تحيز الإكمال: السر وراء ملاحقة مهامك غير المكتملة لعقلك باستمرار

5 دقيقة
تحيز الإكمال
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: عبد الله بليد)

يميل دماغك أحياناً إلى إكمال المهام السهلة فقط للحصول على دفقة سريعة من الدوبامين، وهو ما يعرف بتحيز الإكمال؛ تحيز قد يمنحك شعوراً زائفاً بالإنتاجية بينما يفاقم القلق ويبعدك عن أولوياتك الحقيقية. إدراكك لهذا النمط هو الخطوة الأولى لاستعادة السيطرة على وقتك وطاقتك. ولتحو…

أغلقت الدرج الأخير في المكتبة، تنهدت بارتياح بعد أن أكملت ترتيب الكتب والروايات، وعلى الرغم من أن هذا الترتيب لم يكن أولوية في مهام يومي، إذ كان يجب أن أذهب مع أولادي إلى التمرين ثم أنهي مقالاً متأخراً؛ فإني شعرت بالراحة بعد تنظيف مكتبتي وترتيبها.

وإذا سألتني لماذا أحس بارتياح على الرغم من أن أمامي الكثير من المهام فسوف أخبرك أن السبب هو تحيز الإكمال، وهو أحد التحيزات المعرفية التي تثبت ميل الدماغ البشري إلى اتخاذ بعض القرارات غير العقلانية واللامنطقية، ويمكن القول إن هذه التحيزات المعرفية قد تكون واضحة، وأحياناً يكون من المستحيل ملاحظتها، فما هو تحيز الإكمال؟ ولماذا لا يهدأ بالك حتى تنهي مهامك جميعها؟ الإجابة عبر هذا المقال.

ما هو تحيز الإكمال؟ 

ظهر مصطلح التحيز المعرفي أول مرة على يد الباحثين آموس تفرسكي، ودانيال كانيمان، خلال عام 1972، ويمكن القول إن التحيز المعرفي هو خطأ منهجي في التفكير يحدث عندما يعالج الأشخاص المعلومات في محيطهم ويفسرونها بطريقة غير منطقية أو عقلانية، ما يؤثر في قراراتهم وأحكامهم.

وتحيز الإكمال أحد التحيزات المعرفية التي تصف ميلك إلى إنهاء المهام التي بدأتها، أو إعطاء الأولوية للمهام سهلة الإنجاز عوضاً عن الانخراط في المهام ذات الأهمية الأكبر، وذلك لأن المهام المكتملة حتى وإن كانت غير مهمة تؤدي إلى إفراز هرمون الدوبامين الذي يسبب الشعور بالسعادة؛ فحين تحقق هدفاً أو تكمل مهمة حتى لو كانت صغيرة يفرز دماغك الدوبامين ويجعلك تحس بالمتعة.

بمعنى آخر، يفضل العقل البشري الشعور الفوري بالإنجاز الناتج عن شطب مهمة من قائمة المهام، على الرغم من أن هذا الإنجاز قد يقوض الإنتاجية الحقيقية ويهدد الصحة النفسية على المدى الطويل.

اقرأ أيضاً: ماهو تأثير الأسبقية؟ وكيف توظفه لتترك انطباعاً جيداً عنك؟

ما هي مخاطر تحيز الإكمال؟ وكيف يؤثر سلباً في الإنتاجية والصحة النفسية؟

قد يبدو من الوهلة الأولى أن تحيز الإكمال مفيد ومهم ويمكن أن يساعدك على إنهاء مهامك اليومية، لكن الحقيقة عكس ذلك تماماً، فهناك العديد من المخاطر لهذا التحيز، منها على سبيل المثال:

1. تجنب المهام الكبيرة 

مع سعيك الدائم لإنجاز الأمور وإنهاء المهام، سوف تميل بطريقة لا واعية إلى التركيز على المهام السهلة التي يحقق إنجازها مكافآت سريعة أملاً في الحصول على دفقة من الدوبامين. على سبيل المثال، سوف تذهب إلى عملك وتجلس إلى مكتبك، وتبدأ في تنظيف مساحة عملك، وترتيب أوراقك، ثم تنظيم بريدك الإلكتروني إما بالرد على رسائل العمل أو أرشفة الرسائل غير المرغوب فيها، وعلى الرغم من أن الحفاظ على بريد إلكتروني مرتب يعد أمراً جيداً فإن التركيز على المهام الروتينية سوف يستهلك وقتك بسهولة، ويمنعك من الانخراط في المهام الأكبر ذات الأهمية الحقيقية في العمل. 

2. الإرهاق والإنتاجية الزائفة 

يؤدي التركيز على المهام الصغيرة إلى الشعور الدائم بأنك مشغول دون أن تكون فعالاً، حيث تقضي يومك في التنقل بين مهام صغيرة وغير مهمة بدلاً من العمل على المشاريع التي تحقق أهدافك المهنية والشخصية، ويمكن القول إن هذا الشعور الدائم بالانشغال سوف يؤدي إلى الإرهاق والاحتراق النفسي بسبب فرط العمل دون رؤية تقدم حقيقي وملموس نحو الأهداف الأخرى ما يعني أنك ستدخل حالة من الإنتاجية الزائفة.

3. تفاقم مشاعر القلق والتوتر 

 يكمن شكل خفي من أشكال التسويف في صميم تحيز الإكمال؛ تخيل معي أنك يومياً تلجأ إلى إنهاء المهام الصغيرة فقط، وقتها أنت بطريقة واعية أو لا واعية تقوم بتسويف المهام الكبرى، وبدلاً من العمل على إنهاء تلك المهام يهرب عقلك إلى المهام البسيطة، وهو الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى تفاقم مشاعر القلق والتوتر، لأن مهامك الكبرى لن تنجز من تلقاء نفسها، وسوف يقترب الموعد النهائي لها، ومع هذا الاقتراب سيعاود القلق الظهور بطريقة أكبر، وحين تهمل في أداء مهامك ستنخفض ثقتك بنفسك وستدرك أنك غير قادر على إنجاز المشاريع المهمة.

4. فقدان الرؤية والمعنى في الحياة 

حين أستيقظ من نومي كل صباح، يكون لدي قائمة بالكثير جداً من المهام، لهذا أكتب في بداية اليوم أهم الأهداف التي أود تحقيقها، وأرتبها وفقاً لأولويتها، أتخيل أحياناً لو أني أقع في فخ تحيز الإكمال، وقتها سأنجز كل يوم العديد من المهام الصغيرة لكن تلك المهام لن تصل بي لأي مكان، ولن أحقق أياً من أهدافي التي وضعتها لنفسي، ما يعني فقدان الرؤية والمعنى في الحياة.

ما أقصد قوله هنا، هو أن الحياة مليئة بالتفاصيل الصغيرة، وحين تخصص كل طاقتك العقلية والجسدية من أجل إنهاء المهام الصغيرة سوف تفقد رؤيتك، بسبب عدم تخصيص وقت للتخطيط الاستراتيجي والتفكير العميق اللازم لتحقيق النجاح الطويل الأمد، وهذا النمط السلوكي يقلل الشعور بالمعنى والهدف في العمل والحياة.

5. عدم القدرة على الاستمتاع بالحياة 

هوسك الدائم بإنهاء إحدى المهام ثم الدخول مباشرة إلى مهمة أخرى، قد يجعلك تفوت الاستمتاع بالرحلة، لأن الطريق نحو الهدف أحياناً يكون أكثر متعة من الوصول نفسه، فهناك تجارب قيمة خلال الرحلة عليك الانتباه إليها، لكن تحيز الإكمال غالباً ما يجعلك لا تراها لأن انتباهك وتركيزك بالكامل منصبان على الوجهة النهائية.

وفي هذا السياق، يؤكد المعالج النفسي، أسامة الجامع، أن الهوس بإنهاء المهام كلها قد يجعلك تفقد أشياء مهمة مثل صحتك، ومثل قدرتك على الاستمتاع، ولهذا ينصحك الجامع بأن تؤجل بعض المهام وترفض البعض الآخر، وبعض الأمور يمكنك تفويضها، لأن هناك حياة في انتظارك حاول أن تعيشها دون لهاث خلف هوس الإنجاز وإنهاء المهام.

اقرأ أيضاً: حارب الكمالية بالرضا وتحرر من شقاء المثل العليا

كيف تنجز مهامك اليومية دون الوقوع في فخ تحيز الإكمال؟

رغبتك في إنجاز المهام والحصول على دفقة من الدوبامين في المقابل ليست مشكلة في حد ذاتها، ولكن عليك إدارتها قليلاً عبر اتباع الاستراتيجيات التالية: 

1. قسم مهامك اليومية 

إذا كنت تواجه صعوبة في التعامل مع مهامك اليومية، فحاول تقسيمها؛ على سبيل المثال، قبل أن تبدأ عملك صباحاً جهز قائمة بالمهام، ورتبها حسب الأولوية، ثم ابدأ بالمهمة الأكثر أولوية ثم انتقل تباعاً إلى باقي المهام، وبذلك سوف تستفيد من تحيز الإكمال، وتحصل على دفقتك اليومية من الدوبامين وفي الوقت نفسه ستزيد إنتاجيتك في العمل.

2. كن صادقاً مع نفسك 

أحياناًَ يجب أن تسأل نفسك سؤالاً واحداً وتجيب عنه بكل صدق ووضوح مع ذاتك؛ هل تنخرط في المهمات الصغيرة حتى تنجزها وتزيحها عن كاهلك؟ أم إنك تتجنب المهام الكبرى خوفاً من الفشل؟ حين تجيب عن هذا السؤال وتكون صادقاً مع نفسك سوف تتضح رؤيتك كثيراً، وفي حال اخترت أن تمنح نفسك حافزاً نفسياً من خلال إنجاز بعض المهام السهلة أولاً، فكن صارماً بشأن الوقت المخصص لذلك، وشغل المنبه المؤقت إذا لزم الأمر.

3. كافئ نفسك بعد إنهاء المهام الكبرى 

إذا كان تحيز الإكمال يمنحك دفقة من الدوبامين بعد إنهاء المهام الصغيرة، يمكنك أن تفعل الأمر نفسه ولكن مع المهام الكبرى. على سبيل المثال، حين تنتهي من تقرير مهم في العمل كافئ نفسك على الفور بوجبة خفيفة تحبها أو خذ استراحة قصيرة، وعلى الجانب الآخر، حدد عواقب بسيطة لعدم إكمال المهمة مثل التخلي عن نشاط ترفيهي مهم، مثل مشاهدة مسلسلك المفضل بعد انتهاء العمل.

4. تعاطف مع نفسك 

إذا كنت تنخرط في المهام السهلة كل يوم وتلجأ إلى تحيز الإكمال باستمرار، فلن تتغير بين عشية وضحاها، سوف يأخذ الأمر بعض الوقت حتى تنهي مهامك الكبرى أولاً، لهذا بدلاً من إصدار الأحكام على ذاتك حاول تبني عقلية الفضول واسأل نفسك "لماذا أواجه صعوبة في العمل على هذا المشروع؟" واستبدل بعبارة "أنا كسول جداً" عبارة "أنا حاول التعلم والتدرب"، وسوف يساعدك هذا النهج على التعرف إلى المشكلة الجذرية ومعالجتها بدلاً من الانغماس في الحديث السلبي مع الذات.

اقرأ أيضاً: السعي إلى الكمال: السبب الخفي لآلامك الجسدية المزمنة

5. طور مهاراتك 

أحياناً نلجأ إلى إنهاء المهام الصغيرة التي لا تتطلب الكثير من الجهد لأنها سهلة، ولأنها تقع في منطقة الراحة الخاصة بنا، ولهذا فإن العقل يستخدم القليل من طاقته في إنجازها بدلاً من بذل المزيد من الطاقة في مهام وتحديات جديدة، لكن على الجانب الآخر، هذا النهج سيعطلك عن التقدم المهني والشخصي.

ولهذا إذا كنت بحاجة إلى مهارات جديدة لإنجاز مهمة ما، فحددها بدقة. على سبيل المثال، إذا كانت لديك مهمة تتطلب عرضاً تقديمياً أمام مجلس الإدارة والتحدث أمام مجموعة من الناس وأنت تخشى التكلم أمام الجمهور، في هذه الحالة عليك العمل على هذه المهارة وليس الهرب منها أو تجنبها من خلال الانخراط في مهام أخرى أسهل. 

6. تتبع تقدمك وعدل نهجك

حدد قائمة بالمهام الكبرى التي أنجزتها خلال اليوم أو الأسبوع، ثم راجع تقدمك لتحديد الأنماط وإجراء التعديلات اللازمة، والهدف هنا هو الوعي بأنماطك، وليس الكمال، لهذا خصص 10 دقائق أسبوعياً وحاول أن تقيس تقدمك، اسأل نفسك: "ما الذي نجح؟ وما الذي لم ينجح؟ ما هو التغيير البسيط الذي يمكن إجراؤه لتحسين أدائي الأسبوع المقبل؟"

احتفل بالنجاح الذي حققته حتى لو كان صغيراً، وتذكر أن المرونة هي الأساس؛ فالذي لم ينجح خلال هذا الأسبوع، حاول معه مرة أخرى بطرق مختلفة الأسبوع القادم، وإذا كانت فترات عملك طويلة ومرهقة جرب تقسيمها إلى جلسات أصغر تتخللها فترات راحة.

المحتوى محمي