لماذا نعاني في الاهتمام بأنفسنا؟

الاهتمام بالنفس
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

الاسترخاء أو الأكل الصحي أو تخصيص وقت للقراءة أو التدليك؛ كلها مفاتيح للنفس ولكل نفس مفتاحها السري. نعرف جميعاً أن الرفاه وراحة البال رهينتان بمدى قدرتنا على إحاطة أنفسنا بالعناية والتعامل معها باللطف اللازم؛ لكن الانتقال من النظرية إلى التطبيق يتطلّب خطوة يصعب أخذها أحياناً.
تحكي هناء البالغة من العمر 37 عاماً عن تأثرها في أثناء قراءة إحدى مقالاتنا المتعلقة بالاهتمام بالنفس قائلة: “تبدو خطوات في غاية السهولة، أشياء صغيرة من اليسير إدخالها في روتينك اليومي كالتمدد والتنفس الجيد وأخذ حمام؛ لكن رغم ذلك تبدو لي هذه الأشياء الصغيرة أصعب من تسلق جبال الهمالايا!

حين أمعنت التفكير في الأمر فهمت أني في أعماق نفسي لا أؤمن أن بوسع هذه التدابير تغيير حياتي؛ كما لو أن كل الأوراق كُشِفت منذ البداية بالنسبة إليّ، وما من مبرر لاستكمال اللعبة. أظن الاعتناء بالنفس مَلكَة يتمتع بها البعض، فيما كُتِب على الآخرين الاكتفاء بقراءة النصائح التي تحضّ عليها غير قادرين على تطبيقها!”.

لا يتعلق الأمر بهناء وحدها، فأمثالها كُثر ممن يدركون أن الاهتمام بالنفس هو أساس الرفاه جسدياً وشعورياً لكنهم رغم ذلك يهملون أنفسهم أو يسيئون معاملة أجسادهم.

النفس والجسد: مَنْ مرآة مَنْ؟

يوضح المحلل النفسي جوان-دافيد نازيو: “هناك طريقتان ينظر بهما المرء إلى جسده؛ إما بنسيانه، وفي هذه الحالة يكتسب وجودي قيمته من جسدي فيتحدان فأعبّر عن نفسي بالقول ’أنا هو جسدي’، وإما بوضعه نُصب العينَين والتفكّر فيه، وحينئذٍ أتعامل معه باعتباره أثمن ممتلكاتي، وعندها أشير إليه بقولي ’لدي جسد’!”.

بشكل أدق فإننا حين نكوّن مع أجسادنا كياناً واحداً، لا يعود بإمكاننا أن ننظر إلى هذا الجسد بشكل منفصل؛ وبالتالي اعتباره موضوع اهتمام وعناية. في المقابل متى ما أدركنا أننا نتوفر على جسد؛ أو كما أطلق عليه المحلل النفسي” السيد الآمر الناهي” الذي بيده أن يمد في حياتنا أو ينهيها، تسهل علينا معاملته بكل التوقير والإجلال الذي يستحق.

لكن الاهتمام بالنفس ليس فقط مسألة بين الشخص وذاته، فبالنسبة إلى الطبيب والمعالج النفسي ومؤلف كتاب “حدود الحميمية” (Territoires de l’intime)، روبير نوبيرجيه لا تكتسب هذه العملية معناها إلا حين تدخل في إطار علاقة ما؛ إذ يقول: “لا يمكن للكائن البشري أن “يَنْوَجد” (أي يوجِد نفسه بنفسه) ومنه فإن ليس بمقدوره الاستغناء عن الآخر، ولهذا فنحن نهتم بأنفسنا لا إرضاء لذواتنا ولكن انصياعاً لما تُمليه علينا نظرة الآخرين، بهدف تحقيق الانتماء”.

إذا كنا ننتقص من قدر وأهمية وقيمة أجسادنا فإن الاهتمام بالنفس لا جدوى منه البتة. تسترجع آنييس البالغة من العمر 44 سنة تجربتها قائلة: “بعد طلاقي صرت أرى نفسي بشعة. كان الاهتمام بنفسي في تلك المرحلة يتلخص في التوجه إلى صالون التجميل كي أحافظ على صورتي الجميلة في عينيّ ابنتي؛ حتى حين كنت أضع أحمر الشفاه كنت أفعل ذلك لأجلها هي”.

التربية: حبل سري لم يُقطع

إذا كنا نستقي نظرتنا لأنفسنا من نظرة الآخرين لنا، فإن نظرة الوالدين هي ما يسمح لنا قبل ذلك بتطوير علاقتنا مع أجسادنا، فإما يكون عنوان هذه العلاقة “العناية والاهتمام” وإما العكس. يُحلل هذه الفكرة المعالج النفسي مؤلف كتاب “فقدان الوزن والفوز بصفقة مع النفس” (Mincir et se réconcilier avec soi)، ميشيل فرويد بقوله: “التمكن من الاعتناء بالنفس أو إهمالها يرتبطان من جهة بتاريخنا الشخصي وبتربيتنا من جهة أخرى؛ إذ إن التصوّر الذي نحمل عن ذواتنا نتاج كل الكلمات والتصرفات أو النظرات التي شهدناها في طفولتنا.

فإذا كانت هذه التجارب مُرْضيَةً ننجح في بناء صورة صحية عن أجسادنا وتقدير جيد لذواتنا، وإن كانت مَرَضيّة ستتعقد العلاقة مع الجسد وسنسعى جاهدين إلى تغطية هذا الجسد غير المحبوب بطبقات من النسيان تأخذ أشكالاً متعددة كالأكل المُضرّ والإجهاد وغياب الرعاية الصحية.

وبناء على هذه المعطيات، كما يؤكد ميشيل فرويد، يأتي دور الرسائل الإيجابية أو السلبية التي رسختها التربية التي تلقينا في أذهاننا، وبتعبيره: “هذا الإعداد يحدد سلوكياتنا كعدم القدرة على استقطاع وقت للنفس دون الشعور بالذنب واعتبار الاهتمام بالنفس مضيعة للوقت أو دليل أنانية، وربط الراحة بالكسل”. ومن شأن هذه الاعتقادات بشكل أو بآخر، جعلنا نسدّ آذاننا عن الإنصات إلى احتياجاتنا ودفعنا إلى كبح تطلعاتنا نحو حياة أكثر رفاهة.

بالنسبة لأماني البالغة من العمر 36 سنة، فهي تحمل في قلبها نفسه غيرةً واحتقاراً اتجاه تِلكُم “المغناجات اللواتي ينصَعن لما تُمليه عليهن المجلات النسائية”. “أقنعة وجه وتدليك ويوغا، وسط هذه المعمعة هل يتبقى لهن حقاً وقت كي يعملن؟ أنا أدير شركة معلوماتية تتكون من 20 موظف كما أني أم لطفلين، لا وقت لدي فعلاً لهذا الدلال!”. لكن أماني ليست بغافلةٍ عن تاريخها الشخصي ولا كيف وجدت نفسها في هذا الوسط الرجالي إذ لطالما اعتبرها والدها؛ الرئيس السابق للشركة، وريثه”.

تؤكد مبتسمةً: “وليس ’الوريثة’! أهمّ قِيَم عائلتي التي شببتُ عليها هي العمل والتفوق الاجتماعي، ففي الوقت الذي كانت فيه صديقاتي يتأنقن لقضاء وقت ممتع؛ كنت أنا أعمل بكد للتحضير لنيل شهادة الماجستير في الولايات المتحدة الأميركية، وبالطبع لستُ بحاجة إلى أن أنوّه بأني لم أكن ألتفت مطلقاً إلى مساحيق التجميل وصيحات الملابس. أتمنى اليوم لو فقط يصحّ لي أن أعامل نفسي برقّة وحساسية أكثر وأخفف قليلاً من عقلانيتي المبالغ فيها؛ لكني أخشى أن الأوان قد فات على هذا الكلام، فعاداتي السيئة صارت تجري في دمي”.

عدم استحقاق الجسد

لدينا جميعاً ذرائع نرفعها لنهمل أنفسنا بدوافع نبيلة، فقولنا “ليس لدي وقت لأعتني بنفسي” أو “لدي أشياء أهم لأفعلها بدلاً من التمدد في نادٍ صحي” أو “ليس لدي المال الكافي لتدليل نفسي” ما هي في الغالب إلا أعذار نستعملها للتصدي لحقيقة إهمالنا هذا. يستنتج المعالج النفسي ومدير مدرسة باريس للغشطالتية (EPG) ومؤلف كتاب “العلاج الغشطالتي لاستعادة الحياة” (Vouloir sa vie, la gestalt-thérapie aujourd’hui)، غونزاغ ماسكولييه: “تبقى الذريعة الأكثر شيوعاً هي “لا وقت لدي لكل هذا”،  وهي بلا شكّ تحمل في ثناياها اعتقادات شديدة الرسوخ ينبغي النبش فيها قبل اجتثاثها لإبطال تأثيرها السلبي”.

ومن بين هذه الاعتقادات المُتجذِّرة: “لا يحق لي أن أمتّع نفسي” و”لا أستحق أن أبذّر كل هذه المصاريف لأجلي” و”ليس بيَد عادات العناية بالنفس هذه أن تجعل مني سعيداً”. وفي كل عذر من هذه الأعذار ينطوي تعنيف نوجهه لأنفسنا، أو حالة كئيبة أو رسائل لا واعية مُرِّرت من جيل إلى جيل.

تقيس فاتن البالغة من العمر 35 سنة مدى فداحة “انغلاقها الداخلي” باليوم الذي وافقت فيه أن تدلّكها صديقتها؛ إذ تقول: ”تمددت بملابسي الداخلية تحت إضاءة ناعمة، شرعت موريال في تدليكي بلطف، لم أتمالك نفسي أكثر من خمس دقائق قبل أن أنفجر في البكاء. كان الأمر أكبر من قدرتي على الاحتمال؛ قدر هائل من الرقة والتلامس الجسدي، وأنا لم أختبر شيئاً كهذا في حياتي من قبل أبداً! إذ إني عشت وأعيش وسط عائلة لا يتبادل أفرادها القبل سوى مرة واحدة في السنة. ولك أن تتخيل الجفاف العاطفي الذي كبر داخلي طوال هذه الفترة، وقد طفا دفعةً واحدة على السطح، انخرطت في بكاء دام نصف ساعة دون أن أقوى على إيقافه”.

الخوف من الجسد

لا يجد غونزاغ ماسكولييه ما يثير الاستغراب في ردة فعل فاتن هذه، فحين ننشأ في محيط عاطفي صارم لا يصير اللطف والاهتمام واللمس أفعالاً غريبة ومستهجنةً فحسب؛ بل تصبح بمثابة تهديد صريح لاتزاننا. ولذلك نتحاشى إعادة النظر في التربية التي تلقيناها لأن خطوة كهذه تعني المخاطرة بتهديم تمثال مقدّس؛ وبالتالي تقويض آليات الدفاع التي ساعدتنا على بناء شخصيتنا، ونحن إذ نوصد جميع الأبواب وننغلق على ذواتنا فلأجل أن نستمر في معاملة أنفسنا كما ألفنا أن نُعامَل طوال الوقت.

يضيف ميشيل فرويد في هذا الصدد: “قد يؤلم أو يستحيل الاهتمام بالذات إذا كان يجد فيه الشخص يجد خرقاً للقواعد. حين نمنح الضوء الأخضر لأنفسنا كي تتسلق الأسوار التي لطالما حذرنا الوالدان من الاقتراب منها؛ كإغداق متع الحياة علينا أو تخصيص وقت لنا والإنصات لما تريده منا أنفسنا، فالأمر ليس بالسهولة التي يبدو عليها إذ يحتاج المرء التغلب أولاً على شعوره بالذنب كي يستطيع الخروج من هذه الدائرة المغلقة”.

من الصعوبة بمكان أن يهدي المرء نفسه حصة علاجية في أحد المنتجعات الصحية أو كريماً أو مستحضرات تجميل ذات جودة رفيعة، فيما هو ابن والدين كانا يكسبان لقمة العيش بمشقة.

إذا كانت العناية بالنفس تغدو مهمة أسهل حين نكون قد تربينا على تقبلها ومحبتها، فإن بوسع تدريب أنفسنا على ذلك أن يُسهم كذلك في الأمر. يكمل ميشيل فرويد بقوله: “لا أعوّل على التغيّرات الكبيرة التي تقع بين ليلة وضحاها، ولذلك أشجع الجميع دائماً على أخذ خطوات صغيرة، فهي وحدها قادرة على مصالحتنا بهدوء ولطف مع أجسادنا وبالتالي مع أنفسنا”.

عاشت كارول البالغة من العمر 41 سنة ثورتها الصغيرة العام الماضي، وهي تحكي عنها قائلة: “لم أعد أتناول فطوري وسط الأسرة، صرت أغادر المنزل فور أن يستيقظ الجميع وأذهب للتمشية. كنت ألوم نفسي على ذلك في البداية لكني الآن أعتز بما أقوم به وأستمتع بكل خطوة أخطوها وحيدة وخفيفة كل صباح باكر”.

7 خطوات للبدء بالاهتمام بالنفس

عوض التفاخر بالمناقب التي لا ينكرها أحد للمنتجعات الصحية ومراكز التدليك ودروس اليوغا أو التأمل، نقترح عليك هذه الوصفة العلاجية الموجزة التي وضعها كلّ من المعالجين النفسيين ميشيل فرويد وغونزاغ ماسكولييه.

1. لا ترفع سقف توقعاتك كثيراً

في مُفكرة صغيرة، دوّن كل عباراتك وأفكارك التي تبدأ بـعبارات “يجب عليّ” و”لا يجدر بي” و”ينبغي” و”لا ينبغي”. ستدرك ربما أن أهدافك المتعلقة بالتغذية والقوام والجمال التي وضعت تأخذ طابعاً إلزامياً؛ ما يجعلها صعبة أو مستحيلة التحقيق، فأن تكون متطلباً بشكل مبالغ مع نفسك هو بدوره ضرب من ضروب إساءة معاملتها.

2. انتبه إلى تصرفاتك

وأنت تستحم، وأنت تربط بشرتك بكريم، وأنت تحتسي الشاي، وأنت ترتدي ثيابك، قُم بإبطاء إيقاعك وإيلاء أهمية لما يتولد عن هذه الأفعال من مشاعر. كلما تصرفنا بشكل آلي، كلما وضعنا أجسادنا جانباً وعرَّضْناها للإهمال.

3. اتبع إيقاعك الخاص

هل أنت شغوف برياضة المشي أكثر من اليوغا؟ باللياقة البدنية أكثر من التأمل؟ على ضوء إيقاعك الخاص وشخصيتك واحتياجاتك خذ خطوتك المقبلة. فثمة طريقة واحدة وحيدة للاعتناء بالنفس، وهي الإنصات إلى احتياجاتك الخاصة واحترامها.

4. ابحث عن مجموعة

وجودك ضمن مجموعة يعني تحفيزاً أكثر لأنك تكون محاطاً بالدعم الذي تحتاج. سواء تعلق الأمر بجلسات التدليك، أو المسابح، أو دروس المسرح أو الرقص، أنشئوا شبكة ”الرفاهة” الخاصة بكم وقدموا لبعضكم بعضاً المؤازرة والدعم.

5. نظّم جدول مواعيدك

اختر يومين في الأسبوع وقم بتخصيصهما لك وحدك؛ تقضيهما إما في ممارسة نشاطٍ ما أو مسترخيا لا تفعل أي شيء. هما ملكك أنت! مع الوقت ستتوصل إلى طرق تجعلك تُسخرّهما لما يُدر عليك المزيد من الراحة.

6. رَوِّض مُتعَك

احتسِ فنجان قهوة فاخرة، اقضِ ساعة في القراءة ملتحفاً بالبطانية، تناول الطعام وأنت تشاهد فيلم السهرة. فور أن تجرب هذه المُتع وتتلذذ بها، دوّن المشاعر والأحاسيس التي خلّفتها دون أن تُغفِل جانبها الأقل إسعاداً كالانزعاج والشعور بالذنب والتوتر. مع الوقت ستفهم دقائق شعورك بالاستمتاع وما يحول بينك وبين أن تستمع بحياتك إلى آخر قطرة.

7. شجع نفسك

مع كل عناية تمنحها لنفسك وكل اهتمام توليه لذاتك اعلم أنك تتقدم خطوة نحو حريتك الداخلية. ضع دائماً نصب عينيك أن حُسْنَ معاملة النفس هو أمر صعب بالنسبة لغالبية الناس.

المحتوى محمي !!