ملخص: استطاع المسلسل المصري "صلة رحم" أن يجذبني من حلقاته الأولى، خاصة أن بطلة العمل، ليلى، طبيبة نفسية، وبمرور الوقت، تفقد جنينها وتخضع إلى عملية استئصال الرحم، وتكتشف أن زوجها كان يخونها مع حبيبته السابقة في الوقت الذي كانت تعاني فيه النزيفَ الشديد، ومع هذه الصدمات كلها، يداهم شبح الاكتئاب غرفة ليلى في المستشفى، فهل يمكنها علاج نفسها كونها تعمل طبيبة نفسية؟ الإجابة من خلال هذا المقال.
محتويات المقال
جدران صمّاء وإضاءة شديدة القتامة، محاليل طبية معلقة إلل جانب الغرفة. على سرير المستشفى الصغير، تقبع الطبيبة النفسية ليلى بطلة المسلسل المصري "صلة رحم" الذي يُعرض خلال شهر رمضان الجاري. وقد تعرضت ليلى إلى صدمة نفسية كبرى حين فقدت جنينها الذي حاولت كثيراً أن تحمل به بسبب الحادث المروع الذي تعرضت إليه، ولم تتوقف الصدمات عند هذا الحد، فحين خضعت إلى عملية استئصال الرحم اكتشفت أن زوجها كان يخونها مع حبيبته السابقة بينما كانت تعاني النزيف الشديد؛ وهذا الأمر تسبب في الحادث لأنه كان يقود السيارة تحت تأثير الخمر، فكيف ستتعامل ليلى مع هذه الصدمات المتتالية كلها؟ وكونها طبيبة نفسية؛ هل يمكن أن تساعد نفسها، خاصة بعد أن تناولت الكثير من المهدئات؟ وعموماً، هل يعالج الطبيب النفسي نفسه؟ الإجابة في هذا المقال.
الأطباء النفسيون يعانون الأمراض والصدمات النفسية أيضاً!
نشرت المكتبة الوطنية الأميركية للطب (The National Library of Medicine) دراسة بحثية حديثة في فبراير/شباط 2024 استهدفت معرفة مدى انتشار الاكتئاب بين الأطباء النفسيين في تايلاند. واستطلعت الدراسة آراء 225 طبيب نفسي، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن 12.4% من الأطباء يعانون الاكتئاب بسبب الشعور بالوحدة وضغط العمل الناتج من عدم القدرة على التحكم في جدول المهام اليومية.
وفي سياق متصل، أُجريت دراسة علمية حديثة مشابهة في الصين ونُشرت عام 2023، وأكدت نتائجها أن مهنة الطب النفسي تحمل عبئاً عاطفياً كبيراً ومتطلبات مرهقة، وكانت هذه الدراسة تهدف إلى التحقق من مدى انتشار عوامل الخطر للإصابة بالاكتئاب والقلق والإرهاق بين الأطباء النفسيين في بكين خلال جائحة كوفيد-19، وقد شارك فيها أكثر من 500 طبيب نفسي، وكان معدل انتشار أعراض الاكتئاب والقلق والإرهاق بينهم 33.2%. وقد أوردت الدراسة الكثير من الأسباب التي يمكن أن تسبب للأطباء النفسيين الضغط النفسي والشعور بالاكتئاب؛ أهمها:
- زيادة ساعات العمل.
- الاتصال الطويل الأمد مع الأشخاص الذين يعانون الاضطرابات النفسية ينطوي على ضغط نفسي كبير.
- قلة التقدير الاجتماعي.
وأضافت الدراسة أن الأطباء النفسيين غالباً ما يعانون الاحتراق الوظيفي؛ وهو متلازمة نفسية عادة ما تحدث استجابة إلى الضغوط المهنية المزمنة، وتتكون من 3 أبعاد رئيسة: الإرهاق الشديد، وتبدد الشخصية، وانخفاض الإنجاز الشخصي. وفي هذه الدراسة، ارتبط الاحتراق الوظيفي ارتباطاً وثيقاً بالاكتئاب والقلق.
لماذا لا يلجأ بعض الأطباء النفسيين إلى طلب المساعدة النفسية؟
يؤكد أستاذ الطب النفسي محمد المهدي إن الطبيب النفسي مثله مثل البشر؛ من الممكن أن يُصاب بالأمراض النفسية، مشيراً إلى أن نسبة انتحار الأطباء النفسيين أعلى من باقي التخصصات الطبية. ويضيف المهدي إن الاكتئاب يعد من أكثر الأمراض النفسية التي تصيب الطبيب النفسي لأنه يتلقى الكثير من الطاقة السلبية في أثناء جلسات المعالجة، ويتأثر بها، ويخزنها داخل نفسه. لكن لا يلجأ الأطباء النفسيون إلى طلب المساعدة النفسية على الرغم من معاناتهم؛ للأسباب التالية:
- الخوف على مسيراتهم المهنية.
- الشعور بأن المرض النفسي يقلل من مكانة الطبيب النفسي.
- وصمة العار.
- الشعور بالخجل بشأن قبول المساعدة من بعض الزملاء المتخصصين في الطب النفسي.
- الظن أحياناً أنهم أقوى من المرض النفسي، واعتقادهم أن الاكتئاب مرض يعانيه الآخرين وليس هم.
اقرأ أيضاً: متى تصبح زيارة الطبيب النفسي أمراً حتمياً؟
هل يمكن أن يعالج الطبيب النفسي نفسه؟
أجرى أستاذ الطب النفسي في جامعة واين ستيت (Wayne State University)، ريتشارد بالون (Richard Balon)، استطلاعاً للرأي بين الأطباء النفسيين شمل 567 طبيباً، وتوصل إلى نتيجة مفادها أن أكثر من 15% من الأطباء النفسيين عالجوا أنفسهم بالفعل من الاكتئاب؛ فيما أكد 43% منهم بأنهم يفكرون في علاج أنفسهم من أعراض الاكتئاب الخفيف، و7% صرحوا بأنهم سيعالجون أنفسهم حتى من حالات الاكتئاب الشديد والأفكار الانتحارية.
وقد توافقت نتائج هذا الاستطلاع مع بعض الدراسات الاستقصائية التي أجريت على الأطباء النفسيين في فنلندا والنرويج، فقد وجدت أن أغلبية الأطباء يعالجون أنفسهم من الاضطرابات النفسية. ووفقاً لما جاء في هذا الاستطلاع؛ كانت الأسباب الأكثر شيوعاً التي قدمها الأطباء النفسيون لعلاج أنفسهم هي الرغبة في امتلاك سجل طبي وسيرة مهنية خالية من المرض النفسي، تليها المخاوف بشأن وصمة العار المرتبطة بالمرض النفسي، وتعكس هذه النتيجة الأخيرة مدى انتشار وصمة العار المرتبطة بالمرض النفسي في مهنة الطب.
لكن ثمة مشكلة كبرى يمكن أن تحدث حين يعالج الطبيب النفسي نفسه، ففي مسلسل "صلة رحم" على سبيل المثال؛ لم تعالج الطبيبة النفسية ليلى نفسها من آثار الصدمات المتتالية التي تعرضت إليها؛ لكنها عوضاً عن ذلك لجأت إلى تناول المهدئات. وفي سياق متصل، تؤكد الطبيبة النفسية والكاتبة ليندا غاسك (Linda Gask) إنها عانت مدة سنوات طويلة جداً الاكتئابَ الشديد المتكرر، وتناولت مضادات الاكتئاب فترةً طويلة؛ لكنها في النهاية قررت طلب المساعدة من طبيب نفسي آخر وخضعت إلى العلاج المعرفي السلوكي.
وعلى الرغم من أن غاسك تعلم جيداً أن مرضها النفسي سيؤثر في مسيرتها المهنية، فإنها مع ذلك قررت الاستمرار في حضور الجلسات. وفي أثناء رحلة تعافيها، قررت أن تكتب كتاباً عن رحلتها كونها طبيبة نفسية تعاني المرض النفسي؛ حيث تعتقد أننا جميعاً نمر بخسارات في حيواتنا ونشعر بالحزن ونحس بالوحدة ونريد أن نكون محبوبين، والكثير منا يرتكب الأخطاء مراراً وتكراراً، ومع ذلك، علينا أن نتعلم كيف نعيش الحياة بأفضل صورة.
ويشير الطبيب النفسي محمد المهدي إلى أن هناك قاعدة طبية معروفة وهي أن: "المريض لا يعالج نفسه"، ففي النهاية، الطبيب النفسي معرض إلى الإصابة بالأمراض النفسية مثل الاكتئاب، وفي هذه الحالة، يجب عليه ألا يعالج نفسه بنفسه؛ إنما عليه الذهاب إلى طبيب نفسي متخصص آخر. ويضيف المهدي قائلاً إن: "الطبيب هو أصعب مريض" لأنه غالباً ما يتدخل في علاج حالته، وفي الكثير من الأحيان، يحدث هذا التدخل بالسلب ويعوق عملية التعافي، فعلى الرغم من أن الطبيب يعلم أهمية الخضوع إلى العلاج والمتابعة فإنه لا يطبق ذلك على نفسه.
اقرأ أيضاً: ما الذي يجعل المريض لا يحرز تقدماً في العلاج النفسي؟
لماذا يجب أن يطلب الأطباء النفسيون المساعدة من معالجين آخرين؟
تساءلت في أثناء مشاهدة مسلسل "صلة رحم" إن كانت الطبيبة النفسية ليلى التي تعاني الاكتئاب الشديد يمكنها علاج مرضاها الذين يعانون الاضطرابات النفسية، والحقيقة أن استشاري الطب النفسي طارق الحبيب يعتقد أن الطبيب النفسي المصاب بالمرض النفسي يمكنه علاج المرضى النفسيين إذا لم يكن المرض يؤثر في عقله ولا يحصل تعارض بين حالته وحالة المريض، فالطبيب النفسي الذي يعاني رهاب الطائرات على سبيل المثال؛ يمكنه علاج المريض النفسي الذي يشكو من القلق أو الاكتئاب. وفي الحالات كلها، يجب أن تخضع ليلى إلى المعالجة النفسية كما يجب أن يخضع الأطباء النفسيون الذين يعانون القلق أو الاكتئاب إلى العلاج النفسي للأسباب التالية:
- منع الإرهاق: يقضي الطبيب النفسي ساعات طويلة في أثناء عمله في الإنصات إلى آلام الآخرين ومشكلاتهم والتحديات التي يمرون بها. ومع مرور الوقت، قد يشعر بالاستنزاف والإرهاق الشديد، ويمكن أن يؤدي الإرهاق إلى انخفاض الدافع، والميل إلى التوقف عن العمل على نحو متكرر. وفي هذه الحالة، يعد العلاج النفسي جزءاً مهماً من الرعاية الذاتية التي يمكن أن تمنع الإرهاق وتخففه بالنسبة إلى العديد من الأطباء النفسيين.
- معالجة أفكار المرضى النفسيين ومشاعرهم: كثيراً ما يستمع الأطباء النفسيون إلى أعمق مشكلات المرضى؛ مثل الصدمات النفسية وسوء المعاملة والإدمان والعنف الجسدي والنفسي، والاستماع إلى مثل هذه المشكلات يومياً يمكن أن يؤثر في المعالج. وفي هذه الحالة، يساعده العلاج النفسي على معالجة ردود أفعاله تجاه بعض الأشياء التي يسمعها من المرضى من أجل الحفاظ على صحته النفسية.
- التعامل مع المشكلات الخاصة: الأطباء النفسيون والمعالجون هم أناس حقيقيون يعانون مشكلات حقيقية تماماً مثل الأشخاص الآخرين. يمكن للمعالجين أن يواجهوا مشكلات مثل القلق والاكتئاب والحزن والخسارة والتوتر والعديد من المشكلات الأخرى التي يمكن التغلب عليها بجلسات العلاج النفسي.