ملخص: يمكن تفسير التمرد وعدم الانصياع إلى الأوامر بظاهرة نفسية تسمَّى "المفاعلة النفسية"؛ وهي استجابة تحفيزية تتجلى بمقاومة الفرد لما يهدد حريته أو خياراته.
محتويات المقال
إذا قيل لك: "ممنوع تناول هذا الطعام"، تصبح أكثر ميلاً إلى الانغماس فيه. وإذا أصرّ والداك على إبعادك عن قضاء وقتك مع شخص محدد، تصبح صحبته أكثر جاذبية. وإذا كنت تقود سيارتك وشعرت بأنك مقيد جداً بحدود السرعة، فربما لن تلتزم بها، حتى لو كانت سلامتك على المحك!
هذه النزعة إلى التمرد متأصلة في عقولنا وثقافتنا منذ الطفولة، فنحن لا نحب أن يُملي علينا الآخرون ما يجب فعله، وإن أُمِرنا، سنفعل عكس ما نُؤمر به! يشير المعالج النفسي، عبد الله الجطيلي، إلى أن: "أهم قاعدة سلوكية اكتشفناها حول الإنسان هي أن الإنسان بطبعه لا يحب الأوامر". في الواقع، لهذه الظاهرة اسم في علم النفس، وتُدعى "المفاعلة النفسية"، وإليك تفسيرها وكيفية ترويضها لتحقيق مصلحتك ومصلحة من حولك.
ما نظرية المفاعلة النفسية؟
طرح أستاذ علم النفس الاجتماعي، جاك بريهم (Jack Brehm)، عام 1966، الأسئلة التالية: "لماذا يفعل الطفل أحياناً عكس ما يُقال له؟ ولماذا يكره الإنسان أحيانا تلقيّ معروف؟ ولماذا يبدو العشب في المرعى المجاور أكثر خضرةً؟"، ثم صاغ الإجابة بنظرية سماها "المفاعلة النفسية" (Psychological Reactance)؛ وهي إثارة تحفيزية محمَّلة بالمشاعر السلبية، تتجلى بمقاومة الفرد لما يهدِّد حريته، واستفزازه نحو استعادتها.
عموماً، تنص النظرية على أن لدى الناس تصورات معينة عما يمتلكون من حرية لممارسة ما يُسمَّى بـ "السلوكيات الحرة"، فإذا ما اعتبروا أن عاملاً ما يمثّل تهديداً لحريتهم في الاختيار أو يعوقها أو يلغيها، فمن المرجح أن يبدوا ردود فعل نفسية على ذلك المؤثر، وهذه الاستجابة ليست مجرد استجابة سلوكية؛ بل تفاعل معقد بين ردود الفعل السلوكية والمعرفية والعاطفية.
فمن الناحية السلوكية، قد يحاول الفرد استعادة حريته المقيدة أو المسلوبة على نحو مباشر أو غير مباشر. ومن الناحية المعرفية، قد يقلل الشخص من قيمة مصدر التهديد أو يعزز أهمية الحرية المسلوبة. أما من ناحية عاطقية، فقد تؤدي الاستجابة إلى مشاعر انزعاج وعداء وعدوان وغضب، بالإضافة إلى أن حجم رد الفعل الذي يُبديه الشخص يرتبط بأهمية الحرية المهددة.
جدير بالذكر أن ما يهدد حرية الشخص قد يكون تهديدات داخلية تنبع من القيود التي يفرضها الفرد على نفسه؛ والتي تنشأ عند اختيار بدائل معينة على غيرها. وقد تكون تهديدات خارجية؛ مثل عوامل ظرفية خارجة عن سيطرة الفرد تخلق حواجز أمام الحرية بالمصادفة، أو محاولات التأثير الاجتماعي المتعمدة التي تهدف إلى تقييد استقلالية الفرد.
خلاصة الكلام: يتوق البشر نحو الاستقلال والحكم الذاتي، فيريد كل شخص منا أن يتخذ قراراته بكامل حريته وأن يضع قواعده الخاصة؛ لكن عندما يرى أن حريته مهددة أو خياراته محدودة، سيشعر بالانزعاج أو الذعر أو الغضب ما يجعله يفعل عكس ما يؤمر به بغية حماية "الأنا" وألا يبدو ضعيفاً، حتى عندما يتعلق الأمر بالسلامة للشخصية.
وقد يصبح رد الفعل النفسي جامحاً، وربما يؤدي إلى شجار أو مشكلات في العلاقات أو العمل. لذلك؛ من المهم أن نحدد متى تتصرف ذواتنا المتمردة بطريقة ليست في مصلحتنا، أو مضرة لمن حولنا، وأن نتعلم كيفية ترويضها.
اقرأ أيضاً: الأنا العليا: رقيب أم طاغية؟
كيف تروِّض ذاتك المتمردة؟
ليس المقصود أن تتخلّى عن حرية قرارك أو أن ترضى بكل ما يُملى عليك؛ إنما الفكرة أن تجعل ردود فعلك النفسية تعمل لصالحك وليس ضدك. فبدلاً من محاولة إرضاء غرورك على الدوام، ينبغي لك أن تتعلم الموازنة بين ما هو أفضل لك ولمن حولك.
على سبيل المثال؛ إذا كنت تنوي أساساً غسل الأطباق لكن والدتك أو شريكة حياتك طلبت منك غسل الأطباق الآن، فقد تشعر بالانزعاج، أو تمتنع عن غسلها، أو تتفوه بكلمات غاضبة أو غير لائقة؛ ما قد يضر بعلاقتكما، خصوصاً إن حدثت هذه الردود النفسية مراراً وتكراراً في صور مختلفة.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى العمل، فالامتناع عن فعل ما يُطلب منك أو الامتعاض بسببه، والسماح لغرورك بالسيطرة على الموقف، قد يخرب علاقتك مع رئيسك في العمل أو زملائك. لذلك؛ إليك بعض النصائح الفعالة لإدارة ردود فعلك النفسية:
اقرأ أيضاً: كيف تتصرف عندما لا تحصل على ما تريد بشدة؟
حدد ردود فعلك
ابدأ التعرف إلى استجاباتك العاطفية عندما تواجه تعليمات أو قواعد أو أوامر ينبغي التقيد بها، سواء أكانت الانزعاج أم التحدي أم الغضب، فإن فهم ردود فعلك الفورية والاعتراف بها يمثلان الخطوة الأولى في إدارتها.
افهم جذور ردود فعلك النفسية
نمِّ وعيك الذاتي وتعمق في الأسباب الكامنة وراء ردود فعلك النفسية، واكتشف إذا كانت تنبع من تهديد محسوس لحريتك، أو شعور بالقيود، أو تحدٍّ لاستقلاليتك، ففهم السبب الجذري أمر محوري في معالجة المشكلات الأساسية.
اقرأ أيضاً: هل تفهم السعادة على نحو صحيح؟ خبير من جامعة هارفارد يشرحها لك
أعِد صياغة التهديدات التي تواجه حريتك
تحدَّ أفكارك عندما تشعر بإبداء المفاعلة النفسية وأعِد صياغتها. فكر في الصورة الأكبر، مع التركيز على أهمية الموقف بدلاً من التركيز على استجابتك العاطفية الأولية فقط. فبدلاً من اعتبار الاقتراحات أو الطلبات أو الأوامر تهديدات لحريتك، أعِد صياغتها بوصفها فرصاً أو توجيهات. تذكر أن الآخرين قد لا ينوون السيطرة عليك؛ وإنما يقدمون الدعم أو المشورة. حاول أن ترى الأمور من وجهات نظرهم، فالتعاطف يمكن أن يقلل ردود الفعل النفسية.
تعرَّف إلى الضرر المحتمل
اعترف عندما تؤدي ميولك المتمردة إلى عواقب ليست في مصلحتك أو قد تضر بالآخرين، فهذا الاعتراف أمر بالغ الأهمية لإعادة توجيه السلوك، والتأكد من أن أفعالك تتوافق مع رفاهيتك ورفاهية من حولك.
وازن بين الاحتياجات الشخصية والمسؤوليات المجتمعية
في حين أنه من الطبيعي إعطاء الأولوية للاستقلالية الفردية، فمن المهم أيضاً التعرف إلى المواقف التي يكون فيها الامتثال ضرورياً للرفاهية الجماعية. يتضمن ذلك النظر في الصورة المجتمعية الأكبر بما يتجاوز التفضيلات الشخصية. وإذا كنت في وضع تحتاج فيه إلى توجيه الآخرين أو نصحهم، فاستخدم استراتيجيات التواصل التي تقلل رد الفعل. على سبيل المثال؛ كن لطيفاً وأكد للآخرين إنهم أحرار في اتخاذ القرارات بأنفسهم؛ ما يعزز الشعور بالاستقلالية.
اقرأ أيضاً: 6 خطوات فعالة لتتمكن من التفاهم مع الآخرين بأفضل صورة
مارِس الانضباط
ترويض النزعة الداخلية نحو التمرد يتطلب الانضباط والممارسة. درِّب نفسك على التوقف لحظة والتأمل قبل أن تتصرف باندفاع؛ ما يساعدك على اتخاذ قرارات أفضل.
تمرن على اليقظة الذهنية
مارس تمارين اليقظة الذهنية للتركيز على شعورك وأفكارك الوقت الحالي وتجنب ردود الفعل غير المحسوبة. يمكن أن تساعدك تقنيات الاسترخاء؛ مثل التنفس العميق أو التأمل، على الاستجابة بهدوء أكبر تجاه المواقف التي تنطوي على ردود الفعل.
ختاماً، يمكن القول إن الحرية ملَكَة عزيزة، ومن المهم أن تتمتع بالاستقلالية والحرية في اتخاذ الخيارات؛ لكن من المهم أيضاً أن تتذكر أن الآخرين يقدمون الاختيارات ولا يفرضون السيطرة. فليس كل أمر يُملى عليك يصبح تهديداً لحريتك، ولا بد من إعطاء الأولوية لرفاهية الآخرين والاعتراف بالأثر الاجتماعي لردود فعلك من أجل تعزيز العلاقات الاجتماعية والإسهام في الرفاهية المجتمعية الشاملة.