يشير التحليل النفسي إلى فترة الحداد التي تلي فقدان عزيز بوصفها عملية طويلة ومعقدة تُعبر عن مفهوم مزدوج يشير إلى الموت والحزن معاً، كما يؤكد أن مرور الشخص المفجوع بهذه الفترة أمر لا بد منه لينهي حزنه ويستهل حياته مجدداً.
لأسابيع متتالية، كانت موريل البالغة من العمر 36 عاماً تستيقظ ليلاً لتبكي في الحمام، واضعة منشفة على وجهها لتخنق بكاءها، تقول موريل: "لم أرغب في أن أثقل كاهل زوجي، ولا أن أثير قلق ابنتي الصغيرة البالغة من العمر 7 سنوات، والتي كانت تعاني أيضاً من قدر كبير من الألم إثر وفاة خالها". فقدت موريل شقيقها الأكبر المحبوب منذ عامين في حادث سيارة، ولمدة ثمانية أشهر، جاهدت لكيلا يغلب عليها الحزن، وقبل كل شيء لإخفاء آلامها عن الآخرين. وتتابع: "بعد وفاة شقيقي بوقت قصير، قال لي رئيس القسم الذي كان مفعماً بحسن النية: "لا تترددي في أخذ إجازة لبضعة أيام، ففترة الحداد مهمة". "شعرت هنا بالهوة التي تفصل بين أولئك الذين فقدوا أحباءهم والآخرين. لا يمكن التعامل مع الحزن كالإنفلونزا، وفترة 10 أيام من الحداد ليست كفيلة بإنهاء الحزن وليس من المستغرب أن كلمة "فترة الحداد" تثير استياء معظم المفجوعين".
يقول كريستوف فوري، الطبيب النفسي ومؤلف كتاب "التعايش مع فترة الحداد من يوم لآخر": "تمثل حالة الحداد مفهوماً متناقضاً، فهي تنطوي من جهة على ألم خسارة الأحبة، كما أن هذا الألم الذي نعيشه هو من جهة أخرى بمثابة دعوة للنسيان". ويوضح الطبيب النفسي، أن "فترة الحداد" أصبحت تمثل محاولة المرء التخلص من حزنه بسرعة حتى لا يثقل كاهل الآخرين.
وفي هذا الصدد تقول المحللة النفسية ماري فريدريك باكيه، أستاذ علم النفس المرضي ورئيس جمعية علم النفس ومؤلفة كتاب "نحزن لكي نحيا": "لقد حلت هذه الصيغة محل تعبير فرويد "عملية الحداد" في ثقافتنا القائمة على المتعة والإنتاجية وكبح المشاعر، إذ يزعج حزن الشخص الذي فقد عزيزاً من حوله، وذلك لأنه يذكرهم بشدة بما يود الجميع نسيانه، ألا وهو الموت. إلا أن المحللة النفسية تؤكد أن عيش مشاعر الحزن والاندماج في مراحل فترة الحداد، هي أمور لابد منها ليستأنف المرء حياته من جديد. وهذا يتطلب منه قبل كل شيء تخليه عن الرفض، وعدم كبح مشاعره، ليتمكن من تقبل الحزن الذي يمر به وتقبل هذه الخسارة".
بين الحياة والموت
يتحدث فرويد، في مقالته "الحداد والحزن" (علم النفس لسيغموند فرويد، غاليمارد، 1985) عن التخفيف التدريجي للألم الناجم عن فقدان أحد الأحباء باعتباره نتيجة لعملية داخلية قد تطول أو يزيد ألمها تبعاً لكل حالة. ووفقاً لفرويد، فإنه بعد التعرض لصدمة الخسارة والمشاعر المختلفة التي تليها (أبرزها عدم الاهتمام بالعالم الخارجي وفقدان القدرة على الحب والتصرف)، يجد المفجوع نفسه على مفترق طرق: هل توجهه ذاته لاتباع مصير الشخص الذي فُجع بموته، أم أنه سيفك هذا الارتباط ويعود لحياته مجدداً؟
وكلما كان الشخص الراحل يعني لنا، زاد اعتبار رحيله هجوماً حيوياً ضدنا وزاد ضعف الخيط الذي يربطنا بالحياة.
ويتضح ذلك في حالة ماري أندريه، 46 عاماً، التي فقدت طفلها البالغ من العمر 3 أشهر قبل اثني عشر عاماً تقول ماري: "في يوم الجنازة، شعرت جسدياً أن شيئاً ما قد انتُزع من رحمي وتبع طفلي إلى قبره. عشت لأشهر مثل الموتى الأحياء، لم أعد أشعر أنني على قيد الحياة".
وتأتي فترة الحداد لتمثل الخط الفاصل بين مصير الشخص المفجوع ومصير المتوفى، من خلال تطوير "علاقة جديدة معه". وتوضح ماري فريديريك باكيه أن: "الوصول إلى هذه اللحظة واستعادة الشخص المفجوع لحياته لا يعني أنه قد تخلى عمن فقده أو أنه نسيه، إنما تأتي هذه المرحلة لمنح من فقدناه مكانة أخرى في حد ذاتها، مكانة لم تعد تمنعنا من العيش والحب والعمل".
الحداد "رحلة" تستغرق وقتاً
تؤكد المحللة النفسية على بطء عملية الحداد وتعقيدها، إذ تقول: "لا يمكن "ضغط" عملية الحداد، ولا يمكننا تسريع وتخطي مراحلها. كما أنها عملية لا تعترف بالوقت بكل التقلبات التي قد تتخللها، وكل ما يمكن للمرء فعله هو عدم إعاقة سير هذه العملية عبر ترك مشاعره تتدفق دون محاولة كبحها".
كان بابتيست، 32 عاماً، يبلغ من العمر 17 عاماً عندما فقد والده، يقول بابتيست "توفي والدي إثر نوبة قلبية عن عمر ناهز 44 عاماً". "لقد كان مفعماً بالحيوية ومدخناً شرهاً، كنت غاضباً منه جداً لأنه لم يتحلّ بالقوة اللازمة للإقلاع عن التدخين". ويتابع: "لأشهر، وكما لو كنت أنتقم من وفاة أبي، وفي نوبة من إيذاء نفسي، كنت أدخن ما يقرب من علبتي سجائر يومياً. ثم توقفت فجأة، وانحسر غضبي، وغزتني مشاعر الحزن بشكل مفاجئ".
ويُجمع المختصون على أن كل شخص يمثل حالة فريدة من نوعها خلال فترة الحداد، فلكل طريقة ووتيرة حزن خاصة به. يقول كريستوف فوري: "هناك أوقات قد يعتقد فيها الشخص أنه خرج من حالة الحداد، ثم ينتكس ويصاب بالذعر من الشعور بالحزن الشديد. لكن هذا أمر طبيعي، فعملية الحداد ليست عقلانية ولا خطية، يستغرق الأمر وقتاً للقبول والتعبير عن النطاق الكامل للمشاعر، ثم تكوين رابط جديد مع المتوفى، قبل أن يستأنف المرء حياته مجدداً".
قوة الترابط والدعم
في بعض الأحيان قد يتم "إبطاء" عملية الحداد أو حتى إيقافها، ويحدد كريستوف فوري نوعي العوامل التي قد تؤدي هذا الدور: "يمكن أن تكون العوامل خارجية، مثل عدم الاستقرار المادي، أو العزلة الاجتماعية، أو وجود أطفال صغار، أو حتى المرض أو الإرهاق العصبي. كما يمكن أن تكون داخلية أيضاً، كما هو الحال بالنسبة للأشخاص الذين لديهم تاريخ من القلق الشديد والاكتئاب، أو الخوف من التعرض للخطر أو مواجهة مشاعرهم، إضافة لخجلهم من طلب المساعدة. مهما كان الأمر، لا تتردد في طلب المساعدة من أصدقائك أو من المختص الاجتماعي أو من الجمعيات أو من المعالجين النفسيين.
وتؤكد ماري فريديريك باكيه على أهمية دعم المحيطين بالشخص الذي يمر بفترة الحداد له: "غالباً ما يهرب أفراد العائلة أو الأحباء أو الأصدقاء من الشخص الذي يمر بفترة الحداد، وذلك لشعورهم بالعجز عن قول أي شيء، إلا أن الواقع يقول إنه ليس مطلوباً منهم الكلام إنما كل ما عليهم هو أن يكونوا مستمعين جيدين، إن الاستماع للشخص المفجوع هي أفضل هدية يمكن تقديمها له من محبيه. وجدير بالذكر هنا أنه من الأفضل تجنب صيغ الكلام الجاهز ونصائح الحياة عند الكلام معه، فهو لن يسمعها، والأسوأ من ذلك أنه سيفسر مثل هذه العبارات على أنها إنكار لألمه من قبل المحيطين به.
فقدت أودي، 38 عاماً، جدتها التي ربتها قبل ثلاث سنوات، وكانت تبلغ من العمر 86 عاماً. تقول أودي: "إيماناً منهم بمساعدتي في محنتي، كان أصدقائي يقولون لي: "لقد عاشت جيداً، إنه عمر جيد للموت". لم يفهموا أن طفولتي كلها ماتت معها وأن شيخوختها لم تكن تعزية لي. لم يفهم ذلك سوى صديقتي المقرّبة، التي أعطتني زجاجة كبيرة من الكولونيا التي كانت جدتي تحملها معها، مصحوبة برسالة رائعة عن "الوجود الأبدي".
إن قبول حقيقة الخسارة، وحب المتوفى بطريقة جديدة دون التخلي عن الحياة، هو بلا شك ما قصده فرويد بعبارة "قتل الموتى فينا"، وليس الراحلين، فهذا القبول هو الذي سيجعلنا نتجاوز فترة الحداد وسيخلصنا من الجزء المظلم في أنفسنا ويجعلنا نقول نعم للحياة مرة أخرى.