تجدُ نفسك دائماً عُرضةً لسيل شكواه الذي لا يتوقف؛ قد يكون هذا الشخص زوجاً أو زميل عمل أو صديق طفولة أو حتى أحد الوالدين؛ وتجربتك هذه معه ليست وليدة اليوم بل ضاربة بجذورها في الزمن. يوضح هذا المقال أن وضْعَ حدّ للتعرض المستمر لشكواه وتبرمه لا يعد فقط حلّاً لكَ، بل هو بمثابة أهم مساعدة يمكن أن تُقدَّمها لهذا الشخص الشكاء أحياناً.
من منا لم يصادف في حياته شخصاً شكّاء، لا يكل ولا يملّ من التبرّم؟ ثمة احتمال كبير أن اسم شخصٍ من دائرة معارفك الضيقة قفز إلى ذهنك مباشرةً الآن وأنت تقرأ المقال. وعلى الرغم من أننا لا نألو جهداً في توجيه النصح لهم، غير أن كل ما نبذله من جهود يذهب سدى، ونكتشف في النهاية ألا شيء قادر على الوقوف في وجه شكواهم.
التأويلات الخمسة للشكوى
يوضح الاختصاصي والمحلل النفسي الذي تناول في كتابه الأخير تحليل شخصية الشكائين بسبب ودون سبب؛ سافيريو توماسيللا (Saverio Tomasella) قائلاً: "أساس المشكلة أن الشكاء لا يدرك أنّه شكاء". ثم يشرع في تعداد التأويلات الخمسة لما أطلق عليه اسم "الشكوى المعاصرة":
- "أعيروني انتباهكم": والغاية من هذه الشكوى إعطاء قيمة للذات وجذب الانتباه.
- "تعاطفوا معي": هي شكوى تُرغم المستمع على أن يشفق على الشكّاء، وفي حال لم يُظهِر المُستمِعُ ما يكفي من التعاطف فإنه على الفور يوصَم بالجحود.
- "ضحية الجينات": ويتعلق الأمر بشكوى تتكرر وترتكز حول مشكلة غير واضحة المعالم أو مشكلة متوارثة عبر الأجيال أو مشكلة تتعلق بإدارة العلاقات الإنسانية أو العاطفية سائدة في العائلة.
- "احذروا ثمة خطر محدق": وهي شكوى تبقى ملتبسة ما لَم يطّلع المحيطون على خبايا نفس صاحبها وحياته؛ كأن يفهموا أنه يحمل معه آثار صدمةٍ ما تعود للطفولة، تفسر لهم لِمَ يُكثِر الشكوى من أمور بعينها، كاحتمالية تعرضه للعنف أو التحرش فيما لا شيء يُنبئ بذلك على الإطلاق.
- "كتاب حياتي": يتعلق الأمر بالإصرار على النّدب والنواح على الرغم من عدم الترحاب الذي تقابَل به هذه الشكوى من طرف المحيط، ما ينجم عنه نتيجة عكسية إذ يزيد من حدّتها.
من ندب الحظ إلى إحداث التغيير
حتى وإن كان لهذه الشكوى أساس من الصحة، فإن ذلك لا ينفي إتعابَها لأعصاب المقربين من الشخص الشكاء، لاسيما حين يجمع الشخص كثير الشكوى بين إصراره على الاستمرار في التشكِّي ووقوفه مكتوف الأيدي أمام ما يحصل بسلبية تامة.
كيف نتعامل مع هذه الوضعية المتكررة؟ يُفضَّل للمرء الذي يواجه هذا النوع من المشكلات، أن يتفادى القيام بأمرين اثنين: الأول يتمثل في التعامل مع الشكوى بطريقةٍ مُهينة تُحرج الشخص كثير الشكوى، والثاني أن تجاريه في ما يقول ثم لا تلبث أن تحوَّله مادة تَنَدُّر وسُخرية فور أن يدير ظهره وينصرف.
يرى سافيريو توماسيللا بأن أفضل موقفٍ يمكن أخذه إزاء هذه الحالة هو ذاك الذي "يسمح للشكّاء بالشعور بأن الآذان صاغية لشكواه، مع مساعدته بالتدريج على التقليل منها". لا يعني ذلك الاستهانة أو التقليل من شأن الآلام أو الأحزان المَعيشة، ولكن تنبيه الشخص إلى الطابع التكراري الذي يسم شكواه. "لا يمكن أن نلوم الشخص المقرّب من الشكاء حين يجد في تكرار الشكوى مبالغة لا تحتمل، في المقابل يمكن له أن يساعده في إعطاء كل معاناة حجمَها الطبيعي. فمن خلال ذلك، تطمئنه على قدره عندك من جهة، وتُشبع لديه رغبته في أن يكون مفهوماً ومسموعاً من جهة أخرى".
هذه الاستراتيجية المبنية على التعاطف ورسم الحدود تجاه الآخر؛ تساعد الشخص الشكّاء على التخلص من الشكاوى التي لا أساس لها، وتُخول له التمييز بين الأحزان التي يمكن أن تجد لها أسباباً قوية ووجيهة وتلك التي نختلقها من رؤوسنا، كما تدربه على عدم الاكتفاء فقط بندب الحظ ولكن تدفعه للأمام ليتقدم خطوات نحو إيجاد حلّ لها. يؤكد المعالج النفسي أنه: "شيئاً فشيئاً سيكتسب الشكاء الثقة في نفسه وفي الآخرين؛ ويتخلص من الدوافع التي تقف خلف نواحه المستمر". غير أنه تنبغي الإشارة إلى أنه لا شيء يُلزِم المرء بأن يستمر في تعريض نفسه كل يوم لسيل من الشكاوى لاسيما بعد أن أنصت لها بتفانٍ فيما مضى واقترح حلولاً لها لم تُؤخَذ بعين الاعتبار، ذلك أن البعض يستطيبُ الشكوى لما يجدُه فيها من سلوان وعزاء. فإذا كانوا قد عقدوا العزم على الاستمرار في اختيارهم هذا والرمي بكل محاولاتنا عرض الحائط؛ فإن الضرورة تُحتم إبلاغهم أننا اخترنا بدورنا التوقف عن التعرض لشكواهم هذه.