هل يجب أن نعذر المصابين بهوس الكذب المَرَضي؟

هوس الكذب المَرَضي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هوس الكذب المَرَضي هو مرض مريع بقدر ما هو مدهش، ولا يزال كشف أسراره وتفسيراته أمراً بعيداً.
جنى تكذب بقدر ما تتنفس، تحكي قصصاً مذهلة، تظهر فيها كممرضة في إفريقيا، أو كمساعدة لأستاذ علم نفس كبير الشأن.. وباختصار؛ كقديسة ترعى الفقراء! وحين تُسأل عن والديها، تستحضر مُسهبة أسرة ثرية جنت ثروتها عبر صناعة الأدوية، وتُسارع لتوضيح أنها لا تكنّ لهذه الأموال سوى الازدراء. ومثل كل الأفراد المصابين بهوس الكذب؛ تختلق جنى أصولاً مرموقة لعائلتها وأفعالاً بطولية لنفسها.

أكاذيبها هي الهواء الذي تتنفسه، هي تحتاج إلى الكذب لتحيا؛ لا تستطيع جنى التوقف عن الكذب. هذه التلقائية التي لا يُمكن كبتها هي ما يجعل هوس الكذب مرضاً خطيراً، ويجعل المصابين به أفراداً مريعين ومدهشين في آن واحد. في الواقع؛ عندما يكذبون علينا دون أدنى شعور بالحرج، مبتسمين وواثقين من أنفسهم كما لو كانوا يقولون الحقيقة، فإنهم يُعيدوننا إلى الطبيعة غير المؤكدة للغة؛ حيث الكلمات ليست موثوقة تماماً، فقد يكون الآخر كاذباً، يُضللني دون علم مني أو دراية؛ أي أنه قبل كل شيء، لا شيء يُميّز الكذب عن الحقيقة.

هوس الكذب المَرَضي لا يعني التباهي

لا يُعرف سوى القليل عن هوس الكذب المَرَضي فالأعمال والأبحاث التي تتناوله ليست كثيرة، ونادراً ما تكون متاحة لعامة الناس. ونتيجة لذلك، فإننا نستخدم هذا المصطلح بشكل خاطئ للإشارة إلى تفاخر الشخص الذي يُمطرنا بمآثره الرياضية الخيالية، وأدائه الاحترافي غير الموجود -على سبيل المثال- أو إلى ميل البعض لتجميل الواقع ليجعلوا أنفسهم أكثر إثارة في نظر الآخرين، ولكي يكونوا محبوبين أكثر. لكنهم، على عكس المصابين بهوس الكذب الحقيقي؛ يعرفون جيداً أنهم يكذبون، ومستعدون للاعتراف بذلك؛ إلا أن هذا ليس هو الحال مع جنى.

علاوةً على ذلك، فلا يوجد متخصص قادر على تقييم درجة التوهم لدى المصاب بهوس الكذب؛ حيث أننا جميعاً لدينا تخيلات “مُفعمة بجنون العظمة” تسمح لنا بالحفاظ على نرجسيتنا واحترامنا لذاتنا في مواجهة ضربات الحياة القاسية.

بمجرد أن يحطّ الفشل من معنوياتنا إلى أدنى مستوياتها، يتم تقديم مخرج على الفور لنا: ألا وهو الخيال. نحن نرى أنفسنا كأشخاص مفيدين للإنسانية، ننقذ الكائنات المنكوبة ونثير إعجاب الجميع، أو نرى أنفسنا كأفراد عائلة غنية، من فئة أكثر إثارة للاهتمام من فئتنا. هذه هي بالضبط صور سيناريوهات جنون العظمة الأكثر شيوعاً لدينا؛ والتي تعكسها تلفيقات مرضى هوس الكذب.

لكن عموماً؛ نحن نعلم أن تخيلاتنا ليست سوى تخيلات، ونحتفظ بها لأنفسنا (باستثناء -في بعض الأحيان- عندما نريد الظهور بصورة متميزة، أو أمام شخصية نسعى لنثير إعجابها). ليس هذا هو الحال مع مرضى هوس الكذب، الذين يعيشون تخيلاتهم دون إدراك مُسبق لكونها مجرد تخيلات.

هل يمكن لاثنين من الكاذبين أن يتفقا معاً؟

تنجح جنى في نيل عاطفة سيدة عجوز؛ مادلين، المفتونة بهذه الشابة التي تدّعي أنها تخلت عن نمط حياة مريح لتكرّس نفسها لمساعدة ضحايا المعاناة، وعيّنت جنى لرعاية حفيدها أنطوان. أنطوان يكذب أيضاً؛ ولكنه يفضل أن يخادع الرجال ليخلصهم من أموالهم ومجوهراتهم.

هل يمكن لاثنين من الكاذبين أن يتفقا معاً؟ إذا كان الكاذب “العادي” -بما في ذلك المحتال- يخدع عن قصد الأشخاص الآخرين، فإن المصاب بهوس الكذب يخدع نفسه أولاً وقبل كل شيء؛ حيث أن الشخص الآخر، كفرد، ليس على ذات القدر من الأهمية، فهو ليس إلا وعاء -لا غنى عنه بالتأكيد- لاستيعاب افتراءات هذا المهووس بالكذب؛ والذي، حتى إذا كانت موضوعاته المُختارة تُحظيه بالاحترام والإعجاب، فإن قصصه مخصصة في المقام الأول لاستخدامه الشخصي، فهو يتحدث مع نفسه في المقام الأول.

مرض النرجسية؛ أي حب الذات

إن حياة المصاب بهوس الكذب ليست سهلة على الإطلاق؛ حيث يجب على جنى في سبيل البقاء في عالمها الخيالي الذي يحميها من قسوة الواقع، أن تكسر باستمرار الروابط التي شكلها تجوالها العقلي والجغرافي: مبدأ الرحيل دائماً.

في الواقع، فإن أسوأ شيء بالنسبة للمصاب بهوس الكذب هو أن يواجه كذبه؛ وبالتالي يفقد سبب وجوده. لهذا السبب؛ عندما يتم اكتشافه، ينخرط مهووس الكذب على الفور في اختلاق سيناريو جديد؛ لكن جزءاً من نفسيته يكون قد تضرر. ومن هنا ينبع القلق؛ حيث تعاني جنى من نوبات قلق رهيبة تقودها مباشرة إلى المستشفى؛ التي تخرج منها للبحث عن الكينونة ذاتها ولكن في مكان آخر.

إذا لم يستطع المصاب بهوس الكذب استيعاب الواقع كما هو، فهو أولاً وقبل كل شيء لا يمكنه استيعاب نفسه كما هو. نحن هنا نواجه شكلاً من أمراض النرجسية؛ أي حب الذات.

ويشرح المحلل النفسي خوان ديفيد ناسيو في مقدمته لكتاب بول إيكمان “لماذا يكذب الأطفال” (Why Children Lie) الصادر عن دار النشر (Rivages “Psychanalyse”, 1991): “أي كذبة تحمل في طياتها رغبة، وهي لدى المصاب بهوس الكذب الرغبة في أن تتم ملاحظته… من أجل أمر ليس فيه”. كما لو كان عليه أن يصور نفسه في صورة شخص آخر ليمنح نفسه الحق في الوجود.

مثل لعبة بوكر

على عكس ما ادعاه الطبيب النفسي العظيم إرنست دوبري، فإن هوس الكذب المَرَضي ليس فطرياً، فالأطفال لا يبدؤون في محاولة الكذب حتى سن 3 أو 4 سنوات؛ حيث يكونون قد أتقنوا اللغة جيداً بما يكفي، وفهموا أن البالغين لا يعرفون كل شيء، لذلك يظنون أن بإمكانهم محاولة خداع البالغين، لتجنب العقوبة، أو الحصول على شيء مرفوض.

هذه هي الطريقة التي تولد بها الكذبة، الكذبة المبتذلة التي سنستخدمها جميعاً بشكل أو بآخر خلال حياتنا. لكن المصاب بهوس الكذب -بنوع من القرار اللاواعي ولتجنّب الإحباط- يحتجز نفسه في عالم مزيف.

وفي الواقع؛ إن الواقع والخيال متكافئان بالنسبة له. يقارن الطبيب النفسي ميشيل نيراوت وجود مهووس الكذب بلعبة البوكر؛ والتي لا يعرف فيها هذا الأخير ما الحركة التي سيقوم بها، فهو يفرد أوراقه – اختلاقاته، “وإذا لم يعترض أحد، فلربما تكون هذه البطاقة هي البطاقة الرابحة. في الأساس، يمكن لأي بطاقة أن تكون البطاقة الرابحة”. هناك “متعة” خاصة في هوس الكذب؛ وهي إثبات المرء لنفسه أن كل الرغبات ممكنة.

متعة الكذب المثيرة

يتم تحفيز المهووسين بالكذب من جميع مناحي الحياة. نلاحظ أنه غالباً ما كان لديهم آباء متلاعبون أو -على العكس من ذلك- آباء ساذجون للغاية، وأنهم عانوا عموماً من نقص الدعم النفسي في وقت مبكر جداً – غياب الأب أو الأم، أو انشغال الوالدين بمشاكلهم أو بأحد أطفالهم الآخرين.

ومن هنا يأتي الشعور الداخلي الشديد المبكر بالوحدة الذي يُلاحقهم طوال الوقت؛ والذي تسعى حياتهم الخيالية جاهدةً لملء الفراغ المتولد عنه. لكن سلوك الوالدين ليس السبب الوحيد، فقد يكون الأمر أن الشاب المصاب بهوس الكذب لم يكن راضياً عن حظه، رغم أنه كان محبوباً، وأنه كان يود لو حظي بمزيد من الحب، أو بوالدين من طبقة اجتماعية مرموقة أكثر.

إن العلاجات النفسية التي تعالج الأعراض العصبية نادراً ما تكون فعالة فيما يتعلق بهوس الكذب، وهذا لسبب وجيه: إذا تم دفع المصاب بهوس الكذب إلى اتباع أحد هذه العلاجات، فسيكون ذلك دائماً بناءً على طلب الأشخاص المحيطين به، القلقين عليه، والمتعبين من مغامراته وتجواله.

ومع ذلك؛ لكي ينجح العلاج، فمن الضروري أن يكون الشخص الذي تظهر عليه الأعراض يطلب العلاج بنفسه. فعندما يصاب مهووس الكذب بالقلق – أي عندما تنفجر فقاعة الخيال الخاصة به – قد يميل إلى البدء في العمل على نفسه؛ ولكن بمجرد أن يهدأ هذا القلق، ينصرف عن ذلك، فهو في اللاوعي يُفضّل متعة الكذب المثيرة على المُتع الهادئة للواقع العادي. علاوةً على ذلك، فإن العلاج يعني المواجهة مع الحقيقة، وهو احتمال غير ممتع إلى حد ما بالنسبة لشخص يهرب من الحقيقة.

هل يُمكن شفاؤه بشكل حقيقي؟

ومع ذلك، فإن مرضى هوس الكذب روّاد شائعون في أقسام الطب النفسي في المستشفيات، بسبب نوبات القلق التي يتعرضون لها؛ والتي تأتي بهم إلى هناك بشكل عاجل إسعافي؛ ولكن أيضاً لأن أكاذيبهم تضعهم أحياناً في مشاكل مع القانون ويُعلن أنهم غير مسؤولين عن تصرفاتهم، ثم يتم علاج هؤلاء المرضى بالعقاقير التي تقنّع شخصياتهم الحقيقية.

تشرح والدة جنى في الفيلم الأمر بقولها: “عندما تكون ابنتي في المستشفى، فإنها تبدو أخيراً كشخص عادي، لأنها لا تقول شيئاً”. نعم، يُمكن أن يفسح هوس الكذب الطريق للصمت؛ ولكن إن جاز التعبير، فهذا لا يؤدي أبداً إلى تحقيق شفاء حقيقي.

من الصعب في هذه الظروف تقديم المشورة للمحيطين بمن يعاني من هوس الكذب فيما يتعلق بالسلوك الذي عليهم اتباعه. إن مسايرته بشكل منهجي في أكاذيبه حتى لا يسيئوا إليه، أمر لا يساعده؛ بل هذا يساعده على احتجاز نفسه في عالمه الخيالي.

كما أن حثهم على إجباره على قبول الواقع أمر غير فعال أيضاً، فهو لديه حاجة كبيرة عليه الهروب منها – إنها مسألة بقاء بالنسبة له. لذلك نظل عاجزين للغاية في مواجهة هذه الحالة المرضية – النادرة لحسن الحظ. في الواقع؛ في مواجهة هوس أحد الأحباء بالكذب، فإن الأمر متروك لكل شخص “لابتكار” السلوك المناسب، ولا تتردد في طلب المشورة من طبيب نفسي.

المحتوى محمي !!