مع ازدياد معايير النجاح وتحقيق الذات التي يفرضها المجتمع، يصعب على الإنسان أن يتقبل عيوبه ويحب نفسه ويقدرها كما هي ما يؤثر سلباً في جوانب حياته جميعها. في المقابلة التالية يخبرنا الطبيب النفسي الشغوف بالتنمية الشخصية وممارسات التأمل، كريستوف أندريه (Christophe André) كيف ساعدته مسيرته المهنية على تحقيق تقبل الذات.
تسيطر على مجتمعاتنا اليوم ثقافة حث الفرد على السعي نحو الكمال في جميع جوانب حياته المهنية والعائلية والاجتماعية مع ضرورة الحفاظ على توازنه العاطفي والنفسي خلال ذلك، وباختصار فإنه يجب أن يكون بطلاً خارقاً. ولكن كيف يمكنه الموازنة بين هذه المعايير الصارمة ومَواطن الضعف لديه ونقص ثقته بنفسه ومِحن الحياة التي تمنعه من أن يصبح الشخص الذي يتمناه؟
ومن جهة أخرى، هل يؤدي تقبل الذات إلى تقاعس الفرد عن السعي نحو تحسينها أم إنّ ذلك سيساعده على التعامل مع العوائق التي تضعها الحياة في طريقه بفعالية أكبر؟ لطالما حذر مؤلف كتاب "لستُ كاملاً ولكنني حر وسعيد" (Imparfaits, libres et heureux)، كريستوف أندريه من خطورة الناقد الداخلي وأكد إنَّ رفق الإنسان بنفسه والآخرين لا يقل أهميةً عن قدرته على التطور وتنمية مواهبه، وإنّه يجب أن يجد في لحظات الفشل وضعف الثقة بالنفس فرصةً لتقبل الذات والتآلف معها.
لمَ يصعب على الإنسان تقبل ذاته؟
كريستوف أندريه: ترتبط مشكلة العجز عن تقبل الذات بالخوف من نظرة الآخرين، لذلك فإنها لا تتعلق بالفرد بقدر ما تتعلق بعلاقاته. ولأن الإنسان كائن اجتماعي بفطرته فإن الانتماء إلى مجموعة حاجة حيوية بالنسبة إليه فهو يذبل إذا نبذه أقرانه، وهي الحقيقة التي أظهرها العديد من تجارب علم النفس الاجتماعي، فالتعرض إلى الرفض يمثل تجربةً أليمةً جداً إلى درجة أنّّ الفرد مستعد لفعل أي شيء ليتجنبها بما في ذلك التظاهر بعكس ما يومِن به. يُنزل بعض الثقافات عقوبة النبذ أو الإقصاء الاجتماعي بالفرد الأمر الذي قد يؤدي به إلى الجنون أو حتى الموت، ويمكننا أن نرى اليوم ثقافةً مشابهةً في بيئة العمل حيث يرى الفرد أنّ تقبل الذات لديه مرتبط حتماً بتقبل الآخرين له.
كيف يؤثر عصرنا الحالي في القدرة على تقبل الذات؟
كريستوف أندريه: من خلال التوترات التي تسببها سلوكيات مقارنة النفس بالآخرين بالدرجة الأولى، سواء من ناحية المظهر الجسدي أو مدى الشعور بالسعادة أو عدد النجاحات المحققة، وغيرها من المعايير الأخرى، وعندما يجد أنَّ الفجوة بينه وبين من يقارن نفسه به ليست كبيرةً فإنه سيشعر بالاطمئنان. لكن الأمر يختلف عندما يقارن الفرد حياته بحياة المشاهير، أو يقارن جسده بصور أجساد عارضي الأزياء غير الواقعية التي خضعت بالطبع إلى الكثير من التنقيح والتعديل وحتى لو حاول تجاهلها، فإن هذه الأنماط الاستثنائية ستغير نظرته إلى نفسه وتحول دون شعوره بالرضا. وفي حين أنّ ذلك يجعله يرفع سقف توقعاته فإنه يتذكر من جهة أخرى المصائب التي تحل ببعض شعوب العالم كانعدام الأمن والنزوح الجماعي والهجمات الإرهابية فيشعر أنّ الاهتمام برفاهته في ظل هذه الظروف هو نوع من الأنانية والتفاهة ما يؤدي إلى تعاظم شعوره بالذنب إلى جانب شعوره بالعجز. لكن هذه المشاعر تمثل حافزاً كبيراً للتغيير وإذا لم يستجب الإنسان إلى شعوره بالذنب باتخاذ خطوة لتحسين حياة الناس فإن صورته الذاتية ستهتز، وأقول هنا إنّ الاهتمام برفاهة الآخرين لا يتعارض مع الاهتمام برفاهتك أو يُنقصها بل على العكس تماماً، فمساعدة من حولك على تحسين حياتهم تماماً كما تعمل على تحسين حياتك يساعدك على الاقتراب من مُثلك العليا ويمنحك حالةً من التآلف مع الذات.
انتقلت في رحلتك من الطب النفسي إلى العلاج السلوكي، ثم إلى التنمية الشخصية والتأمل، ما الذي علمتك إياه هذه الأساليب كلّها عن تقبل الذات؟
كريستوف أندريه: لقد تعلمتُ على نحو ملموس أنّ تقبل الذات يتطلب قبول الفرد لحدود قدراته وعلى نحو شخصي، كانت الإخفاقات التي تعرضت لها دافعاً لي لأتطور مهنياً. نلمس مسألة القبول في المجال الطبي من كثب، فهناك أشخاص لا نستطيع علاجهم وآخرون عولجوا ثم انتكسوا أو ما زالوا يعانون أعراضاً دائمةً لا يمكن التغلب عليها رغم العلاج، ومن هنا تعلمتُ كيفية تقبل الذات وهذا لا يعني أبداً الاستسلام بل تقبل الواقع كما هو ثم دراسة الخيارات المتاحة انطلاقاً منه، فعندما يدرك المرء حدود قدراته سيكون أمامه خياران: إما الوقوع في فخ السعي اللانهائي نحو الكمال، أو قبول أنه ليس إنساناً مثالياً (وهذا لا يعني أنه غير كفؤ) وبذل قصارى جهده، وهكذا حين أدركتُ عيوبي دون أن أستسلم لها قادني ذلك للاهتمام بالنُهج العلاجية الأخرى فاستخدمتُ علم النفس الإيجابي وممارسات التأمل لأقدم الوقاية بدلاً من الرعاية وأساعد الناس في الحفاظ على صحتهم النفسية ليصبحوا أقوى وأكثر ثقة وتآلفاً مع أنفسهم.
هل يصبح الإنسان أكثر رفقاً بنفسه مع تقدمه في العمر؟
كريستوف أندريه: لا شك في ذلك، فبمضي السنوات تمكنت من تحرير نفسي من فكرة حتمية العلاج والمردود العلاجي، وهذا لا يعني عدم اهتمامي بالنتائج بل اعترافي بعدم قدرتي على تحقيق الكمال وأنّ لا أحد يطالبني بذلك أصلاً وعزز ذلك صبري وثقتي بنفسي، فتعلمتُ أنه من الضروري منح العلاج الوقت الكافي مع أخذ موارد المريض الشخصية ومحيطه وخبراته بعين الاعتبار. لا شك في أنّ براعة المرء في عمله تمنحه شعوراً بالقوة وتخلق حالةً من التنافس مع الآخرين لكنها لن تخلصه من نظرته القلقة إلى ذاته، ولذلك فإن تقبل الذات يعني التحول من منطق التنافس إلى منطق التعاون الذي يمنح الإنسان الطمأنينة عندما يدرك أنّ للآخرين دوراً في نجاحه ويفسح المجال لهم للمشاركة في جعله شخصاً أفضل.
هل يتطلب فهم ذلك سلك مسار علاجي؟
كريستوف أندريه: ليس بالضرورة؛ بل يكفي في معظم الأحيان أن ينظر الإنسان إلى الأشخاص من حوله ليدرك أنهم يحبونه رغم عيوبه وتقلباتنا المزاجية وإخفاقاته، وأنه بدوره يحبهم رغم عيوبهم لأنها تمنحهم تفرداً وسحراً خاصاً. فلا أحد مثالي؛ لكن الإنسان لا يدرك ذلك بل يركز على عيوبه ويضخمها ويتخيل أنّ الناس لا يرون سواها، وأنّ لا أحد غيره لديه عيوب سواء كانت جسدية أو أخلاقية أو غير ذلك، فعندما يعاني المرء عقدةً نفسيةً ويتشبث بها يرفض الاستماع إلى ما يقال له ويتجاهل دائماً كل ما يسمعه من عبارات الإطراء والمديح والاستحسان والتقدير.
كيف يمكن للفرد التخلص من حالة خداع الذات هذه؟
كريستوف أندريه: يمكن للعلاجات السلوكية التي تعتمد على تقنيات التعرض أن تكون فعالةً في هذا السياق، وهي تتمحور حول مواجهة المريض بالمواقف التي تخيفه ما يمكّنه من إدراك أنّ الحقيقة أقل سوءاً بكثير من تصوراته المبالغ فيها، وأنصح باتباع العلاجات الجماعية إذ لها تأثير إيجابي ملحوظ في الصورة الذاتية لأن المريض يواجه خلالها نظرات الآخرين (أعضاء المجموعة العلاجية) ويدرك أنها ليست سبباً للخوف. استقبلتُ الكثيرين ممن يعانون القلق الاجتماعي بسبب تدني احترام الذات في مستشفى سانت آن (Sainte-Anne)، وقد شعروا بالتحسّن بعد أول جلسة من جلسات العلاج الجماعي إذ اقتنعوا بأن عيوبهم لا تزيدهم إلا تفرداً واكتشفوا أنّ المشاركين الأقدم منهم الذين بدوا لهم كأشخاص واثقين بأنفسهم قد مروا بالمراحل ذاتها فيما سبق وأنّ مختصي علم النفس المتدربين الذين شاركوا في الجلسات كانت لديهم عقدهم النفسية أيضاً، وأدركوا أنهم ليسوا مطالبين بأن يكونوا مثاليين بل بأن يتعلموا كيف يحبون ذواتهم ويتحررون من الخوف من حكم الآخرين.
كيف يعلم المرء أنه وصل إلى مرحلة تقبل الذات على نحو فعلي؟
كريستوف أندريه: العلامة الفارقة الأبرز خلال الجلسات العلاجية هي توقف المريض عن التمحور حول ذاته والنظر إلى من حوله بدلاً من ذلك. عندما يتوقف سلوك الحكم على النفس ومراقبتها باستمرار يتعزز تقدير الذات ولا ينشغل الإنسان بعد ذلك بمدى حب الناس له أو لمظهره فيفكر بالأشخاص الذي ينوي مقابلتهم والأحداث التي ستجري خلال ذلك وينساب بعفوية مع ما تجلبه الحياة. وعندما يتقبل الإنسان فكرة أنّ الحياة الطبيعية هي مجموعة من الإخفاقات الصغيرة وأنّ لحظات الضعف هي جزء لا يتجزأ منها، سيتمكن من المضي قدماً. هل يمكن أن تضمن عدم هطول الأمطار خلال خروجك في نزهة؟ أو عدم انثقاب إطار سيارتك وأنت تقودها؟ أو عدم حدوث أي عطل يؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي؟ بالتأكيد لا وكذلك الحال بالنسبة إلى فكرة السيطرة الكاملة على أحوال الحياة وظروفها فالأشخاص المثاليون ليسوا أولئك الذين ينجزون أعمالهم على أكمل وجه ولا يرتكبون الأخطاء في أفعالهم وأقوالهم؛ بل الذين أدركوا أنّ الاحتمالات كلّها واردة وأنّ الإنسان معرّض للخطأ وأنّّ كل خطأ يمكن إصلاحه وكل خسارة يمكن تجاوزها.
وأنت كريستوف، ما الذي ساعدك على الوصول إلى تقبل الذات؟
كريستوف أندريه: كنت فيما مضى شخصاً كثير القلق والخوف ثم أدركتُ أنّ ثمة عبارات محددة يمكنها أن تنقذنا عندما تلامس روحنا في لحظات الضعف. ذات مرة كان أحد مرضاي يهم بالمغادرة فصافحته وقلتُ له: "من الضروري أن تعتني بنفسك"، وفي الجلسة التالية صارحني بأن تلك العبارة مبتذلة وكثيراً ما يقولها الناس لبعضهم بعضاً؛ لكنه أضاف أنّ الصدق والحرارة في نبرتي جعلاها مؤثرةً جداً ما ساعده على تغيير علاقته بذاته، كما زادني التأمل اقتناعاً بتأثير هذه العبارات البسيطة عندما ترافقها الموسيقى فتصبح وكأنها ترانيم. ثمة شعار أشعر بإيجابية كبيرة كلما رددته وهو: "ابذل قصارى جهدك وتذكر أن تكون سعيداً"، وأنا أردده على مسامع بناتي أحياناً، والمغزى منه هو أنّ لا أحد يطالبنا بفعل المستحيل فكل ما يهم هو أن نبذل ما في وسعنا ونحرص على سعادتنا وسعادة من حولنا.
ويختتم ضاحكاً: "يبدو أنّ شعاري يزداد طولاً"!
اقرأ أيضاً: احترام الذات: أسباب تدنّيه ونصائح لتعزيزه.