حارب الكمالية بالرضا وتحرر من شقاء المُثل العليا

مؤسس الكمالية ألفريد أدلر
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: وضع عالم النفس النمساوي ألفريد أدلر (Alfred Adler) مفهوم الكمالية (perfectionism) الذي ازداد انتشاره مؤخراً، وبخاصة بين الشباب، وجعلَهم أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق، وكذلك المعاناة من الصداع والإرهاق والأرق. وعلى عكس الشائع، فالكمالية تجعل الفرد أقل إنتاجية وأكثر تسويفاً، ويتسم الكمالي بعدة صفات مثل تركيزه على النتائج فقط وتدني احترامه لذاته. لكن ما الذي يجعله كذلك؟ وفي حال كان الشخص كمالياً فما الإرشادات التي يمكنه باتباعها أن يتعافى من كماليته؟ هذا ما سيجيب عنه المقال.

“أصبحت أرى الكمالية حولي في كل مكان، فنحن نعيش في عصر تسيطر فيه وسائل التواصل الاجتماعي وتجعلنا نقارن حياتنا بحيوات الآخرين، وهذا مناخ مثالي لتتكاثر فيه الكمالية”!

يؤكد وجهة النظر السابقة عالم النفس في جامعة باث الإنجليزية (University of Bath)، توماس كوران (Thomas Curran) الذي حلل بيانات أكثر من 40 ألف طالب جامعي لمقارنة شيوع الكمالية بين عاميّ 1989 و2016 ليجد أنها تضاعفت بنسبة 18%؛ ما دفعه إلى التعليق على النتيجة السابقة بأن الشباب أصبحوا أكثر كمالية وزاد اعتقادهم بأن من حولهم يتوقعون منهم أن يكونوا مثاليين.

وتتصل تلك الزيادة بشكل مباشر بارتفاع معدل الإصابة بالاضطرابات النفسية، فوفقاً لتحليل أجرته جامعة كيرتن الأسترالية (Curtin University) استهدَف مراجعة 284 دراسة علمية؛ ترتبط الكمالية بالإصابة بالاكتئاب والقلق واضطرابات الطعام، وسلوكيات الإيذاء المتعمد للنفس والوسواس القهري؛ كما يمكن أن تؤدي إلى أعراض جسدية أهمها الإرهاق والصداع والأرق.

لكن لنعد بضع خطوات إلى الوراء ونسأل السؤال صفر وهو: من الذي أسس مصطلح الكمالية (perfectionism)؟ وبالبحث عنه وجدنا أنه عالم النفس النمساوي ألفريد أدلر (Alfred Adler) الذي سنتعرف إليه في هذا المقال، وفي الوقت نفسه سنستعرض سمة الكمالية وتأثيراتها وعلاجها.

من هو ألفريد أدلر؟ وما أهم أفكاره؟

وُلد ألفريد أدلر في العاصمة النمساوية فيينا يوم 7 فبراير/ شباط من عام 1870، وقد أُصيب بالكساح في سن الرابعة، وبعد سنة واحدة كاد أن يموت نتيجة إصابته بالالتهاب الرئوي، وقد جعله هذان الموقفان يقرر أن يصبح طبيباً عندما يكبر، ليحصل على شهادة الطب من جامعة فيينا عام 1895.

وقد بدأ حياته المهنية طبيباً للعيون لكنه غيّر مساره لاحقاً إلى الطب النفسي، وفي عام 1907 دُعي ليكون ضمن المجموعة التي تناقش أعمال عالم النفس الشهير سيغموند فرويد (Sigmund Freud) الذي رغم اختلافه معه؛ إلا أنه عيّنه رئيساً لجمعية فيينا التحليلية التي تطورت لاحقاً إلى جمعية التحليل النفسي الحر ثم أصبحت جمعية علم النفس الفردي.

وقد أسس أدلر علم النفس الفردي الذي يتبنى نظرية وجود دافع يقف وراء سلوكياتنا وخبراتنا جميعها؛ وهو ما جعله يضع لاحقاً مفهوم السعي إلى تحقيق الكمال أو الكمالية التي وصفها بأنها الرغبة الموجودة في داخل كلٍّ منا لتحقيق الذات بحيث نكون أكثر قرباً للمُثُل العُليا التي وضعناها لأنفسنا.

وكان أدلر يرى أن الكمالية ما هي إلا آلية دفاعية للتعويض عن مشاعر الدونية التي تنشأ في مرحلة الطفولة؛ وذلك ما يجعل درجاتها متفاوتة بحسب تعرضنا للنقد أو التخلي عنا عاطفياً في الصغر، فالسعي إلى الكمال يصور لنا أننا أكثر سيطرة على مجريات الأمور؛ ما يعوض الطفل الضعيف عن التجارب المؤذية التي عاشها من هجر أو إصدار للأحكام أو وصمه بالعار.

ما هي الكمالية؟

يعرّف موقع سايكولوجي توداي (Psychology Today) الكمالية بأنها سمة شخصية تجعل الحياة سباقاً مفتوحاً نحو المزيد من الإنجازات، وهي سمة صحية عندما تكون محفزاّ ذاتياً يجعلنا نتغلب على الصعاب التي تقابلنا في حياتنا؛ لكنها يمكن أن تتحول إلى سمة غير صحية عندما تجعلنا غير راضين مهما حققنا فذلك سيُصيبنا بالتعاسة المستمرة.

وتوضح الباحثة بكلية الخدمة الاجتماعية التابعة لجامعة هيوستن الأميركية (University of Houston)، برين براون (Brene Brown) بعض السلوكيات التي تدل إلى الكمالية؛ مثل قضاء نصف ساعة في كتابة رسالة بريد إلكتروني قصيرة، أو الاعتقاد بأن نقص درجتين في الاختبار علامة على الفشل، أو المقارنة المستمرة للإنجازات الشخصية بإنجازات الآخرين، أو تجنُّب الأعمال التي يرى الفرد أنه لن يحقق فيها الكمال، والتركيز على النتيجة بدلاً من الاهتمام بالتعلم من التجربة.

لماذا يصبح البعض كمالياً؟

يقف العديد من الأسباب وراء اتسام الشخص بالكمالية؛ وفي مقدمتها وفقاً للطبيبة النفسية هيلي شافير (Hailey Shafir) النشأة مع والدَين متسلطَين شديديّ الانتقاد، فأسلوب الأبوة والأمومة عامل أساسي في تغذية الكمالية، فعندما يضع الوالدان توقعات عالية لأبنائهما يرسخ ذلك فيهم السعي المستمر وراء الكمالية حتى بقية حيواتهم.

وقد يكون السبب أيضاً المرور بتجارب صادمة في مرحلة الطفولة أو المعاناة من الحرمان العاطفي؛ إذ تقلل التجارب السابقة من احترام الشخص لذاته ما يدفعه إلى التعويض عبر سلوكه الكمالي الذي، من وجهة نظره، سيجعله يحترم نفسه ويحظى باحترام من حوله.

وتضيف المختصة النفسية شونا ووترز (Shonna Waters) إلى الأسباب السابقة أن يعيش الفرد في محيط يميل معظم من فيه إلى الكمالية في سلوكياتهم؛ وهذا ما يجعله يندفع لا إرادياً إلى تقليدهم في حياته اليومية.

كيف تعرف إذا كنت كمالياً أم لا؟

ربما ستتساءل إذا كنت تميل إلى إنجاز الأمور على ما يرام أو كنت تعاني من الكمالية، لذا إليك هذه العلامات التي بحسب المختصة النفسية إليزابيث سكوت (Elizabeth Scott) تدل إلى أن الشخص كمالي:

  1. التفكير بطريقة كل شيء أو لا شيء: فالشخص الكمالي يختلف عن الطَّموح في أنه يضع أهدافاً عالياً لكنه عندما لا يحققها بنسبة 100% يعتبر أنه قد فشل، بينما المتفوق يستفيد من أخطائه ويكون سعيداً بما حقق.
  2. الانتقاد الشديد وجَلد الذات: يوجه الكمالي هذا الانتقاد إلى نفسه ومن حوله ويميل إلى التركيز دوماً على الأخطاء والعيوب حتى في الإنجازات التي تستحق الإشادة.
  3. يصبح الخوف هو الدافع للإنجاز: بالنسبة إلى الشخص الطَّموح يكون الدافع نحو تحقيق أهدافه هو الرغبة في إنجازها، بينما يندفع الشخص الكمالي بالخوف من عدم قدرته على تحقيقها وهذا يعني بالنسبة إليه انتقاص كماليته.
  4. المعايير غير الواقعية: يضع الكماليون أهدافاً عالية لا ترتبط بالواقع ويظنون أنهم بذلك سيكونون أكثر نجاحاً وتميزاً عن غيرهم.
  5. التركيز على النتائج فقط: لا يستمتع الكماليون برحلة الوصول إلى الهدف وما يتعلمونه من دروس مستفادة خلالها؛ إنما يصبون تركيزهم كاملاً على تحقيق النتيجة المثالية.
  6. الميل إلى الاكتئاب إذا لم يتحقق الهدف: وهذا ما يجعل الكماليين أقل سعادة من الطَّموحين، فالشخص الطَّموح إذا فشل في تحقيق هدفه سيتعلم منه ويحاول مرة أخرى، بينما الكمالي سيغرق في مشاعره السلبية ليكون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق أيضاً.
  7. التسويف: نظراً لأن العلامات السابقة تجعل الكماليين غير قادرين على التكيف؛ فهم يلجؤون إلى التسويف من أجل انتظار الظروف المواتية التي يظنون أنها ستسمح لهم بتحقيق أهدافهم كما يتخيلون.
  8. تدنّي احترام الذات: ينتقد الكمالي نفسه باستمرار وهذا ما يجعله لا يحظى باحترام ذاته، بينما الشخص الطَّموح يستطيع تقييم إنجازاته بتوازن ويفصل بينها وبين قيمته الذاتية.

الكمالية مؤذية!

يسوَّق للكمالية في كثير من الأحيان على أنها سمة شخصية إيجابية، فأحياناً عندما يُسأل أحد المرشحين لوظيفة عن ميزته الكبرى فيجيب بأنها السعي إلى إنجاز المهام بنسبة 100% دون وضع أي هامش للخطأ البشري؛ وذلك ما يجعلها سبباً للإضرار بحياة الإنسان.

وكشفت دراسة علمية أجرتها جامعة ولاية جورجيا الأميركية (Georgia State University) أن الكمالية تزيد خطر الإصابة بالاكتئاب واضطرابات الطعام والصداع النصفي والإرهاق واضطرابات الشخصية؛ كما تؤدي إلى انخفاض الطاقة وزيادة التوتر وحدوث مشكلات في العلاقات لتدفع الشخص أحياناً إلى التفكير في الانتحار.

وقد يظن الكماليون أنهم بالتزامهم الكمالية سيزيدون إنتاجيتهم، بينما هي في حقيقة الأمر تتسبب في جعلهم أكثر عرضة للتسويف بحسب الاستشاري الإداري سيمون سينك (Simon Sinek)؛ إذ إنهم يغرقون في التفاصيل الصغيرة التي تستنفد وقتهم، بينما كان الأولى أن يذهب هذا الوقت المهدَر إلى مهام أكثر أولوية لأن الإنجاز أهم من الكمالية.

وإذا عدنا إلى التحليل الذي أجراه عالم النفس توماس كوران وأشرنا إليه في مقدمة المقال، سنجد أنه يصف الكمالية باعتبارها معرقلاً وليس دافعاً نحو النجاح، ويضرب مثالاً على ذلك بالطالب الكمالي الذي إذا وجد أنه فوَّت عدة درجات في نتيجة الاختبار سيفسر ما حدث بأنه دليل على فشله ومن ثم سيصبح أكثر ميلاً للغضب والاستسلام بسهولة، فلا يبذل المزيد من الجهد لتحقيق نتائج أفضل في الاختبارات القادمة.

10 إرشادات تساعدك على التخلي عن الكمالية

إذا كانت الكمالية قد أفسدت عليك حياتك فما زالت هناك فرصة لإصلاحها باتباع بعض الإرشادات؛ وأهمها:

  1. فتّش عن الجذور التي جعلتك تميل إلى الكمالية واعمل على فهمها وعلاجها.
  2. مرّن نفسك على التركيز على الإيجابيات لتكون راضياً عن النتائج التي حققتها حتى وإن لم تبلغ الكمال.
  3. أفسِح لنفسك المجال لارتكاب الأخطاء وسامح نفسك عليها، فهي بمثابة دروس تتعلم منها وأهميتها في حياتك مثل أهمية النجاح تماماً.
  4. اجعل أهدافك منطقية وواقعية وملائمة لإمكانياتك، واحرص على عَيش حياة متوازنة.
  5. لا تأخذ الانتقادات على محمل شخصي أو تنزعج منها، فالنقد البنّاء يطور شخصيتك ومهاراتك.
  6. قلل ضغطك على نفسك في سبيل إنجاز المزيد دائماً، وحاول أن تفخر بما حققت لتسعد ذاتك وتعوضها عن التعاسة التي أغرقَتها فيها الكمالية.
  7. تجنَّب التسويف بهدف إنجاز المهمة على أتم وجه، فلا مانع أن تتفاوت نسبة إتقانك للمهام المسنَدة إليك.
  8. راقب تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي في دوافعك فهي قد تجعلك تتطلع إلى الكمال.
  9. تحلَّ بالمرونة وتقبَّل تغيُّر الخطط وحاول أن تتكيف معه فهذا سيجعلك أكثر قدرة على الإنجاز.
  10. في حال واجهتك صعوبة في التخلي عن الكمالية رغم اتباعك الإرشادات السابقة، فلا تتردد أن تلجأ إلى المعالج النفسي.

كما رأينا فالكمالية لا توصل المرء إلى السعادة أو الرضا؛ إنما تجعله أكثر قرباً إلى خيبات الأمل المتكررة ومن ثم الإحباط الذي قد يؤدي به إلى الاضطرابات النفسية. لذا علينا أن نفرق بين الطُّموح والرغبة في الإنجاز، والكمالية والتطلع إلى عيش حياة خالية من الأخطاء، وإن كانت شخصيتك تتسم بالكمالية فاعلم أنه حان الوقت لتعيش حياة تركز فيها على الاستمتاع بالتجارب بدلاً من الانشغال بنسبة تحقيق الأهداف ووضع قيود مستمرة بهدف سير الأمور كما تريد.

المحتوى محمي !!