتطلب الفصام متابعة نفسية دائمة ومستمرة حتى يستطيع المريض أن يعيش حياته، على أن التعافي التام من المرض يبقى بعيد المنال ومستحيلاً.

العالم الرقمي في خدمة المرضى

بدأ المصابون باضطراب الهوية التفارقية في إنشاء دوائر خاصة بهم على شبكات التواصل الاجتماعي بغرض مد يد العون والدعم لبعضهم وإتاحة المعلومات حول مرضهم وإزالة الغموض الذي يطاله، وقد استحدثوا بينهم لغةً ورموزاً خاصة يفهمونها فيما بينهم ويعبرون من خلالها عن أطوار هذا الاضطراب وحالاته؛ كأن يطلقوا على الانتقال من شخصية إلى أخرى مفردة “سويتش” (switch)، ولا غرابة في استعمالهم الكلمات الإنجليزية ذلك أن أول من شخَّص هذا الاضطراب كان من الولايات المتحدة الأميركية. لدى زينب قنوات على الشبكات الاجتماعية مثل يوتيوب وتيك توك تسخّرها للتوعية باضطراب الهوية التفارقي ومساعدة مرضاه ليتعاملوا بطريقة أفضل مع الأزمات التي يواجهونها بشكل يومي. تقول أمل التي لم تنجح بعد في إيجاد معالج لحالتها: “تُشعرنا التجمعات الافتراضية والمنصات الرقمية أننا لسنا وحدنا من يواجه هذه العراقيل ويقاسي هذه الآلام، صحيح أن إصابتي بهذا الاضطراب تبث الذعر في قلبي كل يوم غير أن الشروحات والإضاءات التي يقدمها لي ذلك الفضاء تخفف كثيراً من وطأة هذا الثقل”. مثّلت بدايات كوفيد سنة 2020 شرارة هذه التجمعات الافتراضية، وقد يكون مرد هذا التزامن هو المخاوف التي وجدت في بدايات الوباء تربة خصبة لتنتعش وتم التنفيس عنها عبر الإنترنت، ومنذ ذلك الحين ظهرت عشرات الحسابات على تطبيق تيك توك وقنوات على يوتيوب مكرسة بالكامل للحديث عن هذا الاضطراب تديرها في أغلب الأحيان فتيات في مقتبل العمر. إذ نجد بعضهن يتحدثن بحرية عن هذا الاضطراب وأثره في حياتهن المعيشة، فيما أخريات يتكلمن عن حالات “التغيّب” ونوبات القلق واضطرابات الأكل التي يواجهنها، فيما يشارك بعضهنّ رحلته في البحث عن علاج ومعالج مناسبَين.

التشخيص

تتلقى إحدى صاحبات قنوات يوتيوب كل شهر رسائل من أشخاص تساورهم الشكوك في إصابتهم باضطراب الهوية التفارقي أو إصابة قريب لديهم، طالبين منها النصح والمشورة. وفي هذا السياق تقول: “أوضح لهم دائماً أني لست مؤهلة لإجراء تشخيص للاضطراب، كل ما أفعله أني أستخلص، على ضوء تجربتي الخاصة، نصائح من شأنها أن تيسّر على المصابين أمثالي حياتهم وتساعدهم على تحمل بعض الأعراض”. وفي المقابل، ترى كوثر أن لمهمتها هذه تحديات وصعوبات من نوع خاص، وتشرح أكثر بقولها: “يأتمنني البعض على صدمات مروا بها تؤثر فيّ معرفتها بشكل عميق وأحياناً مؤذٍ، لدرجة أني صرت أنتظر حضور شخصيتي المنقذة لتوفر لي الحماية اللازمة قبل مطالعة هذا النوع من الرسائل المؤلمة”. تطمح زينب إلى استكمال دراستها في علم الأحياء في الولايات المتحدة الأميركية أو كندا؛ هناك حيث الأبحاث حول اضطراب الهوية التفارقي أكثر تقدماً. كما تضع ضمن خططها بعيدة المدى استحداث مركز بحوث يأخذ على عاتقه دراسة هذا الاضطراب وتأطير اختصاصين قادرين على تشخيصه، وتؤكد زينب: “إن الهدف الذي أضعه نصب عينيّ أن أُحْدِث تغييراً ملموساً في الواقع”.

للاستزادة

يرى الأطباء النفسيون أن هذا التشظي في الشخصية ما هو سوى آلية دفاع لا واعية تهدف إلى عزل الشخص وإبعاده عن الأحداث المؤلمة في ماضيه، وأن ما نراه تعدداً في الشخصيات ما هو في حقيقة الأمر سوى منفذ هروب. يهدف العلاج النفسي إلى جمع شتات الأنا بدمج الشخصيات الأخرى كلها داخلها بحيث يدرك المريض أن هذه الشخصيات ما هي إلا رموز لحكايته وأشكال من شخصيته؛ غير أن هذه الرحلة العلاجية لا تُكلل دائماً بالنجاح لكن يظل إرساء قواعد للتفاهم بين الشخصيات خطوة أولى مبشرة في العلاج.

المحتوى محمي !!