أذكر أن والدي خلال طفولتي سافر إلى الحج، وخلال تلك الفترة أقمت في منزل أحد أصدقائه. ونتيجة لفضولي الكبير -بصفتي طفلاً- كنت أطرح عليه أسئلة متواصلة من الصباح حتى المساء، إلى أن قال لي مازحاً ذات صباح: "لديك 24 كلمة يومياً فقط!"، وكان رصيدي ينفد خلال دقائق.
محتويات المقال
الملمح الذي أود تسليط الضوء عليه من الموقف السابق هو أننا في طفولتنا نكون فضوليين للغاية، شهيتنا للاستكشاف لا حدود لها، نهمنا للمعرفة شديد، نود أن نعرف ما وراء كل شيء حولنا، ونطرح الكثير من الأسئلة دون قيود أو سقف، وذلك ما يشير إليه استشاري الطب النفسي محمد اليوسف بقوله إننا نولد ولدينا الفضول للتعلم، والرغبة في الاستكشاف، والحماس للخوض في المجهول بتطلع وشغف، ثم تأتي الإجابات الجاهزة وتخويف الأهل لنا من البحث والمغامرة، وتفضيل كل من حولنا للبقاء في دائرة الأمان بدل النمو من خلال الوقوع في أخطاء أكبر وتوسيع مداركنا وخبرتنا في الحياة.
وفي السنوات الأخيرة، أضاف انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي بعداً جديداً أثر في شهيتنا للفضول، فهي تتيح الوصول السريع إلى المعلومات، لكنها في الوقت نفسه قد تؤدي عند الاعتماد المفرط عليها إلى تقليص فرص ممارسة مهارات بشرية مثل البحث المستقل وطرح الأسئلة، فكيف تحافظ على فضولك في عصر الذكاء الاصطناعي؟ الإجابة في المقال.
الفضول: ميزة بشرية حصرية
يظهر العقل البشري قدرة فريدة على طرح أسئلة جديدة والانطلاق في مسارات غير متوقعة مدفوعة بالفضول، وهو ما كان وراء نشأة العديد من الاكتشافات والنظريات العلمية عبر التاريخ، في المقابل، تعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي ضمن أطر محددة بالبيانات والخوارزميات التي بنيت عليها، ما يجعلها قوية في المعالجة والاستنتاج داخل هذا النطاق، لكنها لا تظهر حتى الآن سلوكاً مماثلاً للفضول البشري أو رغبة ذاتية في الاستكشاف.
ومن هذا المنطلق، فإن الاعتماد المفرط على تقنيات الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تراجع ممارسة بعض المهارات الذهنية الأساسية مثل التفكير النقدي والقدرة على توليد الأسئلة الجديدة، لذا فالحل يكمن في الموازنة من خلال استخدام هذه الأدوات لتوسيع المعارف وتسريع التحليل، مع الحفاظ على دور الفضول البشري باعتباره قوة دافعة للتجربة والاكتشاف.
لماذا عليك أن تكون فضولياً لصحة نفسية وذهنية أفضل؟
تعد مكاسب الفضول واسعة فهي لا تتوقف عند الاكتشافات العلمية والتوصل إلى نظريات غير مسبوقة إنما تمتد إلى مدى أشمل من ذلك يتعلق بتحسن الصحة النفسية والذهنية للبشر الذي يظهر في:
- عيش حياة أكثر سعادة، لأن الأشخاص الفضوليين يحظون بمستويات أعلى من المشاعر الإيجابية والرضا عن الحياة، فهم في سباق ممتع مستمر لاكتساب معارف جديدة واكتشاف بيئات مختلفة حولهم وهذا يترافق معه إفراز الدوبامين وهرمونات السعادة الأخرى داخل أدمغتهم.
- انخفاض معدل الشعور بالقلق أو بتعبير أدق سيساعدك فضولك على إدارة قلقك؛ لأنك ستتعامل مع المواقف الجديدة أو المفاجئة انطلاقاً من فضولك لا خوفك، وهذا عموماً يقلل استجابة التوتر لديك ويجعلك تعيد صياغة المواقف المثيرة للقلق فتراها فرصاً ثمينة للنمو والتعلم.
- القدرة على التعاطف مع الآخرين؛ فالفضول يقودنا إلى طرح أسئلة على أنفسنا: ما هو السبب الحقيقي وراء مشاعر هذا الشخص؟ أو كيف يرى العالم من منظوره؟ والتفكير في إجابات عن أسئلة مثل هذه يجعلك أكثر قدرة على احتواء الآخرين وفهم تجاربهم، ومن ثم بناء روابط أكثر قوة وخوض محادثات أكثر عمقاً وصدقاً معهم، ما يعني في النهاية إثراء حياتك الاجتماعية.
- التمتع بالمرونة النفسية في وجه الشدائد والمحن، إذ إن الفضول يجعلك تتعامل مع مشاعرك بعقلية منفتحة وتفكر بانفتاح في الحلول المتاحة، إلى جانب استكشافك للأسباب الجذرية وراء مشكلاتك وطرح أسئلة مثل: ما الذي يمكنني تعلمه من هذه التجربة؟ أو كيف أدير ما يحدث بأسلوب مبتكر؟
- توسيع المدارك والنظر للأمور من زوايا متعددة؛ ففضولك سيجعلك ببساطة تعيش خارج دائرة الراحة، فأنت مثلاً تتحدث إلى أشخاص خارج دائرتك الاجتماعية المعتادة وتتطلع على تجاربهم وأفكارهم، وتذهب إلى أماكن جديدة للتعرف إليها، وبمرور الوقت ستمرن دماغك على أن يتجاوز الحدود المعتادة وينطلق للابتكار والإبداع.
- تحسن الأداء المهني وارتفاع معدل الإنتاجية؛ فالسلوكيات الملازمة للفضول، مثل البحث عن المعلومات، تطور مهاراتك المعرفية في وظيفتك وتكسبك ثقة مدرائك.
- تأخير شيخوخة الدماغ، ويرتبط ذلك بأن الفضول ومعرفة المزيد باستمرار يشجع دماغك على إنتاج خلايا عصبية وإنشاء مسارات جديدة، والعكس يحدث في حال كان الشخص سلبياً، وهذا يعني أن الفضول يحسن عمل الذاكرة ويطور القدرات اللغوية، إلى جانب تعزيزه عمليات التفكير والانتباه والاستدلال، وجميعها جوانب مهمة لتأخير شيخوخة الدماغ وخفض خطر التدهور المعرفي.
اقرأ أيضاً: ماذا يحدث في دماغك خلال لحظة الإلهام؟ دراسة حديثة تجيب
كيف تحول الفضول إلى ممارسة يومية؟
مثلما أخبرتك في بداية مقالنا، نحن في طفولتنا نكون أكثر فضولاً وقابلية لاكتشاف المجهول، لكن بمرور الوقت قد تتراجع لدينا هذه القدرات، فماذا نفعل إن أردنا استعادتها، إليك الخطوات العملية:
- حرر عقلك من قيوده وأخرج الطفل الذي بداخلك، عن طريق استرجاع النمط الذي كنت تتعامل به عندما كنت طفلاً تجاه التجارب الجديدة عليك، وبمرور الوقت ومع ازدياد المحاولات ستجد أن الفضول يحركك.
- حاول دائماً أن تسلك طرقاً جديدة سواء كانت في مشاويرك اليومية أم في أدائك لمهام عملك أم حتى في تحضيرك لوجباتك الغذائية، وأيضاً احرص على جعل التجربة حاضرة في تفاصيلك اليومية؛ على سبيل المثال جربت اليوم أن أتذوق وجبة لم أتناولها قبلاً، فقط كيلا أبقى أدور في مساحة أن ما أعرفه أفضل من المجهول.
- جرب عندما تسير في الشارع ألا تنشغل بهاتفك الذكي، وبدلاً من ذلك انظر إلى محيطك واستوعب كل التفاصيل الموجودة فيه، فحتماً ستلتقط أبعاداً لم تكن منتبهاً لها، هذه الأبعاد ستحرك فضولك وتولد بداخلك تساؤلات تبحث عن إجاباتها، وذلك من ناحية أخرى سينمي لديك مهارة التفكير العميق.
- نوع اهتماماتك واقرأ في مجالات علمية مختلفة لتمرن دماغك على الاستكشاف والنظر للأمور بطرائق مختلفة.
- لا تتوقف عن طرح الأسئلة مهما بدت لك بسيطة أو غير مهمة، فالسؤال وسيلة أساسية لتنمية فضولك وتطوير مهاراتك المعرفية.
اقرأ أيضاً: هل عقلك فوضوي؟ إليك كيفية تنظيم أفكارك بفعالية