من خلال الجمع بين ممارسة التنفس والموسيقى الإيقاعية؛ تنقلنا تقنية الهولوتروبيك التي ابتكرها ستان غروف إلى حالة من الوعي المُعدَّل، وتُخرج الصور المدفونة في أعماقنا. تعرفوا معنا في السطور التالية إلى هذه الرحلة الداخلية المُحَرّرِة للنفس.
استرجع ولادتك، وأصبِح نسراً، واكتشف طقوس الهنود الأميركيين. هل يمكن لعقلنا -في ظل ظروف معينة- تجاوز حدود المكان والزمان لاستكشاف عالم الذرات متناهية الصغر، أو المجرات التي لا حدود لها؟ نعم؛ يقول مختصو علم النفس عبر الشخصي إن هذا ممكن، وذلك بفضل طريقة تنفس الهولوتروبيك (Holotropic).
يعود أصل التسمية إلى الكلمتين اليونانيتين هولوس (holos) وتعني الكمال، وتريبين (trepein)؛ أي التحرك نحو (التحرك نحو الكمال)، وهي طريقة طورها ستان غروف؛ الطبيب النفسي الأميركي من أصل تشيكي.
ويعتمد مبدأ الطريقة على التنفس السريع الذي يؤدي إلى حالة من فرط التنفس؛ التي تعمل بدورها على تعديل الوعي وإظهار صور مدفونة في عمق اللاوعي.
علاوةً على ذلك؛ يتيح لنا أسلوب تنفس الهولوتروبيك التواصل مع اللاوعي الجمعي وبُعدنا الروحي، والتواصل بالتالي مع مجموعة لا حصر لها من التجارب؛ بما في ذلك العودة إلى حياة ما قبل الولادة أو "الحياة السابقة"، وتجربة حالة شبيهة بحالة النشوة الصوفية.
تُستخدم تقنية تنفس الهولوتوربيك في الولايات المتحدة الأميركية بصورة شائعة كأداة علاجية وأسلوب للتنمية الشخصية، وهي تشبه تجربة إعادة الولادة من ناحية اتباع أسلوب التنفس الواعي والمُتَحكَّم فيه، وتليه ممارسة تمارين التخيل.
من جهة أخرى؛ يمارس هذه التقنية عدد قليل من المختصين في فرنسا، ويعود ذلك إلى سببين؛ أولهما تعارض أسلوب الوعي المعدل مع نهج الطب النفسي والتحليل النفسي التقليدي، إضافةً إلى أن التدريب الذي يُجرى في الولايات المتحدة الأميركية يحتاج إلى الكثير من المتطلبات؛ بما في ذلك امتلاك المعالجين خبرة إكلينيكية سابقة قوية.
مرحلة فرط التنفس
غالباً ما يُمارس أسلوب تنفس الهولوتروبيك في مجموعات عبر ندوات ولمدة يومين على الأقل، وفق التالي: يُقسم المشاركون إلى مجموعتين؛ تمارس المجموعة الأولى التنفس في اليوم الأول، ويُخصَّص اليوم الثاني للمجموعة الثانية.
يُنظَّم المشاركون في مجموعات ثنائية؛ حيث يستلقي كل شخص من المجموعة الأولى على مرتبة ليمارس التنفس، ويرافقه شخص من المجموعة الثانية (الذي سيمارس التنفس في اليوم التالي)، ويظل جالساً بجانبه طوال مدة الجلسة من أجل خلق حالة من الثقة.
يمكن أن تستمر الجلسة من ساعة إلى 4 ساعات تبعاً لمدى مقاومة كل شخص. يسبق البدء بالجلسة خلق حالة من الاسترخاء لدى المشاركين عبر تشغيل موسيقى هادئة، ويقدم لهم الميسِّر بعض النصائح حول كيفية الاسترخاء، ثم تصبح الموسيقى أكثر إيقاعيةً.
تعتمد التقنية على التنفس بعمق وبطء في البداية لبضع دقائق، ثم تتسارع وتيرة التنفس تدريجياً؛ كما هو الحال في طريقة "إعادة الولادة"، ويمكن أن تستمر مرحلة فرط التنفس من دقيقة إلى 10 دقائق. أخيراً؛ يطلق المشارك العنان لنفسه، وتتكشف العملية من تلقاء نفسها لتبدأ "الرحلة".
يُغير فرط التنفس بنية الدم؛ إذ يزيد إمداد الهواء من تركيز الأكسجين فيه، ويقلل من تركيز ثاني أكسيد الكربون، فيصبح الدم أكثر "حموضةً"؛ ما يسبب تغيرات في حالة الوعي تتيح للنفس الكشف عن "كنوزها المخفية". خلال الجلسة؛ يتنقل المعالجون في الغرفة منتبهين لجميع حركات المشاركين؛ حيث يكونون على أهبة الاستعداد للتدخل ومساعدة أولئك الذين قد يعانون من القلق أو الرعشة.
في الواقع؛ تتطلب هذه الممارسة التزاماً جسدياً كبيراً، ولهذا فهي تُمنع على النساء الحوامل والأشخاص الذين يعانون من مشاكل في القلب (يُطلب دائماً من الراغبين بالمشاركة إبراز شهادة صحية).
رؤى المشاركين في الجلسات
يقول وسام: "رأيتُ صورةً شديدة الوضوح لنسر يطير تحت الغيوم، وأردت أن أفتح عينيّ لأتأكد من أنني لم أكن أحلم؛ لقد كان مشهداً مثيراً للإعجاب. فجأةً؛ أصبحت أنا النسر، وتركتُ الريح تحملني، واتبعت التلال شديدة الانحدار في بلد مجهول، ورأيتُ هذه المناظر الطبيعية تمرُّ أمام عينيّ كما لو كنتُ هناك؛ كان كل شيء يبدو ملوناً، وكانت هناك تضاريس واضحة؛ لقد بدت لي هذه "الحقيقة" أكثر "واقعية من الحياة نفسها". فجأةً؛ وجدتُ نفسي وسط أفراد قبيلة إفريقية كانوا يغنون ويرقصون بإيقاع، فانضممت إليهم لأشاركهم الرقص؛ ما منحني شعوراً جيداً بطريقة استثنائية".
لطالما كانت علاقات وسام بالآخرين سطحيةً، ودائماً ما عبّر عن استيائه من الاختلاف؛ حتى أنه كان يتبنى سلوكاً عنصرياً في بعض الأحيان.
يقول وسام: "ما حدث لي خلال هذه الجلسة يصعب تفسيره؛ أعتقد أن رؤية النسر سمحت لي بفهم أنه يمكننا رؤية الحياة بطريقة مختلفة، وبعد اندماجي في مجموعة الراقصين الأفارقة، جربتُ شعور التواصل مع الآخرين؛ لقد تغيّر موقفي تغيراً جذرياً".
جدير بالذكر أنه قد لا تكون العودة إلى الواقع بعد انتهاء الجلسات سهلةً بالضرورة، وتوضح لبنى قائلةً: "لقد حظيتُ بجلسة استثنائية إلى حد ما؛ إذ سافرتُ عبر المجرات والكواكب، وشعرتُ بأنني أتحد مع أعماقي الداخلية لأول مرة في حياتي".
وتتابع: "لكنني عانيت خلال الساعة التالية من أجل استعادة الحالة الطبيعية للوعي؛ كان الأمر وكأنني كنت أحاول أن أطوي حالة الوعي المعدل". لهذا السبب؛ يدخل أفراد المجموعة بعد انتهاء كل جلسة إلى غرفة أخرى لرسم الصور القوية التي رأوها.
بعد ذلك؛ يمكن للجميع أن يشاركوا التجربة التي مروا بها إذا رغبوا في ذلك، وفي حين أن هذه الممارسة تُعد في الولايات المتحدة مجرد تبادل بسيط للخبرات بين المشاركين، فإنها تؤدي دوراً مهماً في الجلسات التي تُدار في فرنسا فيما يتعلق بتحليل تجارب المشاركين.
يوضح الطبيبان النفسيان؛ دجوهار سي أحمد، وجيرالد ليروي – تيركيم :"عندما نقترح، أو يقترح أحد المشاركين تفسيراته للتجربة التي مرّ بها خلال الجلسات، فإن ذلك يضيئ الطريق لباقي أفراد المجموعة، ويساعدهم في فهم تجاربهم".
عدد لا نهائي من التجارب
إن التجارب التي يمكن للفرد أن يخوضها خلال الجلسة لا حصر لها. وفقاً لستان غروف، فإن حالة الوعي التي تنطوي عليها جلسة أسلوب الهولوتروبيك من شأنها أن تسمح للفرد بالوصول إلى جميع جوانب الوجود؛ مثل تاريخه البيولوجي والنفسي، والاجتماعي، والثقافي، وجميع حقائق العالم المادي، وعلى جميع المستويات الصوفية الموصوفة في كبرى التقاليد الروحية.
لكن كل هذا يتوقف على الشخص ومشكلته التي يعاني منها؛ إذ سيكون لدى بعض الأشخاص رؤى واضحة ودقيقة؛ بينما سيختبر آخرون أحاسيسَ جسديةً فقط. ومثال ذلك حالة ألمى التي تقول: "كنت أعاني من القلق، ودائماً ما كنت أتهرب من مسؤوليات العمل، وكان الرجال يفرون مني. خلال جلسة التنفس الأولى؛ بدأت أرى ألواناً ناعمةً مزرقّة، وشعرتُ أنني بحالة جيدة؛ كما لو كنت محميةَ. ثم أزعجتني الإيقاعات المتكررة للموسيقى وشعرت بغضبي يتصاعد، وأردت أن أصرخ وتزايد شعوري بالإرهاق والتوتر، فاستدعيت الطبيب المعالج للحصول على المساعدة، فثبّت كتفي وشجعني على التعبير عما أشعر به. انتهى بي الأمر بالصراخ والصراع مع عنف لم أكن أعرفه. في ذلك اليوم أدركتُ قوتي، وتوقفتُ أخيراً عن الخوف منها".
تجربة الولادة
يفسر علم النفس عبر الشخصي حالة ألمى بأنها عانت من تجربة سيئة خلال المرحلة الثانية من ولادتها. يعتمد هذا التفسير على إحدى مساهمات ستان غروف العظيمة في علم النفس؛ وهي نظرية المصفوفات الأساسية المحيطة بالولادة (BPM).
ووفقاً له؛ يمر الطفل عند ولادته بأربع مراحل، وهي مجموعة من الأحاسيس الجسدية والعاطفية التي ستترك بصمات عميقة في نفسه. توضح المعالجة النفسية؛ برناديت بلين: "تؤدي هذه المراحل دوراً مهماً في مرحلة البلوغ، ويمكن أن تؤثر في السلوك، وتتيح تقنية تنفس الهولوتروبيك استعادة هذه اللحظات والعودة إلى أصل المشكلة".
فيما يلي توضيح مختصَر لمراحل الولادة الأربع:
المرحلة الأولى: لا يزال الطفل مثبتاً في الرحم، وهو في حالة اندماج مع أمه؛ لكن هذا الوضع المثالي يمكن أن يتأثر بصدمات مختلفة مثل تعرض الأم للإجهاد والضغط البدني، ونقص الغذاء، وما إلى ذلك.
قد يسلك للأشخاص الذين عانوا خلال المرحلة الأولى سلوك تدمير الذات، إضافةً إلى معاناتهم من مشكلات كبيرة في علاقاتهم مع الآخرين.
المرحلة الثانية: هي مرحلة الانقباضات العنيفة التي تقطع الدورة الدموية وتضغط على رأس الجنين، وهي تحول محيطه الآمن إلى جحيم.
يجد الأشخاص الذين مثلت هذه المرحلة معاناةً لهم الرضا في العلاقات الاندماجية.
المرحلة الثالثة: هي مرحلة تقدم الجنين في قناة الولادة. يتعرض الجنين خلالها لضغط كبير، ويمكن أن تؤدي غلبة هذه المرحلة على الشخص إلى بحثه عن تجارب قوية ليشعر بالرضا.
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة التحرر التي يصبح فيها المولود فرداً. إذا رحب الوالدان بالطفل بحب، وسارت المراحل السابقة بصورة جيدة، فإن هذه المرحلة لن تشكل أي مشكلة بالنسبة إليه. أما في حالة رفض الوالدين للطفل فإن ذلك قد يسبب له أمراضاً في مراحل لاحقة من حياته.
ستان غروف مؤسس علم النفس عبر الشخصي
في الستينيات، وبفضل نظرية الدافعية الإنسانية التي وضعها عالم النفس الأميركي الشهير أبراهام ماسلو؛ أسست مجموعة من المختصين ما يُعرف بـ "علم النفس الإنساني"، بهدف إدراك الحالات المتغيرة للوعي؛ بما في ذلك التجارب الصوفية، كظواهر طبيعية، ثم انضم ستانيسلاف غروف؛ وهو طبيب نفسي تشيكي شاب إلى ماسلو.
عمل غروف في المستشفيات مع مرضى يعانون من أمراض أو مشكلات نفسية خطيرة، ولاحظ أن حالات الوعي المعدّل المتغيرة ستكون لها إمكانات علاجية حقيقية.
سمح له هذا العمل بتطوير نموذج جديد للذات عبر رسم خرائط لجميع ظواهر العقل، كما أسس مع ماسلو علم النفس عبر الشخصي من خلال دمج جميع ظواهر العقل والتجارب البشرية حتى أندرها؛ كخوارق اللاشعور، وتجارب الحياة الماضية أو تجارب النشوة وغير ذلك.
يتميز علم النفس عبر الشخصي بانفتاحه على جميع الأبعاد الروحية للإنسان، وعدم رفضه لأي من المدارس الأخرى.
في عام 1975، سعى غروف إلى إيجاد طريقة طبيعية لتحفيز حالات متغيرة من الوعي عبر دراسة الطقوس الشامانية، واكتشف أن جميع الثقافات قد طورت تقنيات التنفس بغية الحصول على تغييرات عميقة في الوعي، ثم طوّر أسلوبه عبر الجمع بين أساليب التنفس، والموسيقى، وتقنيات تحرير الطاقة؛ مثل تقنية العلاج بالضغط اليدوي.