هل يمكننا وضع أنفسنا مكان الآخرين بالفعل؟

التعاطف
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

“لو كنت مكانك لفعلت كذا”، هل تُعتبر محاولة وضع أنفسنا مكانَ أحبائنا سلوكاً صحيحاً عندما نرغب في تقديم العون لهم؟ هل نعرف بالفعل كيف نمارس فن الاستماع إلى الآخرين؟ نوضح لكم فيما يلي 4 سلوكيات نسلكها عندما نحاول التعاطف مع الآخرين، ونحدد ما يُعتبر صحيحاً وما يجب أن نتجنبه منها.

إسقاط غير واعٍ للنفس على تجارب الآخرين

تقول كوثر عن طفلها ذي الـ 6 سنوات: “منذ انفصالي عن والده؛ أصبح يتحدث إليّ بطريقة سيئة ولا يستمع لما أقوله أبداً، كما أنه قد أهمل دروسه تماماً”. ومن باب النصيحة؛ قالت لها صديقتها سلمى وهي أم وزوجة أيضاً: “لوكنت مكانكِ؛ لطلبت من أبيه أن يهتم به أكثر. كلاكما والداه فلمَ يجب عليكِ أن تهتمي بكل شيء وحدكِ؟”.

السؤال هنا: أليس وضع أنفسنا في مكانهم هي أفضل مساعدة يمكن لنا أن نقدمها لأصدقائنا وللآخرين عموماً؟ أليست هذه الطريقة المثلى لنكون مفيدين لهم بالفعل؟

يوضح جاك ليكومت؛ مختص علم النفس ومؤلف كتاب “اللطف البشري” (La bonté humaine): “قد نظن أننا نساعد الآخر بمحاولة وضع أنفسنا في مكانه، لكن هذا السلوك يهدف في الحقيقة إلى التخلص من ضغط المسؤولية التي نشعر بها بسبب الثقة التي يمنحنا إياها من يطلب المساعدة”.

“لذا؛ نلجأ إلى هذه الصيغة الجاهزة لمجرد الخروج من حالة الصمت المحرجة خلال مواقف كهذه، وهو سلوك لا يعبر عن قلقنا على الآخر؛ بل عن أنانيتنا وانقيادنا وراء عواطفنا”.

وتوضح مختصة التحليل النفسي فاليري بلانكو؛ مؤلفة كتاب “اعترافات على الأريكة” (Dits de divan): “إن محاولة فرض أنفسنا في مكان الآخر تعني أيضاً إنكار طبيعته الفريدة، والاختلاف الدقيق الذي يميز تجاربه ورغباته، واحتياجاته”.

لذلك عندما نقترح “أن نضع أنفسنا في مكانه”؛ يعني ذلك أننا نحاول معالجة الأمر انطلاقاً من رؤيتنا الخاصة، وتاريخنا الشخصي.

وخلال مسعانا “حسَن النية” هذا، فإننا قد نخاطر دون وعي منا بمحاولة تسوية حساباتنا الشخصية؛ وذلك من خلال الحلول التي نقترحها لمشكلة الشخص الذي نرغب في مساعدته.

ويتضح ذلك من هذا الموقف الذي تمر به كوثر، فعندما عبّرت عن الصعوبات التي تواجهها كأم؛ نصحتها صديقتها المقربة باللجوء إلى والد طفلها، وهي نصيحة قد تعكس علاقة هذه الصديقة نفسها بزوجها.

وبناء عليه ومع عدم قدرتها على الاعتراف بصورة واعية بالغضب الذي تشعر به تجاه زوجها والتعبير عنه، فإنها تحاول التخلص من هذه المشاعر التي تزعجها من خلال تجربة صديقتها كوثر؛ وهو مبدأ يسميه علم التحليل النفسي بالإسقاط.

محاولة السيطرة على الشخص الذي نود مساعدته

“نعم ربما تكونين على حق؛ سأفكر في كلامك” هكذا أجابت كوثر صديقتها؛ لكن الأخيرة عادت لتقول لها: “بالطبع أنا على حق! فأنا أعرفك، وأعرف جيداً ما يناسبك. لو كنتُ مكانكِ، فلن أتردد لحظةً في القيام بذلك!”.

تقول مختصة العلاج النفسي؛ بياتريس ميليتر: “إذا نظرنا إلى الأمر من الخارج، فقد نشعر أنه من المحبط في بعض الأحيان رؤية الشخص المعني يرفض القيام بما نظن أنه سيكون حلاً لمشكلته؛ ولكننا ننسى من جهة أخرى أنه قد لا يكون مستعداً لاتخاذ الخطوة التي نقترحها عليه للخروج من الموقف الذي يمر به؛ إذ تستغرق الفكرة فترةً لتنضج في ذهنه، وهي تختلف من شخص لآخر. وتتابع: “يقتنع البعض بأنهم أكثر دراية من الشخص صاحب المشكلة بحاجاته؛ وفي ذلك تقليل حقيقي من قيمة تواصله مع نفسه”.

في الحقيقة؛ يدل هذا السلوك على رغبة غير واعية في السيطرة عليه. إن عبارة “وضع المرء نفسه في مكان الآخر”، تنطوي على “طرده” من مكانه واغتصاب هذا المكان، ثم الاستقرار فيه بدلاً عنه.

تُمثل عبارة “لو كنتُ مكانك” طريقةً للقول له: “استمع إليّ وأنا أتحدث نيابةً عنك”؛ وبالتالي: “استمع إلي”، فيُنسى الآخر وتُنسى معاناته، ويُصرف انتباهه تماماً عن نفسه.

من ناحية أخرى؛ يمكن للصديق الذي عرفنا لفترة طويلة أن يساعدنا كثيراً من خلال وضع الموقف الحالي الذي نمر به في منظور تاريخنا الشخصي؛ أي تذكيرنا بالمواقف المماثلة في ذاكرتنا التي يمكننا من خلالها العثور على أنفسنا؛ لكن دون أن يطلق أي أحكام علينا بسبب ذلك.

مشاركة التجارب الشخصية مع الآخرين

عثرت كوثر خلال بحثها على شبكة الإنترنت على أحد المنتديات المعنية بقضايا الأمهات، وتحدثت هناك عن ما تمر به واختتمت سائلة: “هل سبق لأي منكم أن مرّ بهذا الموقف؟ ماذا عليّ أن أفعل؟” في الحقيقة كانت الإجابات التي حصلت عليها تنسجم مع ما تحدثنا عنه سابقاً؛ إذ كانت من قبيل: “أعي هذه الحالة” أو: “لقد مررت بذلك من قبل”.

يوضح جاك ليكومت: “إن عيش تجربة مماثلة للتي يمرّ بها شخص ما يزيد من القدرة على تجسيد أفكاره ومشاعره، وإظهار التعاطف تجاهه. يتمثل ذلك في الدعم القوي الذي تقدمه جمعيات الضحايا، فسماع المرء لعبارة: “أضع نفسي مكانك” هو أمر مقبول تماماً هنا، وقد يكون مرغوباً في كثير من الأحيان، فالتعبير هنا شبه واقعي، ويعطي المرء شعوراً بأنه ليس وحيداً مع معاناته، ويقدم له الدعم دون الحكم عليه”.

وعلى الرغم من ذلك، فإنه من الضروري الحذر من الوقوع في فخ “تأثير المرآة”؛ وهو التحدث كثيراً عن التجربة التي مررنا بها إلى درجة لا تسمح لنا بالاستماع إلى تجارب الآخرين. وهنالك نقطة أخرى أيضاً؛ وهي رغبتنا أحياناً في جعل الحالة التي مررنا بها معياراً ينطبق على الجميع؛ إذ نعتقد أنه يمكن لشخص يمر بالصعوبات ذاتها التي سبق أن مررنا بها، أن يتخطاها بطريقة مماثلة لتلك التي اتبعناها للتغلب عليها؛ لكن حقيقة الأمر هي أن تشابه التجارب المؤلمة بين الأشخاص، لايعني تماثل طرق التعافي منها، وكما قلنا سابقاً؛ يشير التفكير بهذه الطريقة إلى إنكار تميز كل فرد وتفرّده عن الآخر.

علاقة تتسم بالتعاطف الحقيقي

يجد ابنك نفسه مشتتاً بين منزلين؛ بين والدين يشعران بشكل أو بآخر بالحزن. تنصح صديقة أخرى كوثر قائلةً لها: “تخيلي نفسك مكانه”. تشعر كوثر أن الأمور تتضح أكثر؛ إذ لم يخطر في بالها من قبل أن تحاول رؤية الأمر من منظور ابنها.

توضح بياتريس ميليتر: “هنالك اختلاف كبير بين محاولة تخيل أنفسنا مكان الشخص، ومحاولة وضع أنفسنا مكانه”.

ففي الحالة الثانية نحن ننكر الآخر عندما نحاول فرض أنفسنا في مكانه، أما في الحالة الأولى، فنحن نحاول على العكس من ذلك أن نؤدي دورنا ليس عبر تغيير مكاننا؛ إنما من خلال رؤية الأمور من منظور الآخر.

ونذكر هنا أن تقنيات التنمية الشخصية؛ مثل البرمجة اللغوية العصبية، تقترح بالفعل أن يجلس الشخص على كرسي محاوره؛ وبالتالي أخذ مكانه حرفياً، لكي يصبح أكثر وعياً بأهمية التواصل وتأثيره فيه.

هذا هو أساس الاحترام؛ هذا الواجب الأخلاقي الذي أكدته الدينات السماوية: “لا تفعل بالآخرين ما لا تريد منهم أن يفعلوه بك”، أو القاعدة الكانطية القائلة: “تصرف فقط وفقاً للمبدأ الذي يمكنك تعميمه في الوقت نفسه بحيث يصبح قانوناً عالمياً”.

يرى عالم النفس كارل روجرز؛ واضع نظرية “الاستماع الفعّال“، الذي يسمى أيضاً “الاستماع التعاطفي”، في كتابه “تنمية الذات” (Le Développement de la personne)، أن مبدأ التعاطف ينطوي على الشعور بالعالم الخاص بالمريض كما لو كان عالمَك أنت، مع التأكيد على أهمية الانتباه إلى مفهوم “كما لو كان”.

وعلى الرغم من أننا نعلم أن الصديق ليس معالجاً نفسياً بالطبع، فإن تعريف التعاطف هذا قابل للتطبيق على أي علاقة تنطوي على محاولة شخص ما تقديم المساعدة لآخر – الأمر الذي يفترض وجود حالة من التعاطف.

ويوضح جاك ليكومت: “يتمثل التعاطف الحقيقي في محاولتنا فهم الآخر من الداخل؛ لكن مع إدراك استحالة هذا الأمر في الوقت نفسه؛ وبالتالي البقاء متيقظين كيلا نتجاوز الحدود الصحيحة. وبعيداً عن الموقف المتحمس لمن يعتقد أنه قادر على وضع نفسه في مكان شخص ما، فإن الموقف الذي يتضمن تعاطفاً حقيقياً يتسم بالاعتدال، لأنه يعترف بحدود الآخر.

ويشدد كارل روجرز على أن تبني مفهوم “كما لو كنتُ في مكانه”، يمكننا من تجنب أي خلط بين ذاتنا والآخر. توضح بياتريس ميليتر: “يمكننا أن نفهم موقف من نحاول تقديم العون له فهماً أفضل؛ عندما ندرك ما يخصنا وما يخصه”.

لا يمكن لي أن كون مكانك، أو أن تكون مكاني؛ عندما أحاول أن أتخيل نفسي مكانك، يجب أن آخذ في الاعتبار كل ما تمر به. توضح مختصة التحليل النفسي فاليري بلانكو: “وبناء على عدم قدرتنا على وضع أنفسنا في مكان الآخر؛ ينبغي علينا أن نسعى لفهم رؤيته الخاصة للأمور وتفرده؛ من خلال تجاهل رؤيتنا نحن”. هذا هو الموقف الذي يتسم بالتعاطف؛ موقف لا يتمثل في الرغبة في أن تظهر كمتكلم بارع، أو تُظهِر قدرتك على تقديم المشورة؛ إنما في إبداء قدرة حقيقة على الاستماع.

يوضح جاك ليكومت: “قد تشعر في البداية أنك عديم الفائدة؛ لكن الاستماع إلى الآخر بإخلاص هو في الحقيقة أثمن ما يمكن أن تقدمه له، لأنك عندما تستمع إليه بتيقظ خلال حوارك معه، فقد تساعده على إيجاد أفضل حل ممكن لمشكلته”.

ما هو مفهوم الاستماع الفعّال؟

أنشأ عالم النفس كارل روجرز أسلوب الاستماع الفعّال لتطوير علاقة أكثر إنسانية بين المعالج والمريض، وقد تم تناول هذا الأسلوب من خلال عدد من تقنيات التواصل والتنمية الشخصية لتطبيقها على جميع أنواع العلاقات.

يُطلق عليه أيضاً “الاستماع الخيّر”، وهو يقوم على المبادئ التالية:

  1. معرفة متى تلتزم الصمت خلال استماعك إلى الآخر.
  2. دع الآخر يتحدث حتى النهاية دون مقاطعة.
  3. ركز فيما يقوله وانتبه إليه، دون أن تشتت انتباهك بعناصر خارجية.
  4. عبر عن اهتمامك بحديثه بإشارات مرئية ولفظية؛ أشر له بأنك تستمع لما يقول؛ وقل له نعم أنا أفهمك.. إلخ.
  5. أعد صياغة كلماته الأخيرة أو تلك التي وجهها إليك مباشرةً، للتأكد من أنك فهمتها فهماً صحيحاً.
  6. اطرح أسئلةً محايدةً حول ما قيل.
  7. لخص ما قيل.
  8. لا تطلق أي أحكام، أو تضع أي تفسيرات لما يقوله.
  9. أظهر التعاطف تجاهه.

حُسن الانتباه

التعاطف السلوكي، أو “تأثير الحرباء”، هو رد الفعل الذي يؤدي إلى تقليد تصرفات الآخر بطريقة تلقائية؛ وتعد حالة “عدوى التثاؤب” مثالاً نموذجياً على ذلك.

كشفت الدراسات عن مدى قوة هذا النوع من التعاطف؛ ما يثبت أنه كلما نجحنا في الانسجام مع الآخر بصورة أفضل، أظهرنا المزيد من التعاطف السلوكي تجاهه، وزاد شعوره بتفهمنا له.

التعاطف المعرفي هو القدرة على تصور أفكار الآخر، أما التعاطف العاطفي، فهو القدرة على تجسيد مشاعره.

يُعبر التعاطف المعرفي عن الاستناد إلى المعرفة المكثفة بالآخر فقط، واستغلال ذلك في بعض الأحيان إلى حد التلاعب به، وهو سلوك نراه لدى الشخص المنحرف النرجسي.

على العكس من ذلك؛ إذا كنا نبدي تجاه الآخر تعاطفاً عاطفياً فقط، فإن الفخ يكمن في أن نخوض في عواطفه، دون أن نتمكن من اتخاذ مسافة صحيحة منها؛ وبالتالي إن “التعاطف الصحيح” يتمثل في ربط النوعين معاً.

ينطوي السلوك الإيثاري على النظر إلى الآخرين بطريقة إيجابية، وهو يتضمن الجمع بين ثلاثة جوانب أساسية؛ الإحسان (الجانب المعرفي)، والتعاطف العاطفي (الجانب العاطفي)، والإيثار (الجانب السلوكي).

المحتوى محمي !!