تنهال علينا يومياً أخبار الحوادث حول العالم من خلال الوسائل الإخبارية المرئية أو المسموعة أو المقروءة؛ التي تحوي أرقاماً مهولة للحوادث وأعداد الضحايا.
فعلى سبيل المثال؛ تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية (WHO) للوفيات الناتجة عن حوادث المرور السنوية لما يقرب من 1.3 مليون شخص حول العالم. كما بلغت جرائم القتل نحو 464.000 شخصاً حول العالم في عام 2017 وفقاً للدراسة العالمية لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة الصادرة عام 2019.
لكن على الرغم من فداحة تلك الأرقام والإحصائيات التي تنم عن حجم الألم والخسارة الشديدين، فإنها لا تولِّد بداخلنا نفس التأثير الذي قد ينتج عن سماع قصة فرد واحد تعرّض لأذى، فنتعاطف معه بشكل أكبر ونسعى لمحاولة حمايته أكثر من مجرد معرفة ارتفاع نسب الضحايا حول العالم. فلماذا يحدث ذلك؟
لماذا يفوق تأثير القصص الأرقام والإحصائيات؟
تشير دراسة حديثة من "جامعة بنسلفانيا" (University of Pennsylvania) الأميركية إلى أن سماع القصص الشخصية بدلاً عن الحقائق المذكورة بالأرقام، يحفِّز الناس على تغيير سلوكياتهم لمساعدة وحماية الفئات الأكثر ضعفاً.
عمل الفريق البحثي في تلك الدراسة على اكتشاف نوع الرسائل التي تدفعنا بشكل أفضل للانخراط في قصص الآخرين، وزيادة التفاعل معها ومحاولة مساعدتهم.
انطلق البحث من التجارب التي مر بها الكثيرون خلال جائحة "كوفيد-19"، وما تبعها من سلوكيات مثل التباعد الاجتماعي الذي كان أمراً أساسياً في تقليل معدل العدوى بين الأفراد. لكن ذلك التباعد الاجتماعي اللازم لحمايتنا لم يكن يسيراً على كل الفئات، خاصةً الفئات المعرَّضة للخطر؛ مثل العاملين بالقطاع الصحي.
وجد الباحثون في الدراسة الحديثة أن استخدام الروايات الشخصية بدلاً عن الرسائل المبنية كلياً على الأرقام والإحصائيات، زاد من معتقدات الناس حول أهمية حماية هؤلاء الأشخاص المعرّضين للخطر، فضلاً عن نواياهم في الانخراط في إجراءات مفيدة لمساعدتهم.
تسليط الضوء على الفئات المعرضة للخطر
ركزت الدراسة على مجموعتين: العاملين في مجال الرعاية الصحية والأفراد المسجونين. وعلى الرغم من عدم حصول أي من المجموعتين على المساعدة التي تحتاجها حقاً خلال تلك الأيام الأولى من تفشي "كوفيد-19"، فقد تم الإعلان عن العاملين في مجال الرعاية الصحية كأبطال في الخطوط الأمامية للجائحة؛ لكن سلامتهم كانت بخطر نتيجة نقص المعدّات وغيرها من التحديات.
واجه الأفراد الذين تم سجنهم أيضاً ظروفاً قاسية؛ حيث انتشر الفيروس بسرعة في السجون وغيرها من المرافق التي كان التباعد الجسدي فيها صعباً أو مستحيلاً في بعض الأحيان، وغالباً ما كانت شروط النظافة الأساسية غير متوفرة.
على الجانب الآخر، فقد كان تركيز الباحثين عموماً منصباً بشكل أكبر على الأشخاص المعرضين لخطر بيولوجي؛ مثل كبار السن أو الذين يعانون من أمراض مزمنة، أكثر من الاهتمام بالفئات المعرضة للخطر.
لذلك؛ أراد الباحثون في هذه الدراسة تسليط الضوء على أن بعض المجموعات أكثر عُرضة للخطر بسبب المكان الذي تعيش أو تعمل فيه أو بسبب ظروف أخرى لا علاقة لها بالبيولوجيا، وأنها ما زالت تعاني من إهمال طبي، وبحاجة للاهتمام والحصول على الدعم.
اقرأ أيضاً: هل يمكن وضع أنفسنا بالفعل مكان الآخرين؟
الرسائل السردية مقابل الحقائق والأرقام
لاختبار فعالية الرسائل المختلفة؛ طلب الفريق البحثي من المشاركين قراءة رسائل سردية من منظور الشخص الأول الذي قام بإخبارها؛ أي من منظور موظف الرعاية الصحية أو السجين، ووصف الظروف التي كان فيها، وكيف تأثَّر، وكيف كان معرضاً لخطر أكبر للإصابة بالفيروس.
تم اقتباس تلك الرسائل من حسابات حقيقية من منشورات وسائل التواصل الاجتماعي أو المقالات الإخبارية، وكُتبت بطريقة تشبه القصة الحقيقية مع شخصية رئيسية واضحة.
بينما تضمنت الرسائل الأخرى غير السردية نفس المعلومات الأساسية؛ ولكن تم إخبارها بطريقة أكثر استناداً إلى الحقائق، دون طابع ذاتي.
وبعد كل رسالة، صنَف المشاركون مدى شعورهم بالاندماج مع القصة، ثم أجابوا عن الأسئلة المتعلقة بمعتقداتهم حول تلك الفئات المعرَّضة للخطر، ونواياهم للانخراط في السلوكيات الاجتماعية الإيجابية لمساعدتهم.
الرواية الشخصية تولِّد مزيداً من التعاطف
تشير نتائج الدراسة إلى أن المشاركين شعروا بتعاطف أكبر تجاه أبطال القصص عندما تمت روايتها من منظور ذاتي؛ حيث شعروا باتصال أقوى من الذي تولَّد من خلال الرسائل القائمة على الحقائق المجرّدة.
علاوة على ذلك، فإن أولئك الذين شعروا بأنهم أكثر اندماجاً مع القصة كانوا أكثر عرضة للاعتقاد بأن المجموعة التي قرؤوا عنها كانت أكثر عرضة للإصابة بـ "كوفيد-19"، والاعتقاد بأن سلوكياتهم؛ مثل البقاء في المنزل عند الشعور بالمرض والتباعد الجسدي، يمكن أن تدعم حماية هذه المجموعات.
كذلك، فقد كان المشاركون أكثر ميلاً للاستعداد للتبرُّع للجمعيات الخيرية التي يمكن أن تساعد المجموعة التي قرؤوا عنها.
تقول كبيرة مؤلفي الدراسة ومديرة مختبر أبحاث علم الأعصاب وأستاذة علم النفس والتسويق والعمليات والمعلومات والقرارات في جامعة بنسلفانيا؛ "إميلي فالك" إن ذلك العمل مهم، لأنه يُظهر بشكل سببي أهمية إبراز القصة الشخصية في النص مقابل مجرد تأطيرها كحقائق، يساعد ذلك الناس على الاندماج بشكل أكبر مع المعلومات.
وتضيف أن هذه النتائج لها آثار كبيرة في العالم الحقيقي عندما يتعلق الأمر بالتخطيط لتدخلات الصحة العامة، لأنها توضح كيف يمكن للرسائل أن تغير منظور الفرد، وكيف تُعزّز التغييرات السلوكية الإيجابية.
اقرأ أيضاً: من هم الأشخاص مفرطو التعاطف؟
وأخيراً، فاستخدام السرد لعرض قصص الآخرين لا يؤدي دوراً مقتصراً على نقل حقائق أو أحداث؛ بل إنه قد يكون وسيلة لمساعدة الناس بفهم قصصهم عن قرب والاندماج معها و"التعاطف مع الآخرين"، وذلك يعود للطابع الإنساني القيِّم الذي تولّده هذه القصص.