تتمحور مساعدة شخص عزيز على تجاوز حزنه لفقدان أحد أحبائه قبل كل شيء حول حسن الاستماع وإظهار التعاطف. ولكن من المهم أن تعرف أيضاً أنه سيمر بمراحل الحداد الخمس؛ وهي:
- الصدمة
- الإنكار
- الغضب
- الاكتئاب
- التقبل
الحداد عملية داخلية
ألقى صديقك بنفسه على الكرسي مقهوراً فقد وصله للتو خبر وفاة والده. وفي محاولة منك للتخفيف عنه تقول له : "كما تعلم، لقد كان كبيراً في السن ثم إنه عاش حياةً غنيةً". ثم تتلعثم وتعجز عن قول أي شيء آخر.
فقد زميلك في العمل طفله العام الماضي ويقترب موعد الذكرى السنوية لوفاته. ولتثبت له أنك لم تنسها فقد استحضرتها أمامه بلطف، فقال منزعجاً: "لا أريد التحدث عن الأمر".
عندما تلقي فجيعة الموت بظلها على الأشخاص من حولنا، فإننا نشعر بالعجز وقلة الحيلة ونتساءل: ”كيف يمكننا التعامل مع حزن أحد أحبائنا؟ وكيف يمكننا أن نساعده؟”. في الواقع لا يوجد معيار محدد للسلوك الأمثل الذي يجب اتباعه في هذه الحالة. ويعود ذلك ببساطة لعدم وجود معايير تحكم هذا الموقف في الأساس.
ومع ذلك فإننا نتعلم المزيد كل يوم عن هذه الرحلة الداخلية النفسية التي يفرضها فقدان أحد الأحباء. "إنّ الحداد هو عملية نفسية داخلية تساعد المفجوع على الانفصال بصورة تدريجية عن موضوع فجيعته". ذلك وفقاً للمحللين النفسيين الفرويديين، واستناداً إلى ما جاء في كتاب فرويد "علم ما وراء النفس" (Métapsychologie) عن الحداد والكآبة.
وتتضمن هذه العملية عدة مراحل تختلف شدة التأثر بها بين شخص وآخر. وعليه، فإن أفضل طريقة لمساعدة الشخص المفجوع هي تحديد الصعوبات النفسية التي يواجهها وفهمها.
اقرأ أيضاً: لماذا من الضروري فهم معنى مفهوم الحداد بالشكل الصحيح؟
العودة إلى إحدى مراحل الحداد بعد تخطّيها
يوفر الحداد وجميع عمليات الانفصال اليوم أرضاً خصبةً للدراسة في مجال علم النفس المرضي. يتضح ذلك بشكل خاص في الولايات المتحدة الأميركية وكندا.
وكانت الطبيبة السويسرية إليزابيث كوبلر روس قد ألقت في سبعينيات القرن الماضي نظرةً ثوريةً على الموت. كما أنها قدمت آنذاك لأول مرة وصفاً للحالة الداخلية للإنسان المحزون. وحدد نهجها؛ الذي يتبناه اليوم العديد من المعالجين ومقدمي الرعاية، خمس حالات عاطفية أساسية لا بد للشخص المفجوع أن يمر بها. وهذه الحالات هي: الصدمة، والإنكار، والغضب، والاكتئاب، وأخيراً التقبل.
من المفيد جداً التعرف إلى المراحل الداخلية التي يمر بها الشخص المفجوع عند مرافقته في حداده. وعلى الرغم من ذلك فإن هذه المراحل قد لا تتبع بعضها بعضاً بالترتيب المنطقي الذي ينتهي باختفائها بعد مرور عام على الفجيعة.
ويعبر والدان عن هذه الحالة بعد مرور سنوات على فقدان طفلهما، فيقولان: "لا نفهم سبب شعورنا بالغضب مجدداً علماً أننا تجاوزنا هذه المرحلة". توضح الميسرة والمدربة في جمعية فرانسوا كزافييه بانود في باريس، أنيك إرنولت ديلكورت ذلك قائلةً: "هذا الأمر طبيعي".
تتسم عملية الحداد بأنها عملية داخلية شاقة جداً قد يخطو فيها الشخص المفجوع خطوتين إلى الأمام ثم خطوة إلى الخلف مرةً أخرى. من المهم احترام هذا الإيقاع ومراعاة التقلبات المزاجية للشخص الذي يعاني من الألم، دون أن نصدر أحكاماً عليه فنستهجن بكاءه أو عاطفته المفرطة بعد مرور فترة طويلة على الفجيعة. قد تمر بضعة أسابيع تتحسن خلالها حالة الشخص النفسية ويبدأ باستعادة رغبته في الحياة، قبل أن يعود إلى حالة الاكتئاب أو فرط الانفعال مجدداً. ونستحضر هنا تشبيه الشاعرة الأميركية ليندا باستان الحزن "بالدرج الدائري".
مراحل الحداد التي يمر بها الشخص المفجوع
1. الصدمة
يتسبب نبأ وفاة عزيز أو اكتشاف إصابته بمرض عضال بالظواهر ذاتها (التي تسمى في الحالة الثانية الحداد المتوقع)؛ إذ يشعر الشخص المفجوع وكأنه استبعد من عالم الأحياء، وأصبح في منطقة خالية من العواطف أو الأحاسيس. ويرجع ذلك إلى تأثير الصدمة والذهول اللذين يجعلانه في حالة من الخدر وعدم التماسك.
2. الإنكار
تساءل مراهق عندما علم بوفاة شقيقه إثر حادثة: "هل ثمة كسر في ذراعه؟ لأن لدينا مباراة كرة قدم غداً وهذا سيكون مزعجاً". ويمثل رد الفعل هذا آلية دفاعية فطرية يستخدمها الفرد لحماية نفسه من الأمور التي لا يمكنه تصورها.
وعليه فإنه لا بد من محاولة إعادة الشخص الذي يحاول الدفاع عن نفسه عبر إنكار محنته، إلى الواقع، مع احترام مشاعره وتجنب استخدام عبارات من قبيل: "نعم لكن وفاته كانت متوقعة"، أو استخدام أسلوب عنيف لحمله على التفاعل مع الموقف.
من جهة أخرى فإنه من المهم أن يكون حضورنا إلى جانبه صادقاً؛ أي أن يكون حضوراً تعاطفياً يجعلنا قادرين على وضع أنفسنا مكانه، وأن نلتزم الوعي في كل كلمة نقولها له. يوضح طبيب الأطفال آلان دي بروكا قائلاً: "كلما قل كلامنا كان الدعم الذي نقدمه للشخص المفجوع أفضل".
3. الغضب
يدل بكاء الشخص وثورانه وغضبه على أنه أصبح يعي خسارته، ومن الضروري جداً مساعدته على التعبير عن هذه المشاعر.
تقول إليزابيث كوبلر روس في كتابها "التعايش مع الموت والاحتضار"(Living with Death and the Dying) : "ذات يوم سألتني إحدى الأمهات التي كانت قد فقدت ابنتها للتو: ”هل ثمة مكان في هذا المستشفى يمكنني أن أصرخ فيه"؟ فسمحت لها بالدخول إلى مكتبي لتتمكن من البكاء بحرية". يقول طبيب الأطفال آلان دي بروكا: "إن إتاحة المجال للشخص المفجوع ليعبر عن غضبه يعني حمايته من توجيه هذا الغضب إلى نفسه وإيذائها".
اقرأ أيضاً: ما أهمية مشاعر الحزن المرافقة لفترة الحداد؟
4. الاكتئاب
يدخل الشخص المفجوع في حالة اكتئاب يتقلب خلالها بين مشاعر الحزن المكبوتة تارةً والشعور باللامبالاة تارةً أخرى، وتولد لديه هذه الحالة فكرة مفادها أنه لن يتمكن من استعادة طعم الحياة مرة أخرى.
تقول أنيك إرنولت ديلكورت: "إن المبالغة في تهدئة الشخص المفجوع قد تمثل بالنسبة إليه تجاهلاً لما يمر به وتقليلاً من أهمية حزنه". وبالمثل فإنه ليس للأدوية المضادة للاكتئاب دور في مساعدته لأنه ووفقاً لتعبير الطبيب النفسي إدوار زاريفيان فإنه: "لا يمكن للأدوية أن تشفي كدمات الروح".
وللمفارقة فإن استحضار الذكريات التي تجمعه بالشخص الذي فقده سيساعده على تقبل الفقد. ويؤكد آلان دي بروكا ذلك قائلاً: "إن استعادة هذه اللحظات أمر ضروري للشخص المفجوع ليتمكن من إعادة بناء الذكريات التي يبدو أنها تتلاشى بسرعة خلال هذه المرحلة".
5. تقبّل الحقيقة
يصل الشخص المفجوع بصورة تدريجية إلى مرحلة تقبل حقيقة الفقد -ولا يقصد به الموافقة على ما حدث- ما يهيئ لإتمام عملية الحداد. ويتمكن في هذه المرحلة من تفهم رحيل الفقيد، فتتابع الأرملة نشاط البستنة الذي اعتاد زوجها ممارسته، وتنشئ الأم مؤسسة باسم ابنها الراحل تخليداً لذكراه، إلخ. ولا تنطوي هذه المرحلة على نسيان الشخص الراحل؛ بل على بناء علاقة جديدة معه.
وتوضح المحاضِرة في جامعة ليل بفرنسا، ونائبة رئيس جمعية "علم الموت"، ماري فريدريك باكيه قائلةً: "يتحول الفقد بعد ذلك بالنسبة إلى المفجوع إلى أداة للنمو". لكن ذلك ينطبق فقط على عملية الحداد المكتملة التي يكون المفجوع بعدها قادراً على بناء علاقات أخرى.
الشعور بالذنب خلال فترة الحداد
تتضمن كل عملية حداد سيطرة الشعور بالذنب على الشخص المفجوع. وخلال محاولة تجاوز هذا الشعور، يتأرجح بين مشاعر متناقضة؛ إذ يلوم نفسه على عدم حب الشخص الراحل أو حمايته بما فيه الكفاية من جهة، ويشعر بالاستياء منه لأنه "تخلى" عنه من جهة أخرى، إذ يشعر بالحزن والغضب الشديد في آن معاً.
وتوضح أنيك إرنولت ديلكورت أن إتاحة المجال له ليعبر عن شعوره بالذنب بالكلام سيجنبه حالة الإنكار ويخفف من تأثير هذا الشعور فيه.
من الضروري أن تستمع إلى الشخص المفجوع بطريقة تعاطفية. وفي حالة عدم تمكنك من ذلك، فيمكنك إحالته على الجمعيات المعنية بمساعدة الأشخاص الذين واجهوا محناً كهذه؛ إذ تساعده إعادة تحديد هويته من خلال التعرف إلى تجارب الآخرين على العودة التدريجية إلى "عالم الأحياء" الذي استبعد نفسه منه، كمحاولة غير واعية لمعاقبة نفسه على فقدان الشخص العزيز.
مخاطر الحزن المرضي على الشخص المفجوع
في بعض الأحيان تتعثر عملية الحداد، ويبقى الشخص المفجوع عالقاً في إحدى مراحلها كمرحلة الإنكار. ومثال ذلك حالة الأم التي لا يبدو عليها التأثر بينما تستمر في وضع نعال ابنها الراحل أمام سريره كل مساء. وتوضح ماري فريديريك باكيه في كتابها "الحزن والصحة" (Deuil et santé)، أن مثل هذه الحالة تشير إلى وجود فجوة لدى المفجوع بين الواقع المحسوس والتعبير العاطفي الناتج عنه، وهو ما يسمى "الحداد المؤجل".
في بعض الحالات قد يكون الحداد شديداً ومطولاً؛ إذ يتضمن نوبات بكاء وهلوسات يتخيل خلالها المفجوع الشخص المتوفى، إضافةً إلى معاناته من نوبات قلق. وهي كلها علامات تشير إلى أنه لا يزال عالقاً في مرحلة الاكتئاب وأن حزنه يسيطر عليه بشدة.
وفي حالات أخرى قد يكبت حزنه إلى درجة ظهور اضطرابات جسدية لديه كالصداع النصفي و مشكلات الجهاز الهضمي أو حتى أنه قد يتجه نحو إدمان الكحول. علاوةً على ذلك فإن الحزن المرضي يعد عاملاً مساعداً أساسياً في الإصابة بالسرطانات وأمراض القلب والأوعية الدموية.
مضاعفات الحداد
ترجع مضاعفات عملية الحداد هذه إلى آليات اللاوعي. كما الولادات؛ تؤدي الخسائر وحالات الوفاة التي يتحتم علينا مواجهتها، إلى عملية إعادة تنظيم داخلية عنيفة. وتشمل الأخيرة الروابط التي أنشأناها طوال حياتنا، كما تجعل حالات الانفصال التي واجهناها فيما سبق تطفو على السطح مجدداً.
وعليه فإنه يمكنك أن تقترح على الشخص المفجوع الذي لم يتمكن من الخروج من حزنه، رؤية معالج نفسي. وتشير أنيك إرنولت ديلكورت هنا إلى أهمية التمييز بين الأعراض المرتبطة بالفقد، وتلك التي كانت موجودة بالفعل قبل ذلك.
توضح الدكتورة برناديت ستيرنبرغ العضوة في جمعية "الولادة والحياة" أن الفجيعة ليست مرضاً، بل جرح يمكننا تعزيز عملية شفائه، وذلك على الرغم من أن أثره لن يتلاشى تماماً.
طقوس جنائزية جديدة
في المكسيك، يتبع وفاة الشخص احتفال صاخب يستمر 3 أيام، وفي بلدان العالم العربي يتفرغ المعزون لخدمة أهل المتوفى. ولطالما أطلق الإنسان العنان لمخيلته في ترتيب ممارسات مختلفة لمرافقة المتوفى إلى مثواه الأخير.
وفي الحقيقة ترتبط هذه الطقوس بذوي المتوفى أكثر من ارتباطها به. إنها تسهل التعبير عن المشاعر وإضفاء الطابع الدرامي على حالة الانفصال هذه. وتوضح ماري فريديريك باكيه "تسمح لنا هذه الطقوس بأن نعبر عن مشاعرنا بالفعل بدلاً عن القول، ولا سيما مع حالة العجز عن الكلام التي تترافق مع الأيام الأولى للفقد".
في الوقت الذي يتخلى فيه الناس تدريجياً عن الطقوس التي قد يشعرون أنه لا معنى لها، فهم يبتكرون تلقائياً ممارسات جماعية جديدة. على سبيل المثال:
- إطلاق بالونات بيضاء عند وفاة طفل.
- إشعال الشموع بينما يتحدث كل شخص عن العلاقة التي كانت تربطه بالمتوفى.
- قراءة نصوص حميمية خلال مراسم التأبين.
"الأمر الأهم هو أن تتضمن هذه الطقوس الرمزية التي يسعى ذوو الفقيد إلى العثور عليها". ذلك ما جاء في كتاب ماري فريدريك باكيه، "الموت اليوم" (Mourir aujourd’hui).
"الموت لا يقبل الهدايا"
في كتابه "فضائل البرق" (Les Vertus de la foudre)، يحاول الفيلسوف ميشال أونفراي، وفق رؤيته، مواساة صديقه الذي فقد ابنته. يقول: "الموت لا يقبل الهدايا" مشيراً إلى أنه لا يمكن تأجيل الموت، فهو قدر مكتوب. ويتابع: "كل ما يمكنك فعله هو الصبر على فراق ابنتك وإحياء ذكراها".
"لقد أمضيت أياماً طوال بجانب قبرها واجتاحت ضفائرها أحلامك وكوابيسك، وقضيت لياليك محدقاً في صورتها. قلبت سوارها بين أصابعك ألف مرة ثم وضعته في راحة يدك، لتزيد ألمك ألماً. لا يمكن لأي من ذلك أن يخفف من المكانة التي احتلتها ابنتك في قلبك عندما وُلدت من العدم. كما لا يمكن لأحد أن يحررك من آلامك وعذاباتك أو يشاركك أصغرها حتى. إنّ عملية الحداد لا يمكن أن تتم إلا في داخلك أنت. لا يمكن أن تسترجع من فقدت من الأحباء، ولا عزاء لك إلا في استعادة قوتك ولا يمكن لأحد غيرك أن يساعدك على ذلك".
"التأمل يعني أن تدخل نعشك"
اتبعت تعاليم معلم الزن تايسن ديشيمارو لمدة 12 عاماً. ولا يمكنني تشبيه الأمر بنزهة! لقد كان عليّ الاستيقاظ كل يوم عند الساعة 6 صباحاً لأصل إلى مكان التدريب (الدوجو). بعد ذلك كنت أتخذ وضعية الزازين (التأمل الجالس) التي تستمر لأكثر من ساعة، عند الساعة 7:30 صباحاً.
لكن هذا النظام الصارم منح روحي الراحة وخلصها من تناقضاتها وشوائبها. شيء واحد فقط بدا لي غير مفهوم، وهي جملة كررها المعلم المسن وبقيت لغزاً بالنسبة إلي: "عندما تكون في وضع التأمل، يجب أن تدخل نعشك!" وعندما سئل عن معنى هذا الكلام، كانت إجابته بالقدر ذاته من الغموض: "عليك التخلي عن الجسد والعقل" ، "يجب أن تفهم ما وراء التفكير"، إلخ.
هل فهمت هذه العبارات اليوم بعد خمسة عشر عاماً من وفاته؟ ربما. لكن يمكنني ببساطة أن أقول إن التأمل ليس فقط تمريناً يساعد الإنسان على التعرف إلى ذاته ورؤيتها على حقيقتها وإراحة الذهن المشوش وتقنية يتعلم من خلالها التنفس المركز والفعال، فهو قبل كل شيء لحظة تتيح للمرء الاتصال بالطاقة (الكونية) التي تكمن وراء كل الوجود. إن التأمل هو حالة ما وراء الموت والحياة وأرضك الداخلية الخاوية. حالة من الصمت ولكنها نابضة بالحياة.
اقرأ أيضاً: لماذا يصعب علينا التحدث عن الموت؟