"لماذا لم تغادري؟"، كان هذا هو السؤال الذي طرحتُه على صديقتي المقربة حين أخبرتني بأنها تتعرض إلى العنف الشديد في علاقتها. وقتذاك، ردت على سؤالي قائلة: "إنه الوحيد الذي كسرني؛ لكنه أيضاً الوحيد القادر على إصلاحي مرة أخرى"! لم أفهم عبارتها أبداً سوى اليوم، ففي العلاقات الإنسانية، قد لا يتمكن بعض الأشخاص من المغادرة بسهولة حتى لو أُسيئت معاملتهم. والحقيقة أن هذه العلاقات عادة ما تكون مترابطة؛ ولكن هذا الترابط صُنع من حبل منسوج بخيوط مسمومة، وهذا تحديداً ما يُمكن أن نُطلق عليه اسم "الترابط الصادم" (Trauma Bonding)، فلماذا يطوّر بعض الأشخاص علاقاتهم مع المسيئين إليهم؟ الإجابة من خلال هذا المقال.
ما هو الترابط الصادم (Trauma Bonding)؟
صيغ مصطلح "الترابط الصادم" على يد أستاذ علم النفس، باتريك كارنز (Patrick Carnes)، عام 1997، ويصف هذا المصطلح العلاقة العميقة التي تتشكل بين الضحية والمعتدي؛ حيث يطوّر بعض الأشخاص ارتباطاً قوياً مع الآخرين الذين سببوا لهم الأذى. ويمكن أن يحدث الترابط الصادم في العلاقات التي تنطوي على خلل في توازن القوى، سواء كانت علاقة رومانسية أو علاقة عمل بين المدير والموظف، أو علاقة الوالدين مع أبنائهم؛ ولكن هذا النمط أكثر شيوعاً في العلاقات الرومانسية.
ويشرح المعالج النفسي، مارك بلاكيلي (Mark Blakeley)، إن بعض الناجين من الترابط الصادم قد يشعرون بالفشل من جانبهم لكنهم ليسوا فاشلين حقاً؛ وذلك لأن هذا الترابط هو آلية دفاعية طورها الدماغ من أجل حمايتهم من الخطر. ويمكن القول إن مصطلح "الترابط الصادم" قد يتداخل مع بعض المصطلحات الأخرى.
- الترابط الصادم والعلاقة المسيئة: يختلف الترابط الصادم عن العلاقة المسيئة؛ لأن الشخص في العلاقة المسيئة عادة ما يكون مدركاً لذلك، وذلك على عكس علاقة الترابط الصادم؛ إذ لا يصدق الشخص أنه يتعرض إلى الأذى.
- الترابط الصادم ومتلازمة ستوكهولم (Stockholm Syndrome): هناك بعض التشابه بالفعل بين الترابط الصادم ومتلازمة ستوكهولم فيما يخص علاقة الضحية والمعتدي؛ ولكن متلازمة ستوكهولم تتطور في حالات الأسر واحتجاز الرهائن.
- الترابط الصادم والاعتمادية: الترابط الصادم يختلف عن الاعتمادية التي تعد ديناميكية علاقة مختلة؛ حيث يعتمد شخص ما على شخص آخر على نحو مفرط، وغالباً ما يتضمن هذا السلوك إهمال احتياجاته الخاصة لصالح تلبية احتياجات شريكه.
اقرأ أيضاً: ما الذي يكشفه دخولنا المتكرر في العلاقات السامة؟
تعرف إلى أهم علامات الترابط الصادم
نظراً إلى أن المواقف المسيئة لا تؤدي جميعها إلى الترابط الصادم؛ فقد لا تكون متأكداً إذا كان هذا الأمر ينطبق عليك. وهذه أهم علامات الترابط الصادم:
- عدم القدرة على التعبير عن مشاعرك أو آرائك أو رغباتك خوفاً من إزعاج الطرف الآخر.
- التستر على أخطاء الشخص المعتدي.
- الشعور بالعزلة؛ حيث ينسحب الشخص الذي يعاني سوء المعاملة وينفصل عن الأصدقاء والعائلة.
- تبرير تصرفات الشخص المعتدي طوال الوقت والدفاع عنه أمام الآخرين.
- عدم التفكير في مغادرة العلاقة، وإذا حدث وفكرت، ستشعر بالضيق والألم الجسدي الشديد.
- أداء أدوار متعددة للشريك المسيء؛ مثل الصديق أو المعالج النفسي أو أحد الوالدين؛ ما يقوي الترابط الصادم ويُضعف هويتك الشخصية.
- الاستمرار في تصديق الوعود على الرغم من عدم الوفاء بالوعود السابقة.
- التعرض إلى الاعتداء الجسدي والإساءة العاطفية.
- جلد الذات والاعتقاد الراسخ أنك السبب في التعرض إلى سوء المعاملة والأذى.
- تغيير سلوكك وطباعك الشخصية من أجل إبقاء الشخص الآخر سعيداً.
- الإيمان أن الأمور سوف تتحسن.
7 مراحل للترابط الصادم
يمكن أن يستمر الترابط الصادم سنوات طويلة، وعادة يكون هذا الترابط قوياً للغاية ويتطور على 7 مراحل هي:
- إغداق الحب: خلال هذه المرحلة، يغمر المعتدي الضحية بالحب الزائد والاهتمام والهدايا، ويخلق فيضاناً من المشاعر والاهتمام؛ ولكن هذه المرحلة من المودة الشديدة هي مجرد مقدمة للسيطرة على عواطفك.
- كسب الثقة: وهنا تبدأ الضحية في الثقة بالطرف الآخر وتصبح معتمدة عليه عاطفياً، معتقدة أنه المصدر الوحيد للحب والاهتمام والأمان.
- الانتقاد: يبدأ الشريك المسيء خلال هذه المرحلة انتقاد الضحية واحتقارها والتقليل من شأنها، والتركيز على عيوبها؛ ما يؤدي إلى تآكل احترامها لنفسها.
- التلاعب: بعد أن تتعرض الضحية إلى سوء المعاملة والانتقاد والتقليل، تحاول التمرد ضد المعاملة غير العادلة، وهنا يهاجمها المعتدي بأنه لم يسبب لها الأذى؛ حيث يقول على سبيل المثال: "أنتِ تتخيلين الأمر" أو "أنتِ تبالغين"
- الاستسلام: أو ما يعرف باسم "الاستجابة للصدمة"، وخلال هذه المرحلة، غالباً ما تستسلم الضحية لمواكبة السلوك المسيء، وترضى بكل ما يقوله الشخص المعتدي عنها.
- فقدان الذات: وتشمل آثار فقدان الذات العزلة عن الآخرين والانسحاب الاجتماعي وتقلب المزاج.
- التكرار: دورة الترابط الصادم تتسم بتكرارها؛ فبعد وقوع حادث مسيء، سوف يبدأ المعتدي مراحل الترابط الصادم من جديد عن طريق إغداق الضحية بالحب واستعادة ثقتها.
لماذا يعد الرحيل من علاقة الترابط الصادم صعباً؟
تتطور علاقة الترابط الصادم من خلال التعرض المتكرر إلى الإيذاء الجسدي أو النفسي، أو مزيج من الاثنين معاً، وعلى الرغم من ذلك، يجد بعض الأشخاص صعوبة بالغة في مغادرة هذه العلاقة؛ وذلك للأسباب التالية:
- اختلال توازن القوى: الذي يُعرف على أنه التوزيع غير المتكافئ للسيطرة والقوة بين الشركاء؛ حيث يستخدم الطرف المسيء سلطته وقوته من أجل إضعاف الطرف الآخر والسيطرة على مشاعره وآرائه.
- الإساءة الدورية: في أثناء علاقة الترابط الصادم، تتخلل الاعتداء العاطفي والجسدي والجنسي فترات إيجابية من اللطف والحب والتعبير عن الندم، وفي أثناء تلك الفترة، يطلق الجسم هرمون الدوبامين ويجعل الضحية تشعر بدفقة من السعادة، وبسبب هذا الشعور المؤقت؛ يتعزز الارتباط العاطفي بين الضحية والطرف المسيء.
- العلاقات السيئة في الطفولة: تخيل أنك تعرضت إلى العنف من أحد والديك في الطفولة؛ حيث كانت أمك تزرع الخوف في نفسك، وبعد ذلك تغدق عليك الحب والرعاية. وقتها سوف تدرك أن هذا هو النمط الطبيعي للعلاقات، وسوف تكون فريسة سهلة للترابط الصادم، فالأشخاص الذين نشؤوا في أُسر مسيئة، قد تبدو علاقات الترابط الصادم أكثر طبيعية ومقبولة بالنسبة إليهم، خاصة إذا كانوا يعانون انخفاض احترام الذات.
- التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance): هو حالة نفسية تصيب بعض الأفراد عندما يفقدون التوازن في أثناء التوفيق بين أفكار أو قيم متضادة بعضها مع بعض. وفي علاقة الترابط الصادم، فإن التنافر المعرفي الذي ينشأ من المشاعر المتناقضة هو الذي يُبقي الضحية عالقة عن طيب خاطر في علاقة ترابط مؤلمة؛ وذلك لأنها تحمل للطرف المسيء مشاعر سلبية وإيجابية، ويؤدي الصراع المحتدم بينهما إلى إرباكها؛ ما يجعل من الصعب مغادرة العلاقة.
اقرأ أيضاً: 6 علامات تكشف الشخص السام في العلاقات الزوجية
كيف يمكن التعافي من علاقة الترابط الصادم؟
يمكن أن يكون كسر الترابط الصادم عملية صعبة؛ ولكنها خطوة مهمة نحو الشفاء من أجل استعادة السيطرة على حياتك. وهذه أهم خطوات التعافي:
- دوّن يومياتك مع الطرف الآخر: لا شك أن الكتابة يمكن أن تساعد الأشخاص على التعامل مع التحديات التي يمرون بها بعدة طرائق؛ ولكن في حالة التواصل الصادم، فإنها تؤدي دوراً محورياً؛ لأنها دورها لن يقتصر على تنظيم مشاعرك ولكنها سوف توّثق أحداث يومك وأفعال الطرف الآخر. اكتب كل ما يحدث بينكما، واجعله واضحاً ومحايداً للغاية. لا تسجل مشاعرك، سواء كانت سلبية أو إيجابية؛ بل ركز على الاحتفاظ بسجل لما يحدث بالضبط في صراعاتك، وسوف تلاحظ النمط المتكرر وتحصل على منظور أكثر موضوعية لعلاقتك.
- اطلب الدعم من المقربين: الخطوة الثانية في إيجاد طريقك للخروج من علاقة الترابط الصادم هي البحث عن منظور خارجي، ففي كثير من الأحيان، يَصعُب أن نرى خارج فقاعة علاقتنا لأننا اعتدنا على رؤية الأشياء بطريقة واحدة؛ ولذلك من المهم التحدث إلى الأشخاص المقربين ورؤية الأمور من زاوية مختلفة.
- تحدث إلى نفسك بطريقة إيجابية: أحد التأثيرات المدمرة لعلاقة الترابط الصادم هو أنها تقلل احترامك لنفسك؛ ولذلك كن لطيفاً مع نفسك وحاول ممارسة الرعاية الذاتية، وتذكر دائماً أن الترابط الصدم هو استجابة عاطفية إنسانية، وليس عيباً في شخصيتك.
- لا تعاود الاتصال بالطرف الآخر نهائياً: وتعد هذه الخطوة من أهم خطوات التعافي؛ إذ يجب قطع الاتصال نهائياً بالطرف الآخر من أجل إنهاء دورة الإساءة. وتذكر دائماً أن الشخص المسيء سوف يحاول التلاعب بك مجدداً؛ ولهذا لا تعطه هذه الفرصة أبداً.
- أعِد التواصل مع ذاتك: للتحرر من قبضة علاقة الترابط الصادم، ركّز جيداً على استعادة استقلاليتك وتعزيز شخصيتك الفردية، اتخذ خطوات مدروسة للانخراط في الأنشطة التي تفضلها ومتابعة الاهتمامات التي تتوافق مع قيمك وتطلعاتك، ومن خلال إعادة الاتصال برغباتك وأهدافك، تُمكنك إعادة بناء الشعور بالذات واستعادة السيطرة على حياتك.
- تحرر من العلاقة دون أن تخبر الطرف الآخر: يشرح المختص النفسي، عماد رشاد عثمان، إن الخروج من العلاقات الآسرة التي تُحكم قبضتها على الشخص تتسم بعدم جدوى المواجهة؛ وذلك بسبب التنافر المعرفي. ففي كل مرة سوف تواجه فيها الطرف الآخر، قد تشعر بأنه على حق وأنك تستحق سوء المعاملة؛ لذلك لا تواجه شريكك أبداً وتحرر من علاقتك به سراً، وهنا يحدث التحرر الحقيقي لأن إحدى أكبر إشكاليات العلاقات الآسرة هي أنها تأسرنا وتجعلنا غير راغبين في المغادرة.