ما الذي يجعل المريض لا يحرز تقدماً في العلاج النفسي؟

إحراز التقدم في العلاج النفسي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هل يمكننا القول إن العلاج النفسي يسير بسلاسة دائماً؟ ليس تماماً إذ إن الكثير من الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات معينة ويلجؤون إلى العلاج النفسي قد يجدون أن الأسابيع وحتى الأشهر تمضي من دون “إحراز التقدم في العلاج النفسي”. وفيما يلي سنوضح لكم الأسباب.

تقول سمية: “كنت مثل نحلة تحاول الخروج وتضرب نفسها بزجاج النافذة” لأسابيع وشهور كنت مكتئبة بسبب شعور الغضب الذي كان يتملكني تجاه أمي، ولم أكن أحرز أي تقدم في العلاج؛ ما زاد من جهة أخرى شعوري بانعدام قيمتي. وتتابع: “أتذكر نظرة معالجتي النفسية الحانية، وعباراتها النمطية التي كانت ترد بها عندما أتحدث عن حياتي وماضي، فلم أكن أسمع منها سوى كلمات مثل :”نعم. نعم بالطبع”. وحتى عندما أخبرتها برغبتي في إيقاف الجلسات، ردت بعبارة غامضة قائلة: “انتظري، انتظري!”.

لكن أنتظر ماذا؟ يتبادر هذا السؤال إلى أذهاننا عندما نرى أننا لا نحرز أي تقدم في العلاج النفسي وأنه لم يعد يخدم الغاية التي جعلتنا نلجأ إليه. عاشت سميرة ذات الـ 52 عاماً هذا الانطباع بعد خضوعها لثلاث مراحل من التحليل النفسي على مدار 20 عاماً. وتوضح سميرة قائلة: “كنت أتحدث كثيراً في بداية كل مرحلة من مراحل العلاج؛ إذ كان إنصات المعالجين لي  يحثني على الكلام. وفي كل مرة كنت أصل إلى مرحلة أشعر فيها بأنه لم يعد لدي ما أقوله”. وهكذا قررت سميرة إيقاف الجلسات لدى ثاني مختص تحليل نفسي تراه وقالت له آنذاك: “أنت لا تستمع إليّ، ولا أنا كذلك”.

يتولد لدى المريض انطباع مزعج بأن الجلسات أصبحت تتضمن الأسطوانة المكررة ذاتها، وأن لا شيء يتغير في حياته ومن ثم فإن ذلك يجعله يعتقد بأن العلاج لا يسير على ما يرام. ثمة مظاهر دقيقة يجب أن ينتبه إليها المعالج النفسي، ويوضح الطبيب النفسي ومؤلف كتاب “إذا كان علاجك النفسي لا يتقدم” (Si votre psychothérapie n’avance pas)، آلان جيرار قائلاً: “قد يبدي المريض موافقته على كل ما يسمع خلال الجلسة، ويبدو موقفه تصالحياً تماماً، بينما لا يزال يعاني في حقيقة الأمر، إذ يستمر بممارسة السلوكيات ذاتها التي تسبب له هذه المعاناة، ولا يبتكر أي حلول لمشكلاته”. ونتيجة لذلك يشعر المعالج بدوره بالسأم والعجز والانزعاج من المريض، وأن العلاقة بينهما لم تعد علاقة نشطة.

هل يشير بطء تقدم العلاج إلى عدم كفاءة المعالج؟

إذاً ما تفسير عدم تحسن المريض في علاجه النفسي؟ يختلف مختصو التحليل النفسي مع أنصار العلاجات الموجزة، ولا سيما العلاجات السلوكية والمعرفية (CBT)، بشأن هذه النقطة. ترى مختصة التحليل النفسي ومؤلفة كتاب “تأثير الأريكة” (L’Effet divan)، فاليري بلانكو أن الفترات التي يصبح فيها تقدم العلاج بطيئاً هي جزء من العملية العلاجية. وتوضح هذه النقطة قائلةً: “لا يمكن للتحليل النفسي أن يعِد بتقديم نتائج ملموسة للمريض في غضون أسبوعين. إن فهم خصوصية كل حالة وظروفها وشخصية المريض والتعمق في اللاوعي لديه هي أمور تستغرق وقتاً. لذا فإن بطء تقدم العلاج النفسي يرجع إلى الوقت الذي يستغرقه فهم كل ما سبق”.

قد يستغرق المريض وقتاً طويلاً في استيعاب الاستنتاج الذي توصل إليه المعالج والاستفادة منه؛ ما يجعله يشعر خلال هذه الفترة بأن العلاج لا يتقدم. تقول المعالجة النفسية المتخصصة في الإدمان راني دوبرات: “إنها فترة استراحة يتمكن خلالها المريض من التقاط أنفاسه، ثم يستأنف رحلته مجدداً”. فهذا التوقف المؤقت يمنحه الفرصة لفهم وضعه بصورة أفضل قبل متابعة العلاج. يكتشف بعض المرضى بعد فوات الأوان أن هذا البطء الذي يتخلل العلاج بالتحليل النفسي، هو أحد جوانبه المهمة. تقول سميرة: “لقد أدركت بعد 10 سنوات أن الفترة التي شعرت فيها بأن العلاج لا يتقدم كانت فريدةَ من نوعها واستثنائيةً . وبينما بدت بعض الجلسات بالنسبة إليّ كما لو كنت أعبر صحراء خاوية فإنها كانت في الحقيقة سبيل العبور إلى شاطئ آخر؛ مستوىً آخر من فهم الذات”.

أما الأطباء النفسيون المختصون بالعلاج المعرفي السلوكي الذين يعد أسلوب تعاملهم مع الصعوبات النفسية طبياً أكثر، فهم ينظرون إلى الأمر بطريقة أكثر واقعية: العلاج الذي لا يبدو أنه يحرز أي تقدم يعني أن المريض لا يعالَج بطريقة صحيحة. يوضح الطبيب ومختص العلاج النفسي ومؤلف كتاب “اختيار علاج نفسي فعال” (Choisir une psychothérapie efficace)، جان كوترو قائلاً: “نحن نضع اتفاقاً مبدئياً مع المريض ونجري تقييمات كل ستة أشهر، وإذا لم تحل المشكلة التي استشار بشأنها ضمن المدة الزمنية المتوقعة، ولم نحرز تقدماً فيما يتعلق بالأهداف، فهذا يعني أن العلاج لم يكن فعالاً ومن ثم فإنه من الضروري تعديله”. إن عدم تقدم العلاج قد يرجع إلى التشخيص الخاطئ في الأساس. ويوضح المختص قائلاً: “على سبيل المثال قد لا يرى المعالج الرهاب الاجتماعي الكامن خلف القلق الذي يعاني منه المريض”.

إن التشخيص الخاطئ هو بداية سيئة تشير إلى فشل الجلسة الافتتاحية للعلاج النفسي. يقول آلان جيرار:”يفوت المعالج جلسةً أساسية في 3 حالات علاجية من أصل 4، وهي الجلسة التي يرسم فيها المعالج النفسي الخطوط العريضة للعملية العلاجية، ويحدد الأعراض ويصف للمريض الوسائل المتاحة له من خلال شرح الطريقة أو الأسلوب الذي يعتمد عليه نهجه”. وخلال هذه الجلسة أيضاً يمكن للمعالج النفسي أن يوضح للمريض أن مشكلته لن تُحل بين ليلة وضحاها، وأن معاودة ظهور الأعراض التي يعاني منها بصورة دورية ليست دليلاً على فشل العلاج. كما يجب أن تتيح للمريض تحديد ما يتوقعه من علاجه: ما هي آماله، وأهم النقاط التي يريد التغلب عليها وما الذي يفهمه من الطريقة العلاجية المختارة.

لأن الافتقار إلى الحوار البنّاء بين المريض ومعالجه في بداية العلاقة يمكن أن يؤدي إلى عدم التوافق بينهما، وهو أحد الأسباب الرئيسية لعدم تقدم العلاج أو حتى فشله بالكامل، وهي النقطة التي تتفق عليها جميع مدارس العلاج النفسي. يقول جان كوترو: “لا تعد هذه المشكلة خطأ المعالج فهي تشير ببساطة إلى عدم الانسجام بينه وبين مريضه”. ومع ذلك ثمة خطآن إذا ارتكبهما المعالج فقد يشيران إلى عدم كفاءته، ويؤديان إلى أضرار جسيمة. وتوضح راني دوبرات قائلةً: “أما الخطأ الأول، فهو اقتراب المعالج من المريض أكثر من اللازم والضغط عليه؛ ما يجعله غير قادر على التعامل مع الآليات الدفاعية لدى الأخير كالإنكار والتبرير وغيرها”. ويتمثل الخطأ الثاني على العكس من ذلك في وضع المعالج مسافة كبيرة بينه وبين مريضه وتركه فريسةً لسلوكياته القهرية.

وعليه فإن العلاج النفسي يتضمن تكاملاً بين دور المريض ودور المعالج النفسي الحاسم الذي يتمثل بصورة رئيسية في مراقبة الحالة بصورة مستمرة؛  والتخلص من نقاط “التحيز العمياء” التي تجعله يتبنى موقفاً غير فعال تجاه المريض. في كتابه “حياة لتكون على طبيعتك” (Une vie pour être soi)، يوضح المتخصص بالتحليل التفاعلي، الأميركي وليم كورنيل كيف سمح لنفسه بتجاوز معاناة مرضاه الحقيقة لفترة طويلة، متأثراً بالإهمال الذي تعرض له في طفولته، فكان يحاول إبقاء المرضى هادئين وسعداء تماماً كما كان يفعل مع والدته عندما كان طفلاً؛ ما أدى إلى عدم تقدم علاجهم مطلقاً.

كيف يمكن الخروج من هذا الطريق المسدود؟

في معظم الأحيان يكون التحدث الحل الأمثل لمشكلة عدم تقدم العلاج، لأن المريض الذي يشعر بعدم جدوى العلاج يتوقف تدريجياً عن الكلام. لذلك يتمحور الأمر حول إتاحة الفرصة له ليعبر للمعالج عن ضجره وإحباطه من عدم تقدم العلاج، ومن الضروري أن تصبح هذه الصعوبات جزءاً رئيسياً من العملية العلاجية. تتحدث راني دوبرات عن علاجها النفسي قائلةً: “عندما كشفت لمختص التحليل النفسي عن أكثر الأفكار المخزية التي خطرت في ذهني تخلصت على الفور من شعور الجمود الذي كان يسيطر علي”. إنها طريقة تساعد المرء على التغلب على مقاومته للتغيير، لأن الاستسلام لهذه الأفكار قد يؤدي إلى حالة من اللامبالاة والاكتئاب أوالانشغال الهوسي بمحاولة “التغلب على المعالج”، ومن ثم فإن العلاج لن يتقدم خطوةً واحدة.

وتوضح راني دوبرات أنه على المعالج القيام بالعملية ذاتها: “تجرأ على أن تقول لمريضك: لا أشعر أن كلامك حول هذه النقطة صحيح أوأنت تدور حول النقطة ذاتها، إذ إن لهذه التوضيحات دوراً حاسماً معظم الأحيان. كما توصي فاليري بلانكو باستخدام تقنية حبة الرمل لتحفيز العملية العلاجية، وتنطوي هذه التقنية على توجيه أسئلة متناقضة للمريض تحمله على الكلام بطلاقة أكبر. وقد يلجأ بعض المحللين النفسيين إلى ضرب الطاولة بقبضة يدهم أو حتى تغيير نبرتهم، وعندما تعجز هذه “الاختلالات المحفزة” عن تنشيط العملية العلاجية فإنه يمكن إحالة المريض إلى زميل آخر. ويوضح آلان جيرار قائلاً: “يمكن أن يكون الأمر مؤقتاً؛ إذ يعرف المعالج الجيد أنه قد لا تكون لديه المعرفة الكاملة وأن التقنية التي يستخدمها ليست طريقة سحرية”. إن تغيير الطريقة العلاجية والمعالج قد يساعدك على إعادة صياغة مشاكلك على مستوى آخر. لطالما تلعثمت سمر خلال سنوات من العلاج النفسي التحليلي؛ الذي كانت قد لجأت إليه بعد حالة انفصال لم تتمكن من تقبّلها، إلى أن ذهبت في أحد الأيام إلى مختصة في العلاج بإزالة الحساسية وإعادة المعالجة عن طريق حركة العين (EMDR). تقول سمر: “خلال عشر سنوات من العلاج، لم أجرؤ على الحديث عن حالات الاغتصاب التي تعرضت لها في مراهقتي. وعندما لجأت إلى مختصة في الصدمات تمكنت من الإفصاح عن كل شيء في غضون أسابيع قليلة”.

يميل الكثيرون ممن لا يشعرون بإحراز أي تقدم في العلاج إلى إيقافه ونتساءل هنا هل يمكن أن يصبح هذا الحل جزءاً من العملية العلاجية وموضوعاً للحوار بين المعالج ومريضه: وكيف ذلك؟ نظراً لأن التخلص من الأعراض بصورة نهائية قد يحتاج إلى لمسة أخيرة قد تكون مجهولةً بالنسبة إلى المريض، فإنه من الأفضل الاستمرار في الاستثمار في هذه العلاقة التي بنيتها مع معالجك بدلاً عن إفسادها أو إيقاف العلاج دون سابق إنذار حتى لو تطلب ذلك تعديل هذه العلاقة بالكامل.

تجارب كتّاب خضعوا للعلاج بالتحليل النفسي

ماري كاردينال و “صحراؤها الرمادية العظيمة”

“علمت أن التحليل النفسي لم ينته بعد. كان في داخلي  شيء لم أتمكن من تحديده؛ كانت منطقة بيضاء على خريطتي الداخلية؛ منطقة غير معروفة ومخفية. كنت أذهب إلى الطبيب مرتين في الأسبوع ومع ذلك لم يحدث شيء. مرة أخرى كانت هنالك حالة من الغموض؛ إنها تلك الصحراء العظيمة الرمادية والمسطحة التي امتدت خلف جفنيّ المغلقَين، والانطباع بأنني لن أصل إلى النهاية أبداً”.

مقتطف من كتاب “كلمات يجب قولها” (Words to say it).

كريستين أوربان و “ساعاتها البيضاء”

“الكلمات لا تستطيع أن تقول ما يقوله الصمت. كانت الساعات “البيضاء” هي أكثر الساعات كثافة وفائدة في التحليل النفسي، لقد كانت ساعات خالية من أي كلام. لقد ظل المعالج صامتاً تماماً لدرجة أنه كان لدي انطباع، وأحياناً يقين، أنه قد رحل. ثم، بعد نصف ساعة، سمعت نقر إصبعه السبابة على سيجارته، حتى أنني ظننت أنني سمعت صوت الرماد يرتطم بالصحن. لذلك فقد كان هناك”.

مقتطف من كتاب “مرتين في الأسبوع” (Twice a week).

فرديناندو كامون و”تأثير الوخز”

“بعد عام من خضوعي للعلاج بالتحليل النفسي، توصلت إلى اكتشاف: يجب أن تمر فترة طويلة بين فهم الأعراض واختفائها؛ فترة قد تستمر لعدة أشهر أو سنوات. وهو ما أسميته “تأثير الوخز” لأنه كان مثل وخز البالون بالإبرة؛ عليك أن تنتظر حتى ينكمش رغم عدم وجود ما يشير إلى ذلك. لقد وجدت تفسيراً واحداً أو اثنين أو عشرة تفسيرات لكن الأعراض لم تختفِ. كان الأمر أشبه بوخز منطاد هواء ساخن مرةً أو مرتين أو 10 مرات، فهو لن يتأثر بهذه الثقوب الصغيرة؛ ولكن في غضون شهر أو عام سيفرغ من الهواء تماماً”.

مقتطف من كتاب أمراض الإنسان (Human Disease).

المحتوى محمي !!