ملخص: يسعى هذا المقال إلى كشف آثار الإفراط في العمل، أو ما يمكن أن نسميه "الوباء الصامت" الذي ينخر عظامنا في ظل ثقافة العمل المرن والسعي الذي لا هوادة فيه لتحقيق إنتاجية أكبر. تعرف أكثر إلى التداعيات النفسية والبدنية للعمل المفرط، واستراتيجيات الحفاظ على التوازن بين العمل والحياة الشخصية.
محتويات المقال
برزت ثقافة الالتزام الزائد بالعمل في عالمنا الذي يتسم بالسرعة والتنافسية بسبب الرغبة في زيادة الإنتاجية وتحقيق مردودية أكبر؛ لكن الإفراط في العمل قد يؤدي إلى نتائج عكسية تماماً. فعندما نواجه صعوباتٍ حقيقية في وضع الحدود، ولا نستطيع أن نقول: "لقد فعلت ما يكفي اليوم، سأُكمل غداً"، فإننا نخاطر بصحتنا النفسية والبدنية على حد سواء.
في عام 2013، توفيت مراسلة إخبارية يابانية تبلغ من العمر 31 سنة، تُدعى ميوا سادو (Miwa Sado) فجأة، بعد أن عملت دون توقفٍ مدة 159 ساعة لتغطية أخبار الانتخابات؛ حيث عُثر عليها ميتةً وهي ما تزال ممسكةً بهاتفها المحمول. وصنف تحقيقٌ أجراه مسؤولون حكوميون تلك المأساة على أنها حالة "كاروشي" (Karoshi)؛ أي الموت بسبب الإفراط في العمل، وكانت سادو واحدة من بين 133 وفاة بسبب كاروشي في اليابان، فقط في ذلك العام.
ماذا يعني الإفراط في العمل؟ وكيف يمكن أن يؤذيك؟
من الطبيعي أن يضطر الموظف للالتزام بالعمل الإضافي من وقت إلى آخر؛ لكنه إن أصبح عادةً فيُشار إليه بـ "الإفراط في العمل" (Overwork)؛ أي عندما يلتزم الموظف بساعاتٍ طويلة من العمل. وبين الأسباب وراء ذلك: السعي إلى تحقيق التميز في مكان العمل، سواء كان ذلك ترقيةً أو سمعةً أفضل أو بسبب نقص الموظفين أو أي سببٍ آخر. ويتأثر حجم العمل الذي تؤديه كذلك ببيئة العمل عموماً، والرضا الوظيفي، والشعور بالتقدير.
يضر العمل المفرط بالصحة البدنية والنفسية، فقد يؤدي إلى مشكلاتٍ مثل القلق والاكتئاب، وآلام الرقبة أو الظهر، والسكتة الدماغية، وأمراض القلب، والسكري. ولقد وجدت دراسةٌ أشرف عليها باحثون من جامعة هونغ كونغ (University of Hong Kong)، إن العمل الذي يزيد على 61 ساعة في الأسبوع يسبب الإصابة بارتفاع ضغط الدم الانقباضي (High Systolic Hypertension).
وبحسب منظمة الصحة العالمية (World Health Organization)؛ يكلف الاكتئاب والقلق الناجمان عن الإفراط في العمل الاقتصاد العالمي ما يُقدر بتريليون دولار سنوياً نتيجة انخفاض الإنتاجية. ذلك يعني ببساطة أن العمل المفرط يسبب المرض نتيجة العمل أكثر من اللازم.
اقرأ أيضاً: ما الذي يدفع البعض إلى إدمان العمل؟
ما أعراض الإفراط في العمل وعلاماته؟
يوضح المختص المغربي في الطب النفسي وعلاج الإدمان، سعد وكيلي، إن الإرهاق المهني الناتج من الإفراط في العمل يتسبب في تعب جسدي ونفسي كبيرَين بسبب الاستثمار العاطفي والنفسي في العمل. ومن أهم علاماته التالي:
- التعب النفسي.
- القلق والتوتر.
- اضطرابات النوم أو الجهاز الهضمي.
- فقدان الحافز وعدم الاهتمام بالعمل كما في السابق.
- فقدان التركيز وضعف الذاكرة.
- انخفاض الإنتاجية.
هذا بالإضافة إلى أعراض سلوكية قد تتضمن سوء معاملة الشريك الزوجي، والميل إلى الانعزالية، والتشكيك في القدرات المهنية أحياناً.
تعرَّف إلى أبرز التأثيرات الجانبية للإفراط في العمل
أفاد تقريرٍ مشترك بين منظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية (International Labour Organization) نُشر عام 2016، بأن قُرابة 745,194 شخصاً توفوا بسبب السكتة الدماغية أو أمراض القلب ما بين عامَيّ 2000 و2016 في 194 بلداً بسبب الإفراط في العمل. فعندما تعمل فوق طاقتك، ترتفع مستويات هرمون الإجهاد (الكورتيزول)؛ ما يؤدي إلى مشكلاتٍ مثل ضبابية الدماغ وارتفاع ضغط الدم ومجموعة أخرى من المشكلات الصحية. فحين تستنفذ مخزونك البدني والمعرفي، توقع بعض الآثار الجانبية الشائعة مثل أنك:
- لا تحصل على قسط كافٍ من النوم: نظراً إلى أهمية النوم في تحسين الصحة البدنية والنفسية؛ فإن عدم أخذ كفايتك منه يمكن أن يؤثر في كيفية تعاملك مع التوتر، أو حل المشكلات، أو حتى قدرتك على التعافي من المرض.
- تهمل علاقاتك الاجتماعية: الروابط الاجتماعية تساعد على التغلب على الشعور بالوحدة، وتشحذ الذاكرة والمهارات المعرفية، وتعزز إحساسك بالسعادة والرفاهية. إذا كنت تعمل وقتاً أطول، فمن المرجح أنك تفوت قضاء أوقاتٍ مهمة مثل أنشطة عطلة نهاية الأسبوع أو الفعاليات المدرسية مع أحبائك.
- تتخطى الوجبات: من السهل الانزلاق في فخ تخطي الوجبات توفيراً للوقت عندما تعمل على نحو متواصل؛ لكن ذلك قد يؤدي إلى انخفاض مستويات السكر في الدم؛ ومن ثَمّ انخفاض الطاقة وحتى احتمال الإفراط في تناول الأطعمة غير الصحية في وقت لاحق من اليوم.
- لا تمارس الرياضة: عندما يتمكن منك الإرهاق بسبب العمل الزائد، فالأغلب أنك لن تستطيع ممارسة التمارين الرياضية على الرغم من أهميتها في المساعدة على الوقاية من الاكتئاب، وخفض ضغط الدم، وتحسين نسبة الكوليسترول، والمساعدة على التحكم في نسبة السكر في الدم، وتقليل خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
- تتجه إلى المخدرات أو الكحول: يلجأ الناس إلى تعاطي هذه المواد عندما يشعرون بالإرهاق أو عندما يشعرون أنهم بحاجة فقط إلى الانفصال عن أجواء العمل؛ ما يؤثر في قدراتهم على التركيز، ويتسبب في انخفاض الإنتاجية وزيادة الإصابات الجسدية في أثناء العمل.
كيف توازن بين عملك وحياتك الشخصية؟
بسبب إتاحة العمل المرن في السنوات الأخيرة أكثر من ذي قبل؛ فنسبة كبيرة من الموظفين قد يعملون عن بُعد على نحو دائم أو جزئي؛ ما أدى إلى عدم وضوح الخط الفاصل بين الحياة الشخصية والمهنية. لذلك؛ تنصح الكاتبة والمعالجة النفسية الأميركية، جويس مارتر (Joyce Marter)، بالآتي لكي تنجح في الحفاظ على التوازن بين العمل والحياة الشخصية:
- ضع حدوداً زمنية محددة لبداية يوم عملك ونهايته والتزم بها، وتجنب العمل في عطلات نهاية الأسبوع.
- تعلم قول "لا" عند الضرورة. مارس لغة التواصل الحازم مع المشرفين لوضع حدود واضحة فيما يتعلق بحجم العمل وتوقعاتهم منك دون مبالغة لدرجة عدم الاحترام أو العدوانية.
- ضع خطة مهنية تتضمن التوازن بين العمل والحياة الشخصية؛ بحيث يكون نجاحك المهني والمالي متناغماً مع حياتك الشخصية بما يشمل صحتك وعلاقاتك وهواياتك.
- أعط الأولوية لرعايتك الذاتية بالنوم، وممارسة الرياضة، والتغذية السليمة، وإتاحة الوقت لممارسة الهوايات، واهتم بنفسك بما فيه الكفاية لتكون ذلك الشخص الذي تريد الأفضل لنفسه مهنياً وعلى مستوى صحتك وعافيتك.
- استخدم تمارين اليقظة الذهنية لتحقيق إنتاجية أعلى، وأخطاء أقل، والمزيد من التفكير الإبداعي والذكاء العاطفي في العمل، وتحسين مهارة حل المشكلات والتعاون.
- فوض العمل لمصادر خارجية إن أمكنك ذلك، ولا سيّما المهام التي لا تستمتع بها أو التي يمكن أن ينجزها موظف آخر بفعالية أكبر.
- أنشئ روتيناً صباحياً يجعلك تبدأ يومك بالطريقة الصحيحة؛ مثل أن تمارس التأمل الصباحي، أو تتناول وجبة إفطار مغذية.
اقرأ أيضاً: هل إدمان العمل خيار صحي للتأقلم مع ضغوط الحياة؟
من الواضح أن ثقافة العمل تتغير على نحوٍ أكبر مما كنا نتوقع، فالعمل أكثر من اللازم بنسبة قليلة عند الضرورة القصوى قد يكون جيداً لأننا نسعى دائماً إلى تحقيق طموحاتنا المهنية. يدق الإفراط في العمل ناقوس الخطر فقط عندما يصبح الالتزام الزائد بالعمل نمطاً اعتيادياً في حيواتنا المهنية؛ ما لا يُبقي من جهدنا ووقتنا شيئاً لحيواتنا الشخصية. ربما حان الوقت لنُجيب كلنا سؤالاً ظل صداه يتردد في آذاننا مدة طويلة: "هل يستحق الأمر ذلك العناء كله؟!".