كشف دراسة حديثة منشورة في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم (Proceedings of the National Academy of Science) في نهاية يوليو/تموز عام 2024، عن وجود فروق كبيرة بين أدمغة كل من الرجال والنساء من حيث حجم المادة الرمادية تحت القشرية، وخاصة في مناطق مثل الحُصين والمهاد واللوزة الدماغية. تُعدّ هذه المناطق ضرورية لوظائف مثل الذاكرة والعواطف والتعلم والانتباه. وقد تسهم الاختلافات البنيوية بين أدمغة الجنسين في اختلاف قابلية الإصابة باضطرابات الصحة النفسية. فما الذي توصلت إليه الدراسة بالتحديد؟ وكيف ستنعكس هذه النتائج على مجال رعاية الصحة النفسية مستقبلاً؟
محتويات المقال
اقرأ أيضاً: هل تخون النساء كما يخون الرجال؟
نتائج غير مسبوقة: ما الذي توصلت إليه هذه الدراسة؟
تتناول الدراسة سؤالاً قديماً في الطب النفسي مفاده: لماذا تكون بعض اضطرابات الصحة النفسية مثل القلق والاكتئاب أكثر انتشاراً بين الإناث؛ في حين تكون اضطرابات أخرى مثل التوحد والسلوك المعادي للمجتمع واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه أكثر شيوعاً بين الذكور؟ فعلى الرغم من أن العديد من الأبحاث السابقة لاحظت اختلافات صغيرة في هياكل الدماغ بين الجنسين على نحو ينعكس على الصحة النفسية، فإن الارتباطات العصبية التشريحية الأساسية التي تسهم في اختلاف الاضطرابات النفسية لم تكن مفهومة جيداً.
لذلك؛ هدفت الدراسة إلى معالجة هذه الفجوة من خلال التحقيق فيما إذا كانت الاختلافات الدقيقة في بنية الدماغ يمكن أن تفسّر هذه التفاوتات؛ حيث حلل الباحثون بيانات تعود إلى نحو ألف شخص بالغ في الولايات المتحدة الأميركية؛ نصفهم من الذكور تقريباً والنصف الآخر من الإناث، وذلك باستخدام تقنية متقدمة في التصوير بالرنين المغناطيسي؛ إذ تصوّر كيفية تحرُّك جزيئات الماء داخل أنسجة الدماغ؛ ما يوفّر معلومات مفصّلة عن كثافة الخلايا ومسارات الإشارات العصبية، على عكس التصوير بالرنين المغناطيسي التقليدي الذي يلتقط صوراً ثابتة.
ركز الباحثون على 3 أجزاء رئيسة من الدماغ: الحُصين، واللوزة الدماغية، والمهاد، وقد اختيرت هذه المناطق لأنها تؤدي أدواراً حاسمة في العمليات العاطفية والإدراكية، وقد ارتبطت بالعديد من الاضطرابات النفسية المختلفة، وفيما يلي ما توصلوا إليه.
اقرأ أيضاً: ما الذي يجعل الصداقة بين النساء أقوى من الصداقة بين الرجال؟
الاكتئاب من نصيب النساء وفرط الحركة من نصيب الرجال!
وجد الباحثون أن لدى الرجال كثافة وتعقيداً أكبر في خلايا الحُصين واللوزة الدماغية، وهي الأجزاء التي تؤدي أدواراً رئيسة في عمل الذاكرة وإدارة المشاعر مثل الخوف والتوتر. في المقابل، امتلكت النساء كثافة وتعقيداً أكبر في المهاد الذي يؤدي دوراً كبيراً في معالجة المعلومات والانتباه. والجدير بالذكر إن هذه الاختلافات كانت أكبر من المتوقع.
إذاً؛ يمكن القول إن انخفاض كثافة الخلايا العصبية أو انخفاض تعقيدها في المناطق التي تنظِّم العواطف مثل الحُصين، قد يرتبط بارتفاع مخاطر الإصابة بالاكتئاب والقلق مثلما يحدث في حالة النساء؛ في حين أن انخفاض كثافة الخلايا أو تعقيدها في المهاد، قد يؤثّر في الانتباه والوظيفة التنفيذية؛ ما قد يرتبط باضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه مثلما هي الحال عند الرجال.
اقرأ أيضاً: ما الذي يجعل النساء أكثر عرضة للاكتئاب من الرجال؟
مهلاً: ما زالت هناك جوانب مجهولة!
على الرغم من أن هذه النتائج تبيّن أن الاختلافات الدقيقة في بنية الدماغ قد تؤثر في قابلية الإصابة ببعض الحالات النفسية المختلفة بين الجنسين، فلا نزال نجهل الكثير؛ إذ إن نوع التصوير بالرنين المغناطيسي المستخدم قد يوضّح الاختلافات الدقيقة في بنية الدماغ؛ لكنه لا يستطيع أن يحدد الأسباب التي تؤدي إلى هذه الاختلافات التي قد تكون عبارة عن مزيج من العوامل؛ مثل الهرمونات والجينات والعوامل الوراثية وتجارب الحياة والتوقعات المجتمعية.
بالنسبة إلى تجارب الحياة تحديداً، يقول المعالج النفسي، سامي العرجان: "المرأة أكثر عُرضة إلى الاصابة بالاكتئاب والقلق واضطراب المزاج، ليس لأنها "امرأة"؛ ولكن لأنها أكثر تعرضاً إلى "المسببات" من الرجال. فالتعنيف الأسري والزوجي، التحرش والاغتصاب، التمييز الجنسي والوظيفي، اللوم الاجتماعي؛ جميعها عوامل ترتبط بنشوء هذه الاضطرابات النفسية عند المرأة أكثر من الرجل".
اقرأ أيضاً: لماذا لا يوجد لدى الرجال أصدقاء مقربون مثل النساء؟
وتقول الباحثة الرئيسة في الدراسة، ديليانا بيتشيفا (Diliana Peachva)، "قد يساعدنا البحث في الاختلافات بين الجنسين مستقبلاً على فهم الأصول البيولوجية لاضطرابات الصحة النفسية على نحو أفضل. ويمكن أن يؤدي هذا إلى التشخيص المبكر والعلاجات الأكثر فعالية من خلال الطب النفسي الشخصي؛ حيث يُصمَّم العلاج بما يتناسب مع الفرد. على سبيل المثال؛ يبدو أن الأدوية المضادة للذهان تعمل على نحو مختلف عند الرجال والنساء، فضلاً عن وجود آثار جانبية مختلفة".
للرجال والنساء: 8 نصائح لتعزيز الصحة النفسية
إذاً ثمة العديد من عوامل الخطر التي تُفاقم خطر إصابتك بمشكلة تتعلق بالصحة النفسية، سواء بالنسبة إلى الرجال والنساء؛ لكن ذلك لا يعني أن مرضك أمر واقع ومؤكّد؛ إذ وعلى الرغم من أنه لا يمكن التنبؤ بما قد يمس صحتك النفسية؛ فإن العديد من الاستراتيجيات قد أثبتت جدواها في تحسين الصحة النفسية وتقليل خطر الإصابة ببعض الاضطرابات؛ وإليك أهمها:
- أعطِ الأولوية للنوم الكافي: نم 7-9 ساعات من النوم الجيد كل ليلة مع الحفاظ على جدول نوم ثابت وإنشاء بيئة نوم مريحة.
- تناول الأطعمة الغنية بالعناصر الغذائية: اتبع نظاماً غذائياً صحياً ومتوازناً؛ أي أن يكون غنياً بالخضروات والفاكهة والحبوب الكاملة والدهون الصحية مع تقليل الأطعمة العالية المحتوى بالدهون والسكريات، أو تجنّبها. علاوة على ذلك، فكر في دمج في الأطعمة التي تعزز الحالة المزاجية في نظامك؛ مثل التوت والموز والفول والشوكولاتة الداكنة والمكسرات والأسماك الدهنية.
- تواصل مع الآخرين: اقضِ وقتاً ممتعاً مع العائلة والأصدقاء، وتطوّع في مجتمعك، وتجنب الاعتماد فقط على وسائل التواصل الاجتماعي للحفاظ على العلاقات.
- مارس التمارين الرياضية: ابحث عن الأنشطة البدنية التي تستمتع بها مثل المشي أو الرقص أو اليوغا لتخفيف التوتر وتحسين مزاجك، واجعلها جزءاً منتظماً من روتينك، وادمج التمارين الهوائية وتمارين القوة في حياتك؛ لكن لا داعي لقضاء ساعات في صالة الألعاب الرياضية، فحتى التمارين البسيطة مثل المشي ستساعدك.
- تعلم مهارات جديدة: جرِّب هوايات جديدة، أو تحمَّل مسؤوليات عمل غير مسبوقة، أو سجّل في دورة تدريبية؛ لكن ركز على الأنشطة التي تهمك فعلاً، بدلاً من السعي نحو الحصول على الشهادات فقط.
- كُن لطيفاً مع نفسك ومع الآخرين: مارس اللطف وساعد مَن يحتاج إلى المساعدة حينما تكون قادراً، وأظهر الامتنان، وقدم الدعم لمن حولك. أما بالنسبة إليك، فخذ الأمور ببساطة في الأيام الصعبة؛ أي كُن رحيماً مع نفسك، فحدد أهدافاً صغيرة، أو خذ فترات راحة قصيرة عندما تشعر بالإرهاق.
- مارس اليقظة الذهنية: كن حاضراً في اللحظة الحالية ومنتبهاً إلى أفكارك ومحيطك، وادمج استراتيجيات الاسترخاء مثل التأمل وتدوين اليوميات والتنفس العميق، في حياتك اليومية.
- اطلب الدعم المتخصص: لا تتردد في التواصل مع متخصص الصحة النفسية في حال شعرت بضيق نفسي لا تستطيع التعامل معه بمفردك.