تضبطهم متلبسين، ورغم ذلك ينكرون أفعالهم بشدة ويحاولون تضليلك بتبريراتهم الزائفة. من أين يأتي الكاذبون والمتلاعبون بهذه الثقة المذهلة بالنفس لتحريف الحقيقة؟
"أُقْسِم أنني لم ألمس الكعكة!" هكذا يدافع الطفل عن نفسه رغم خديه الملوثين بالشوكولاتة، ويعلن بصوت عالٍ براءته. إنها كذبة كبيرة بالطبع؛ ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، لأنه على الرغم من الدليل الواضح على فعلته، فإن الطفل يستمر في الدفاع عن قضيته لدرجة أنه يبدو مؤمناً ببراءته بالفعل؛ متيقناً من قدرته على جعل من حوله يدركون العالم كما يدركه هو ومن خلال نظرته له.
توضح يولاند مايانوبي؛ مختصة علم النفس الإكلينيكي: "يستمر الأشخاص أصحاب النوايا السيئة بممارسة هذه القدرة الطفولية المطلقة، ويُظهرون من خلال سلوكهم هذا تضخم الأنا لديهم، فهم يعتبرون أنفسهم فوق كل شيء بما في ذلك الحقيقة".
علاقة مشوهة بالحقيقة
وفقاً للفيلسوف جان بول سارتر؛ الذي كان من أوائل الذين وضعوا نظرياتهم في "الوجود والعدم"، فإن سوء النية هو "كذب على الذات"، وهروب طوعي وواعٍ من الحقيقة. وراء هذا السلوك؛ غالباً ما تنطوي علاقة الفرد بالحقيقة على التحيز ضدها، وتعود جذور هذه العلاقة إلى مرحلة الطفولة حيث لم تُغرس قيمة "الصدق" في ذاته.
أما سبب ذلك فيعود إلى عدم التمييز بين الكذب والصدق بصورة واضحة في بيئته الأسرية؛ من خلال العقاب على الكذب، أو على العكس من ذلك مكافأته عند قول الحقيقة، لأنه دائماً ما كان يكبت بشدة هذه الأخطاء المسلم بها، ولم يتمكن من إدراك الشجاعة الكافية للاعتراف بها. تقول يولاند مايانوبي: "عندما تصبح الأكاذيب بالنسبة للفرد درعاً يحمي به نفسه؛ يمكن أن يصبح التصرف بسوء النية أسلوباً منهجياً له ويفقد بُعده اللاأخلاقي".
هشاشة نرجسية
غالباً ما تكشف قوة الإقناع هذه عن هشاشة نرجسية عميقة. يقول وسام؛ 26 عاماً وهو محامٍ: "عندما أوضح لي رئيسي في العمل أنني نسيت إعادة أحد الملفات إليه؛ أكدت له أنني وضعته على مكتبه، فقد كنت خائفاً جداً من أن يطردني وكان كلامي إيجابياً لدرجة أنه صدقني". بالنسبة للأشخاص الذين يشعرون بعدم الأمان، فإن الاضطرار إلى الدفاع عن حججهم ضد كل الصعاب يصبح -للمفارقة- وسيلتهم لتأكيد أنفسهم.
عدم القدرة على التعبير عن الرغبات
لا يُعتبر التصرف بسوء نية مشكلةً ذاتيةً فقط، فهو يمتد ليطال العلاقات مع الآخرين. ويوضح هيرفي ماغنين المعالج المختص في التواصل: "إن سوء النية هو عملية يخفي فيها الشخص رغبته الحقيقية من أجل الحصول عليها بطريقة أفضل؛ مقتنعاً بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك".
تقول سلوى؛ 34 عاماً: "دائماً ما أرتب للذهاب إلى السينما برفقة شخص ما، دون أن أصرح أبداً أن هدفي من ذلك هو فقط ألا أكون وحيدة". وترجع عدم قدرة الشخص على التعبير عن رغباته الحقيقية إلى حقيقة أنه لم يحظَ بفرصة الاستماع إليه بصورة كافية في مرحلة الطفولة، ولم يتمكن من بناء ثقة بالآخرين. ويختتم هيرفي ماغنين حديثه قائلاً: "إذا لم يستطع المرور من الباب، فسوف يمر عبر النافذة".
كيف تتخلص من نهج سوء النية؟
انظر إلى عواقب الأمر على المدى الطويل
يمكن أن يكون سوء النية مفيداً في الوقت الحالي؛ ولكن ماذا ستكون العواقب طويلة المدى؟ من خلال الشروع في هذا الطريق، فإنك تجعل من المستحيل بناء علاقات دائمة وموثوقة مع الآخرين. وحتى لو تمكنت من الحفاظ على صورتك الاجتماعية، فإنك تخاطر "بسقوط هذا القناع" وانكشاف أمرك يوماً ما.
أحِط نفسك بأشخاص جديرين بالثقة
خلال الدفاع عن قضيتك أو محاولة الحصول على ما تريد دون أن تفصح عنه، فإنك تنسى الاستماع للآخرين. ومع ذلك؛ يمكن لبعض الأشخاص من حولك أن يقدموا لك ما يجعلك تشعر بالثقة ويشجعك على بناء علاقات صادقة معهم. لذا؛ إذا كنت ترغب في إقامة حوار صادق مع الآخرين، فتعلم أولاً كيفية إحاطة نفسك بأشخاص يِشعرونك بالراحة الكافية لتخوض تجربة التواصل "الحقيقي" معهم.
عبر عن مشاعرك
سل نفسك: "بماذا أشعر عندما أتصرف بسوء نية؟ ما هي الحالة العاطفية التي يضعني فيها هذا التصرف؟". عند اتباع هذا السلوك لفترة طويلة، فأنت نفسك لن تكون قادراً على التغاضي عن شعور الانزعاج الداخلي الذي يسببه لك. ومن خلال التجرؤ على التعبير عن هذه المشاعر، وتشجيع من حولك لك على القيام بذلك، فستعود تدريجياً إلى الانسجام مع نفسك مرةً أخرى، وإلى تجربة الرفاهية التي يمكن أن تشعر بها عند قول الحقيقة.
نصيحة للمحيطين
دون الوقوع في فخ محاوِرك سيئ النية؛ يمكنك أن تتظاهر بالسذاجة خلال الاستماع إليه، وكأنك المحقق كولومبو. خذ كل ما يقوله في ظاهره حتى تضعه في مواجهة مع تناقضاته؛ ولكن دون أن تتعامل معه بعدوانية. والآن هل لا يزال مستمراً على المنوال نفسه؟ إذاً ربما تحتاج إلى استعادة ثقته. على سبيل المثال؛ يمكنك أن تشرح له تدريجياً وباحترام أهمية الصدق في العلاقة من وجهة نظرك. قد تتمكن بعد ذلك من تعزيز ثقته بك وجعله يشعر بلذة "قول الحقيقة".
تقول سلمى؛ 38 عاماً، وهي مديرة مشروع في إحدى الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم: "لم أكن مُقْنعة، واضطررت إلى الاستقالة".
"دائماً ما كنت أظن أن الاعتراف بأخطائي أو عيوبي سيكون أسوأ إهانة بالنسبة لي، لذلك انتهجت سوء النية في الكثير من تصرفاتي، وخاصةً على المستوى المهني؛ إلى أن افتُضح أمري في أحد الأيام. كنت أدير موقع بناء ووضعت خطةً خاطئة، ثم أخفيت الخطط الأصلية وأقنعت إدارة الشركة أنني كنت أنفذ خطة المشروع وفقاً لرغبتها؛ لكن مساعدي "خانني" وكشف أمري".
"في ذلك اليوم؛ شعرت بالخجل الشديد لدرجة أنني استقلت من العمل. منذ ذلك الحين؛ أحاول قبول أخطائي لأن حبس نفسك في أكاذيبك وفقدان احترامك لذاتك واحتقارها، هو أسوأ بكثير من إدراك نقاط ضعفك بصدق والاعتراف بها".