هل يمكن أن يكون خداع الذات وسيلةً للدفاع عنها؟

خداع الذات
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هو يعلم جيداً أن قدراته لا تمكّنه من الحصول على تلك الوظيفة؛ لكنه تقدم إليها، وحين تلقّى خطاب الرفض، نظر إلى نفسه في المرآة ليخبرها بأن هذه الوظيفة لا تليق به، وأن سعيه للتقدّم لها كان فقط من باب التجربة، إن هذا التصرف نوع من “خداع الذات”.

وهي حين أخبرها الطبيب بأن حالة والدتها متأخِّرة، وما من سُبل لإنقاذها؛ شكّكت في نزاهة الطبيب؛ بل وحذّرت المقرَّبين أيضاً من اللجوء إليه، على الرغم من إجابتهم لها بأن حالة والدتها متأخرة بالفعل.

في كلتا الحالتين؛ لم ينظر الفردان للأمر كما هو حقاً؛ بل تمسّكا برؤيتهما، ورفضا أي شيء آخر قد يمثِّل تهديداً لتلك الرؤية.

بعبارة أخرى؛ سعى كلاهما لإنكار الحقيقة، ولم يحاولا أخذ آراء الآخرين في الحسبان. ليس لأن الآخرين غير أكفّاء أو كاذبين؛ بل لأن بداخلهما كان هناك شعور طاغي بخداع النفس ورفض الحقيقة القاسية.

لماذا نخدع أنفسنا؟

من الناحية النفسية؛ يحاول الأفراد خداع أنفسهم أو إنكار الحقائق، دفاعاً عن النفس، أو تلبيةً لبعض الاحتياجات النفسية، وأحياناً بهدف تحقيق مكاسب اجتماعية.

بحسب دراسة أجراها باحثان من جامعتيّ كوينزلاند بأستراليا، وروتجرز بأميركا، فالخداع الذاتي يمكن أن يخفف العبء المعرفي لقبول معلومات مختلفة، أو مغايرة للمعتقدات الراسخة لدى الفرد. بالإضافة إلى دوره في تمكين الأفراد من إظهار المزيد من الثقة أكثر مما هو حقيقي؛ ما يمنحهم مزايا اجتماعية.

كما أظهر بحث آخر من جامعة هونان بالصين أن خداع الذات يقلل مقدار المعلومات التي يمكن أن تحتفظ بها الذاكرة العاملة في وقت واحد؛ حيث يستخدم الأفراد الذين يخدعون أنفسهم قدرة الذاكرة على التكيُّف الذاتي من خلال إضعاف الذاكرة الواعية لتقليل ذلك العبء. وكلما زادت تلك المعلومات الخارجية؛ نتج عنها المزيد من خداع الذات.

اقرأ أيضاً: 5 مفاتيح للتوقف عن تدمير الذات

الحفاظ على الإحساس الداخلي بالتماسك

تقول المعالجة النفسية تيري كولي إن خداع الذات أعمق من مجرد محاولة واعية لتجنُّب المعلومات غير المريحة؛ وإنما هي آلية دفاع نفسي تحمي من المشاعر المؤلمة أو التي يصعب تقبُّلها. وتضيف أن ذلك الإنكار للحقائق يزداد سوءاً مع مرور الوقت.

يشير المعالج النفسي لينغ لام إلى سبب آخر وراء عادة خداع الذات، موضحاً أنها قد تتطوّر في كثير من الأحيان نتيجة المعلومات والبيانات الهائلة التي نتعرّض لها من جميع الجوانب؛ والتي تجعل من الصعب على عقولنا تمييز ما هو حقيقي وما هو غير ذلك.

وفي تلك الحالة؛ يكون من الأسهل على الأفراد الانخراط في خداع الذات، لأن عقولنا تحجب الأشياء التي لا تتناسب بالفعل مع إحساسنا الحالي بالتماسك وشعورنا بالرضا عن أنفسنا وتجاربنا والعالم.

خداع النفس لإبقاء الحماس خلال المواقف الصعبة

لتحليل الدور الذي يؤديه خداع الذات في الحياة اليومية؛ درس فريق بحثي من جامعتيّ الرور في بوخوم بألمانيا وأنتويرب البلجيكية، الاستراتيجيات المعرفية والسلوكية التي يستخدمها الناس لخداع أنفسهم.

وتوصل الباحثان؛ الدكتور فرانشيسكو ماركي والأستاذ ألبرت نيوين، إلى أن خداع الذات يساعد الأفراد على البقاء متحمسين في المواقف الصعبة.

يقول نيوين: “كل الناس يخدعون أنفسهم. على سبيل المثال؛ إذا كان الأب مقتنعاً بأن ابنه طالب جيد، ثم حصل الابن على درجات سيئة، فقد يقول أولاً أن الموضوع ليس بهذه الأهمية، أو أن المعلِّم لم يشرح المادة جيداً.

يطلق الباحثان على استراتيجية خداع الذات تلك “إعادة تنظيم المعتقدات”. وهما يوردان في مقالهما ثلاث استراتيجيات مُستخدَمَة بصورة متكررة في ذلك، ويدخلن حيّز التنفيذ حتى قبل وقوع الحدث، لمنع الحقائق غير السارة من الوصول إليك في المقام الأول.

ثلاث استراتيجيات لخداع الذات

بحسب الدراسة ذاتها والمنشورة في 6 يناير/كانون الثاني 2022 في مجلة علم النفس الفلسفي؛ إن خداع الذات ليس أمراً بسيطاً أو يحدث من قبيل المصادفة؛ بل إنه يتطلّب عملاً ذهنياً ينتقي من خلاله الفرد الأفكار والمعتقدات التي يجب دعمها، وفي المقابل؛ ما يستحق استبعاده.

تتمثَّل تلك الاستراتيجيات في اختيار أو رفض أو توليد الأدلّة كما يلي:

  1. اختيار بعض الحقائق التي تتسق مع معتقدات الفرد، وتجنُّب الناس أو الأماكن أو الأشخاص الذين قد يكونوا مصدراً لحقائق إشكالية وأدلّة غير داعمة.

على سبيل المثال؛ تؤمن طالبة في المدرسة الثانوية بأنها جيدة جداً في الرياضيات بسبب التوقعات العالية لوالديها. إذا حصلت هذه الفتاة على درجة سيئة للغاية في اختبار الرياضيات، فاعتقادها الراسخ بقدراتها سيدفعها إلى البحث عن مصادر تدعم اعتقادها.

لذلك؛ قد تركِّز على مسألة واحدة بسيطة حصلت فيه على درجات مرتفعة وتقيّمه على أنه الأكثر أهمية، وتتجاهل باقي المسائل التي أخطأت فيها. وكذلك، قد تتجنب التحدث إلى المعلم حول اختبار الرياضيات، وبدلاً من ذلك؛ تبحث عن تأكيد قدراتها من والديها الداعمَين لها.

  1. رفض بعض الحقائق غير الملائمة من خلال التشكيك في مصداقية المصدر واعتباره غير ذي صلة.

في تلك الحالة؛ لا يحاول الفرد، أو ربما لا يستطيع، تجنُّب الأدلة غير المناسبة؛ ولكنه لا يزال يعتبرها غير كافية لتحديث معتقداته حول ذلك الأمر.

على سبيل المثال؛ قد تسمع تلك الطالبة محادثة يناقش فيها زملاؤها أداءها الضعيف في الاختبارات. وبدلاً من أخذ كلامهم بعين الاعتبار، فإنها تتجاهله من خلال اعتبار أن زملائها الطلاب ليسوا في وضع يسمح لهم بتقييم كفاءتها في الرياضيات.

  1. توليد أو استنباط الحقائق من معطيات غامضة وغير متعلِّقة بالأمر على أنها أدلّة داعمة للاعتقاد المُراد ترسيخه.

على سبيل المثال؛ إذا اقترح مدرس الرياضيات بشكل ودود أن الابنة غير متأقلمة، وكان الأب يتوقّع تصريحاً واضحاً بشأن الصعوبات التي تواجهها ابنته؛ قد يفسِّر الأب ذلك الوصف اللطيف من المعلِّم على أنه تقييم إيجابي لقدرات ابنته.

اقرأ أيضاً: هل يجب أن نعذر المصابين بهوس الكذب المرضي؟

عواقب خداع النفس

تشير الدراسة ذاتها إلى أن خداع الذات قد لا يضر الأفراد على المدى القصير؛ لكن على المدى المتوسط ​​والطويل قد يكون مضرّاً حقاً.

يقول نيوين: “هذه ليست طرقاً خبيثة لفعل الأشياء؛ ولكنها جزء من المعدّات المعرفية الأساسية للإنسان للحفاظ على نظرته الراسخة لنفسه والعالم”.

ففي الأوقات العادية، حينما تحدث تغييرات قليلة، يكون الميل إلى التمسك بآراء راسخة مفيداً. ولكن يصبح هذا الاتجاه المعرفي كارثياً في ​​أوقات التحديّات الجديدة كليّاً؛ والتي تتطلب تغييرات سريعة في السلوك.

خداع النفس ليس حلاً للمشكلات

يقضي بعض الأشخاص حياتهم بأكملها في خداع الذات أو الإنكار؛ لكن المواقف أو الظروف التي ننكرها ستزداد سوءاً مع مرور الوقت.

في حين أن الكذب على أنفسنا يمكن أن يكون إجراءً ناجحاً للحفاظ على الذات أحياناً، فإن الانغماس في ذلك الوهم يمكن أن يؤثر سلباً على واقعنا المُعاش وعلاقاتنا بالآخرين.

لذلك؛ يجب السعي لمعرفة الأسباب الكامنة وراء ذلك الخداع، ومواجهة حقيقة أنه قد يبقيك في عادات سامة. خاصة أن المواقف الصعبة والسخيفة تلك يمكن أن تكون بمثابة حافز لفحص جذور المشكلة؛ ولكن في البداية يجب قبول الدلائل وتحديث المعتقدات المرتبطة بها عوضاً عن إنكارها.

المحتوى محمي !!