وهم السيطرة الكبير: ما هي تكلفة سيطرتك الكاملة على حياتك؟

سلوك السيطرة
shutterstock.com/sp3n
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

قد يكون سلوك السيطرة ومقدرة الإنسان على التحكم في عواطفه، وجسده، ووقته، وعلاقاته، في عالم محفوف بالقلق وعدم الاستقرار، مؤشراً يبعث على الطمأنينة في نفسه. ومع ذلك، فإن هذه الرغبة في سيطرة الفرد على جوانب حياته قد تكشف عن نقاط الضعف أكثر من نقاط القوة لديه، كما أنها تستحوذ على جزء كبير من طاقته الحيوية.

  • الخوف كمحرك لـ “سلوك السيطرة” على الذات
  • الاختيار بين السيطرة على حياتك أو عيشها

إن فكرة أن يعيش الإنسان حياة طويلة بصحة جيدة، وازدهار عاطفي ومهني، وأن يكون لديه وقت لنفسه ولمن يحب، بما يحقق له راحة البال، تعد نموذجاً مثالياً ومعتدلاً للحياة بين مذهب المتعة من جهة وقيم الحكمة الشرقية من جهة أخرى. إذاً ما هو سر هذه الحياة المثالية؟ إنه التمتع بمقدرة السيطرة على العواطف والعلاقات والوقت والجسد.

ونظراً لأن الثقافة المعاصرة تقوم على حجم أداء الفرد والنظرة المادية للأمور، وفي عالم يصعب التنبؤ بمتغيراته أكثر فأكثر، فإن الوجه الوحيد للسيطرة التي نعتقد أنها بمتناولنا الآن هي السيطرة على أنفسنا. فقدرة الإنسان على أن يكون “مديراً” لذاته وصحته وسعادته تمكنه- أو يعتقد أنها تمكنه- من أن يكون حراً في اختيار الحياة التي يصبو إليها ويرى أنها تشبهه، ما قد يساعده على رسم هذه الحياة وفق رغباته دون عوائق.

كان هذا هو الطموح الأكثر انتشاراً في العقود الأخيرة، وشكّل بدوره الخيال الجمعي للفرد الذي يسعى إلى السيطرة على حياته والتحرر من كل الأعباء والقيود.

ومع ذلك، فإن لهذا المسعى، بعيداً عن اختصار حاجاتنا الوجودية، بُعداً آخر، وفقاً لعالم الاجتماع آلان إهرنبرغ، الذي يوضح أن: “ضبط النفس، والمرونة النفسية والعاطفية، والقدرة على اتخاذ زمام المبادرة تعني أن كل شخص يجب أن يتحمل المسؤولية عن التكيّف الدائم مع عالم يفقد بقاءه”، إذ يعني ذلك أن الفرد الذي تمكن من إحكام سيطرته على حياته سيكون عبئاً على نفسه في ذات الوقت.

الخوف كمحرك لـ “سلوك السيطرة” على الذات

تقول لويز، 34 عاماً، وهي تعاني من الخوف من اتخاذ القرارات الخاطئة: “كان للقرارات العفوية تأثير سيئ في حياتي العاطفية والمهنية فيما مضى، لذا فأنا أضع اليوم العقل قبل العاطفة. لا تسحرني وظيفتي في مجال الاتصال المؤسسي كثيراً، لكني أمارس المسرح جنباً إلى جنب، وأخرج مع أصدقائي. تشكل حياتي العاطفية الجانب السلبي الوحيد لدي، وما زلت أنتظر، فأنا إنسانة انتقائية ومتطلبة للغاية، وإذا التزمت عاطفياً، فيجب أن يكون الالتزام مناسباً تماماً هذه المرة”.

وتتحدث ماتيلد، 42 عاماً، صيدلانية وأم لثلاثة أطفال أيضاً عن طريقتها في السيطرة على جوانب حياتها وتقول: “أنا أدرك ذلك تماماً، وشعاري هو “الانضباط التام”. فبدون هذا الانضباط كنت سأكتسب وزناً زائداً، وسأخسر حياتي الاجتماعية، ولن أملك الوقت لممارسة شغفي في المصنوعات الخزفية، أو حتى الوقت لعلاقتي!، تُمثل السيطرة على جوانب حياتي الأمان بالنسبة لي، وأنا أتّبع أسلوب التخطيط والتوقع والمراقبة إذ يساعد ذلك على الحد من أثر “المفاجآت السيئة” قدر الإمكان”.

وتعترف ماتيلد أنها طورت هذه الاستراتيجية كرد فعلٍ على طفولتها التي اتسمت بعدم الاستقرار والأمان، بسبب عدم نضج والديها اللذين كانا يعيشان حياة “بوهيمية”.

بالنسبة للطبيبة النفسية ستيفاني هاهوسو، فإن السيطرة على الذات هي، قبل كل شيء، آلية دفاعية تعبر عن حاجة الفرد إلى الحماية العاطفية. وربما يكون الشخص الذي يعيش في حالة يقظة مفرطة قد تعرض لصدمة أدت به إلى وضع حاجز منيع بين عواطفه والعالم الخارجي، إذ يتصرف بطريقة تعطي لنفسه انطباعاً بأنه يؤثر بدلاً من أن يتأثر. كما أن تنشئة الشخص من قبل والدين لم يلبيا احتياجاته العاطفية بطريقة آمنة بما فيه الكفاية تؤدي إلى تطور سلوكيات السيطرة لديه. وتوضح الطبيبة النفسية عدة سيناريوهات في هذا الصدد: “ربما لم يشعر الطفل بالحب لما كان عليه، أو لم يشعر بالأمان الذي يجب أن يوفره ارتباطه المستقر بوالديه. ومن الممكن أنه لم يتم تشجيعه على تطوير مساحة ذاتية مستقلة، أو تم استخدامه من قبل والديه كأداة لتنظيم عواطفهما: على سبيل المثال، يمكن للسلوك الاندماجي للأم تجاه طفلها أن يقوده إلى “تجميد” عواطفه لفترة طويلة لحماية نفسه من تطفل الآخرين، أو على العكس دفعه لإعادة إنتاج النمط الأمومي مع المقربين منه.

ويحدد كل احتمال منطقة السيطرة الرئيسية التي تأثرت: السيطرة على العواطف، الوقت، العلاقات، الجسد… إلخ.

وتوضح ستيفاني هاهوسو: “حتى لو كان للسيطرة على الذات في البداية هدف واحد فقط وهو: منع أنفسنا من إدراك الأحاسيس وبالتالي تجنب تعرض أحاسيسنا للاختراق”، فإن هذا الموقف الوقائي مكلف للغاية، لأنه يبقينا في حالة دائمة من التوتر، ما يؤدي إلى الإرهاق الجسدي والعصبي، والذي غالباً ما يكون سبباً لأمراض أكثر أو أقل خطورة.

عاشت فلورا، 44 عاماً، طوال حياتها كامرأة عقلانية، وجادة إلى حد الصلابة. دائماً ما كانت تبحث عن الكمال، وبذلت جهوداً مضنية في عملها حتى حطمت خطة التسريح الوظيفي أوهامها ومعاييرها. وتبع ذلك إصابتها باكتئاب دام أربع سنوات، قبل أن تستعيد عافيتها مجدداً. تقول فلورا: “في البداية كان لدي انطباع بأنني أنتهك معاييري الذاتية، وبعد ذلك، خلال فترة علاجي النفسي، أدركت أنني عشت حياة والديّ وليس حياتي. لقد كنت بعيدة عن رغباتي الحقيقية، وعن شخصيتي الحقيقية، وبعيدة عن الآخرين، دائماً ما أصابني الشلل بسبب الخوف من فعل الأشياء السيئة وقول الأشياء السيئة، في محاولة مني لأكون وفية للأطر الصارمة لعائلتي”.

ويرى المحلل النفسي جان بيير وينتر أن سلوك السيطرة المفرطة على النفس ينبع من عدم ثقة المرء في رغبته، ومحاولة كبحها: “يتم التعامل مع الرغبة على أنها تهديد، لذلك يدافع الشخص عن نفسه بمحاولة السيطرة على حياته الغريزية. لكنه في الواقع لا يسيطر على رغبته لأنه لا يتخلى عنها، ولا يشبعها، إنما يقمعها، والسيطرة من أعراض هذا القمع.

الاختيار بين السيطرة على حياتك أو عيشها

في كتابه “الاحتفال بالحياة اليومية” يسأل جون ديدو لوري سؤالاً مصمماً ليذهل أذهان الجميع ويداعب عقلهم الباطن: “هل تبحث عن السيطرة أم الحرية؟”، هل تريد التحكم في دوافعك، ورغباتك، وعواطفك، أم منح نفسك الحرية في أن تشعر وتحيا؟

بعد طلاقه قبل أربع سنوات، أنهك الطبيب بيير أندريه، 44 عاماً، نفسه في العمل والعلاقات العابرة. ومن خلال تحييد مشاعره وعواطفه كان لديه انطباع بأنه يحمي نفسه، ولكنه في الوقت ذاته، لم يعد يشعر بأنه على قيد الحياة. يقول بيير: “قبل عامين، قدّم لي أحد الأصدقاء دورة تدريبية في التأمل باليقظة الذهنية وقلت في نفسي “لم لا”. منذ الجلسة الأولى، في أثناء التركيز على ملامسة الحجر تحت يديه، شعر بيير بشيء يوقَظ فيه من جديد ويوضح: “لم يكن شيئاً غير عادي، إنما فقط الشعور بأن الحياة قد عادت إليّ مجدداً. شعرت بأنني أتخلى عن مخاوفي، وموقفي الدفاعي، وهذا، وللمفارقة، ما جعلني أقوى. لم يكن هنالك مكان للشكوى ضمن أعراف عائلتي، كان عليك أن تبتسم وتمضي قدماً. وهذا ما فعلته خلال السنوات الثلاث التي أعقبت طلاقي، الأمر الذي جعلني أشبه بالروبوت الاجتماعي. اليوم، سأعود إلى الحياة”.

إن عيش اللحظة الحالية، والشعور دون رقابة على الذات، والتفكير دون إصدار أحكام مسبقة، وقبول ما لا يمكن تغييره، هي بعض الأسرار للتوقف عن سلوك السيطرة والتحكم بالذات وبالآخرين، وصولاً إلى الحرية الحقيقية والقول: “نعم للحياة”.

المحتوى محمي !!