ما سلوك إسكات الذات؟ وماذا تفعل للتوقف عن ممارسته؟

4 دقيقة
إسكات الذات
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: يصف سلوك إسكات الذات حالة فقدان الصوت الداخلي التي يعانيها العديد من الأشخاص، ولا سيّما النساء لأسباب ثقافية ونفسية. تعرّف في هذا المقال إلى أسباب تبني هذا السلوك وعواقبه النفسية والاجتماعية.

تشعر بالإنهاك بعد يومٍ طويلٍ من العمل، وتتوق إلى قضاء ليلة هادئة في المنزل؛ لكنك ترمي تلك الحاجة الماسّة وراء ظهرك و ترتدي قناع البهجة بمجرد أن يتصل بك صديق عزيز يرغب أن ترافقه إلى احتفال عائلي متأخر. يبدأ الأمر بنية حسنة، وبالرغبة في الحفاظ على الانسجام وإرضاء من حولك، فتقبل المواقف التي تتعارض مع معتقداتك أو احتياجاتك الأساسية، وتختار تجنب المواجهة بدلاً من تأكيد موقفك وحاجتك. وأحياناً تكون مقتنعاً بأنك تفعل الصواب تماماً، وسلوكك غير مضرٍ بل هو محمود، فيستسلم صوتك الداخلي مع مرور الوقت ليصبح نمطاً سلوكياً يؤدي ببطء إلى تآكل معالم هويتك الحقيقية. وبينما تقمع أفكارك وعواطفك الأصلية لكي تنسجم مع الآخرين، فإنك تشرع دون قصد في رحلة محفوفة بالمخاطر يقوّض فيها سلوك إسكات الذات سلامتك النفسية والعاطفية على المدى الطويل.

ماذا يُقصد بسلوك إسكات الذات؟

سلوك إسكات الذات (Self-silencing) هو نمط سلوكي يتميز بالسعي الدؤوب إلى إرضاء الآخرين، والتردد في التعبير عن الأفكار والمشاعر الحقيقية. تكمن جذوره غالباً في الرغبة في دعم العلاقات المهمة والحفاظ عليها. وعلى الرغم من أن الرجال والنساء ينخرطون في هذا السلوك، فالنساء يملن إلى ممارسته على نحو أكبر، ولا سيّما في إطار الروابط الاجتماعية والحميمية؛ حيث يتمحور هذا السلوك لديهن حول إظهار واجهة ودية ومتوافقة مع شركائهم، وفي المجال الاجتماعي الأوسع نطاقاً.

يتغذى هذا الميل نحو إسكات الذات على الأعراف والقيم والصور النمطية المجتمعية التي تجبر المرأة على تجسيد سمات نكران الذات والإيثار. وفي السعي إلى الحفاظ على انسجام العلاقات، يستخف الأفراد الذين يسكتون أنفسهم، وبخاصة النساء، بأصواتهم الداخلية، ويقللون أهمية تجاربهم الخاصة، حتى عندما تكون لديهم مشاعر الغضب أو الاستياء.

لِمَ تمارس النساء هذا السلوك أكثر من الرجال؟ وكيف يؤثر في صحتهن النفسية؟

على الرغم من الجهود التي قد يبذلها الآباء لتربية أطفالهم في بيئة خالية من التحيز على أساس الجنس، ما تزال الفتيات يتلقين تنشئةً تشجعهن على مراعاة احتياجات الآخرين ورغباتهم وتوقعاتهم. وبمرور الوقت، يمكن أن يتحول ذلك إلى ميلٍ قهري نحو تجنب الصراعات والمواجهات التي تقتضيها مواقف الحياة المختلفة أحياناً من أجل الحفاظ على الانسجام داخل العلاقات؛ ما قد يدفع الفتاة اليافعة إلى تبنى شخصية "الفتاة الطيبة"؛ حيث تسعى جاهدة إلى تجسيد شخصية تتكيف بسهولة مع الظروف وتحافظ على واجهةٍ من رباطة جأش لا تتزعزع.

علاوة على ذلك، قد تعطي الأمهات ذوات الميل إلى إسكات أصواتهن الداخلية الأولوية لاحتياجات الأبناء إلى حد إهمال رعايتهن الذاتية؛ ما يؤدي غالباً إلى الاحتراق النفسي. ويُلاحظ هذا الميل نحو إسكات الذات في الأغلب بين النساء اللواتي يواجهن مشكلة الكمالية ومشاعر تدني احترام الذات.

وفي مراجعة بحثية نُشرت نتائجها في عام 2020، سلط باحثون من الجامعة الملية الإسلامية في الهند، الضوء على إسكات الذات ودوره المتداخل المحتمل في الإصابة بالاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب السريري، واضطرابات الأكل، واضطراب ما قبل الطمث (PMDD).

أما أستاذة علم النفس التربوي بجامعة بغداد، نادرة جميل حمد، فقد أشارت بوضوح في دراسة لها نُشرت في عام 2019، شملت عينة مكونة من 320 مرشدة تربوية في بغداد، إلى وجود إساءات نفسية بين المرشدات اللواتي يملن إلى ممارسة سلوك إسكات الذات؛ لكنها وجدت أيضاً فروقات بينهن في الإيذاء النفسي بناءً على المستوى التعليمي للزوج ومدة الزواج.

وفي كتاب بعنوان "إسكات الذات" (Silencing the Self) لعالمة النفس الأميركية، دانا جاك (Dana Jack)، تشير إلى ملاحظاتها السريرية لزيادة خطر الإصابة بالاكتئاب بين مريضاتها اللواتي يملن إلى الانخراط في سلوكيات رعاية الآخرين وإرضاء احتياجاتهم بطريقة قهرية تثبط تعبيرهم الحقيقي عن الذات. وتضيف، إن هذا السلوك المكتسَب متجذر بقوة في المعايير الجنسانية ومحاولة المرأة إنجاح العلاقة الحميمية وتلبية احتياجات الشريك.

اقرأ أيضاً: ما هو أسلوب التثليث للتلاعب في العلاقات وكيف تنجو منه؟

10 علامات تشير إلى أنك تمارس إسكات الذات

لا يشير التزام الصمت والاحتفاظ بآرائنا ومشاعرنا لأنفسنا إلى سلوك إسكات الذات السلبي دائماً، فالتزام الصمت أحياناً يحافظ على السلام ويحمينا؛ غير أن وجود كاتمٍ لصوتك الداخلي هدفه الدائم استرضاء الآخرين مؤشرٌ إلى زيادة احتمالية فقدانك لذاتك الحقيقية. فيما يلي العلامات التي تدل على أنك تُسكِت صوتك:

  • تتأثر بآراء الآخرين أكثر من تأثرك بآرائك الشخصية.
  • تشعر بالمسؤولية تجاه مشاعر الآخرين.
  • لا تعرف ماهية مشاعرك لأنك تركز وتنتبه بشدة إلى ما يشعر به الآخرون.
  • تتجنب التحدث في علاقاتك العميقة خوفاً من إثارة أي نزاعات.
  • تجد صعوبة في أن تكون على طبيعتك داخل علاقة مقربة.
  • تُظهر السعادة في الوقت الذي تشعر فيه بالغضب والانزعاج.
  • تضع احتياجات الآخرين قبل احتياجاتك دوماً.
  • تخاف الظهور بمظهر الأناني.
  • تشعر بأن شريكك لا يعرف شخصيتك الحقيقية.
  • لا ترقى أبداً إلى مستوى المعايير العالية التي تحددها لنفسك.

كيف تتحرر من ممارسة سلوك إسكات الذات؟

يصعب التخلص من سلوكٍ تدميري مثل إسكات الذات، وبخاصة عندما يكون متجذراً بعمق في السلوك الفردي العام؛ حيث يصاحب فكرة محاولة التوقف عن ممارسته مخاوف عميقة من خسارة العلاقات المهمة. لذلك؛ يجب عدم عَد التعافي من هذا النمط السلوكي مهمة سهلة؛ بل يجب منحها الوقت الكافي، وبذل المجهود المستمر لتحقيق السلام الداخلي واحترام الذات. وفيما يلي نقترح 6 استراتيجيات فعالة للتغلب على الميول إلى ممارسة إسكات الذات:

  1. عزز وعيك الذاتي: اعترف لنفسك أنك تمارس سلوكاً مضراً بصحتك النفسية، وانتبه إلى الظروف التي تميل فيها عادةً إلى إسكات ذاتك؛ إذ يعد الوعي الذاتي خطوة أولية مهمة لتعديل سلوكك.
  2. احترم مشاعرك كلها: اعترف بمشاعرك وأكرمها حتى لو كانت سلبية مثل الغضب أو مزعجة بالنسبة إليك. وبدلاً من تجاهل المشاعر غير السارة، احتضنها وفكر في احتياجاتك في الوقت الحالي.
  3. ضع حدوداً صحية: إن التعبير عن مشاعرك واحتياجاتك وما يمكنك تحمله يعزز علاقاتك ويجنبك الشعور بالاستياء الدائم، ويعزز احترامك لنفسك، ويمنحك الشعور بالتحرر.
  4. أعطِ الأولوية لاحتياجاتك الشخصية كلما أمكن: يمكن أن يؤدي الإهمال المستمر لاحتياجاتك إلى الاستياء والصراعات الداخلية. لذا؛ اجعل من الرعاية الذاتية أولوية لك؛ ما سيؤهلك للإسهام إيجابياً في علاقاتك بعيداً عن إهمال نفسك.
  5. لا تخف تخييب ظنون الآخرين: حتماً ستكون ثمة لحظات ومواقف لن تستطيع فيها تلبية احتياجات الشخص الآخر أو رغباته، سواء بسبب التوقيت غير المناسب أو انعدام القدرة أو الظروف الخارجية المختلفة. لن تنضج عاطفياً إن لم تدرك أنك غير مسؤولٍ عن سعادة الآخرين.
  6. اعرف قيمتك الذاتية: يتضمن ذلك رعايتك لنفسك واستثمارك في نموك الشخصي عبر أبعادٍ مختلفة؛ النفسية والعاطفية والجسدية والاجتماعية والروحية والمالية من خلال متابعة الاهتمامات الشخصية أو ممارسة الهوايات أو العمل التطوعي أو طلب التوجيه المهني لتحديد نقاط القوة وتطويرها.

اقرأ أيضاً: هل تعاني سلوكات تدمّر ذاتك؟ إليك الأسباب والعلاج

في عالم حيث الأعراف المجتمعية غالباً ما تملي علينا تصرفاتنا وتفاعلاتنا، يظهر سلوك إسكات الذات كآلية تكيف متأصلة بعمق في نسيجنا الاجتماعي، فقد يتنكّر في صورة عمل خيري نشارك فيه، أو لفتة إنسانية تجاه صديق الأسرة مراعاة لمشاعر أفراد أسرة آخرين؛ إلا أن تداعيات هذا السلوك تمتد إلى ما هو أبعد مجرد سلوكيات غير مضرة؛ إذ تتوغل في أعماق صحتنا النفسية، فمع كل احتياج ومشاعر مكبوتة، فإننا لا نعرّض صحة علاقاتنا إلى الخطر فحسب؛ بل نعرّض أنفسنا أيضاً إلى اضطراب صامت ندفع تكلفته غالياً.

المحتوى محمي