ملخص: يترافق الاكتئاب مع تغيّرات ملحوظة في حجم الدماغ، خاصة في مناطق مثل الحُصين والقشرة الجبهية والعقد القاعدية والمهاد؛ وهي مناطق يتقلّص حجمها مخلّفاً تأثيراً سلباً في الذاكرة والتركيز وتنظيم العواطف؛ في حين تحدث زيادة حجم اللوزة الدماغية في حالة الاكتئاب نتيجة فرط نشاطها؛ الذي ينعكس على المريض بأعراض تشمل زيادة الانفعال والقلق والتفكير السلبي. أما سبب هذه التغيرات، فيُعزى إلى مجموعة من العوامل البيولوجية؛ مثل التوتر المزمن، والتهاب الدماغ، واختلال النواقل العصبية، ونقص الأوكسجين؛ التي تسهم جميعها في تغيّر أحجام بعض المناطق الدماغية. ومع ذلك، تشير الأبحاث إلى أن هذه التغيرات قد تكون قابلة للعكس مع العلاج المناسب؛ حيث تشمل العلاجات كلاً من العلاج المعرفي السلوكي ومضادات الاكتئاب، كما يمكن لكل من ممارسة الرياضة بانتظام، واستراتيجيات تقليل التوتر مثل التنفس العميق، وتناول الأطعمة المضادة للالتهابات، أن يعزز صحة الدماغ ويساعد على تخفيف أعراض الاكتئاب.
محتويات المقال
يقول الطبيب النفسي، عاصم العقيل، إن الاكتئاب شعور ينطوي على عدم الشعور والإحساس بالحياة، فلا طعم ولا متعة ولا لذّة لشيء، ولا قيمة لما يراه الشخص أو ينجزه أو يمتلكه. لكن وبعيداً عن أعراضه العاطفية والنفسية، ثمة أدلة دامغة على أن الاكتئاب يسبب تغييرات بنيوية في الدماغ تؤثر بصورة خاصة في أحجام مناطق معينة منه. هذه التغييرات ليست مجرد نتيجة ثانوية للاضطراب؛ ولكنها قد تكون متورطة أيضاً في فيزيولوجيا المرض. فكيف يغيّر الاكتئاب حجم الدماغ؟ وما سبب ذلك؟ وهل هذه التغييرات قابلة للعكس أم هي تغيرات دائمة؟ إليك التفاصيل.
اقرأ أيضاً: الاكتئاب المفاجئ: ما الذي قد يصيبنا به؟ وكيف نتغلب عليه؟
ما هي المناطق الدماغية التي يتغير حجمها في حالة الاكتئاب؟
توصلت دراسة منشورة في دورية اتصالات الدماغ (Brain Communications) عام 2022، إلى وجود علاقة بين الاكتئاب وانخفاض حجم المادة الرمادية في بعض مناطق الدماغ. والمادة الرمادية هي نوع أساسي من الأنسجة في الدماغ. ونظراً إلى أنها تتكون من كميات كبيرة من أجسام الخلايا العصبية وتشعباتها؛ فإن التفكير والاستدلال ومعالجة الإحساس والإدراك والعواطف والتعلم والكلام والحركة الإرادية وغيرها من العمليات الدماغية يحدث فيها.
ومن المنطقي أنه حينما ينخفض حجم منطقة معينة من الدماغ، فستنخفض القدرة على أداء الوظائف المرتبطة بهذا الجزء المحدد. وتجدر الإشارة إلى أن فقدان حجم المادة الرمادية يكون أعلى عند الأشخاص الذين يعانون اكتئاباً منتظماً أو مستمراً مع أعراض شديدة. فلنرَ إذاً ما المناطق التي يتغير حجمها في حالة الاكتئاب:
الحُصين
تَبيَّن أن حجم الحُصين يتقلَّص في حالة الإصابة بالاكتئاب. ونظراً إلى أن الحُصين يؤدي دوراً بالغ الأهمية في تكوين الذاكرة وعملية التذكر وتنظيم العواطف ومعالجتها؛ فهذا ما قد يفسر سبب معاناة بعض الأشخاص المصابين بالاكتئاب مشكلات الذاكرة وصعوبة التركيز وضبابية الدماغ وأنماط التفكير السلبية.
اقرأ أيضاً: لماذا قد تشعر بالاكتئاب مع انتهاء فصل الصيف؟ وكيف تتعامل معه؟
القشرة الجبهية
القشرة الجبهية الأمامية مسؤولة عن الوظائف المعرفية العليا؛ مثل التخطيط واتخاذ القرارات وحل المشكلات والتحكم في الانفعالات وردود الأفعال العاطفية. ومثلما هي الحال مع الحصين؛ فإن هذه المنطقة تعاني تقلّصاً في حجم المادة الرمادية الموجودة فيها بالتزامن مع الإصابة بالاكتئاب. وقد تَبيَّن أن خلل وظائف القشرة المخية الجبهية الأمامية يسبب ظهور بعض الأعراض عند المكتئبين معظمهم؛ مثل فقدان التلذذ أو فقدان الاهتمام بالأنشطة التي كانت ممتعة فيما سبق، وخللاً في طريقة إدراك العواطف، وفقدان التنظيم العاطفي الكافي.
العقد القاعدية
هي مجموعة من الهياكل المترابطة التي تقع في أعماق الدماغ. تؤدي دوراً حاسماً في التحكم في الحركة وتنسيق الأنشطة الحركية، وقد تشارك أيضاً في الوظائف الإدراكية مثل الذاكرة والتفكير والمعالجة العاطفية. وقد وُجد أنها تعاني انكماشاً وتغيرات بنيوية أُخرى عند الأشخاص المصابين بالاكتئاب.
اقرأ أيضاً: هذه الأدوية الشائعة قد تُصيبك بالاكتئاب!
المهاد
تؤدي هذه المنطقة دوراً في معالجة الحواس والإشارات الحركية والدافع والنشاط، وقد يفسر تقلصها ظهور الخمول وفقدان الطاقة وانخفاض الدافع ومشكلات النوم المرتبطة بالاكتئاب.
اللوزة الدماغية
لقد أظهرت الدراسات نتائج متباينة فيما يتعلق بتغيُّر حجم اللوزة الدماغية. على سبيل المثال؛ ذكرت دراسة منشورة في المجلة الطبية البريطانية (British Medical Journal)، أن حجم اللوزة الدماغية ينكمش عند الإصابة بالاكتئاب؛ في حين وجدت مراجعة منشورة في دورية الطب النفسي وعلم الأعصاب (Psychiatry and Neuroscience)، أن حجمها يزداد على نحو كبير عند الإصابة بالاكتئاب في حال تزامن مع القلق.
تؤدي اللوزة الدماغية دوراً رئيساً في معالجة المشاعر، خصوصاً مثل الخوف والغضب. ووفقاً لموقع كلية الطب في جامعة هارفارد (Harvard Medical School)؛ فإن اللوزة الدماغية تميل إلى النشاط المفرط في حالة الاكتئاب، وقد يؤدي هذا النشاط الزائد إلى تضخمها. وربما يسهم فرط النشاط وزيادة حجم اللوزة الدماغية في اختلال الانفعالات وزيادة القلق والتفكير السلبي المفرط الذي يُلاحظ غالباً في الاكتئاب.
اقرأ أيضاً: هل تشعر بالاكتئاب في الأعياد؟ تعرف إلى اكتئاب الإجازة
لماذا تحدث التغيرات السابقة؟
يمكن أن يُعزى التغيّر في أحجام بعض المناطق الدماغية عند الإصابة بالاكتئاب إلى عدة عوامل بيولوجية؛ مثل:
التوتر المزمن
يرتبط التوتر المزمن على نحو كبير بتطور الاكتئاب. في الواقع، غالباً ما تُوصف العلاقة بين التوتر المزمن والاكتئاب بأنها ثنائية الاتجاه؛ إذ من الممكن أن يسهم التوتر في حدوث الاكتئاب، وقد يؤدي الاكتئاب إلى زيادة مستويات التوتر. في الحالات معظمها، يسبب التوتر المزمن ارتفاع مستويات هرمون الكورتيزول على نحو مفرط، وقد وُجد أن مستويات الكورتيزول المرتفعة تسبب إتلاف الخلايا العصبية، وخاصة في الحُصين، وإبطاء تكوين خلايا عصبية جديدة؛ ما قد يؤدي إلى انكماش بعض مناطق الدماغ بمرور الوقت.
اقرأ أيضاً: ما هو الاكتئاب الظرفي؟ وكيف يمكن تشخيصه وعلاجه؟
التهاب الدماغ
يحدث التهاب الدماغ نتيجة نشاط غير طبيعي في الجهاز المناعي عند بعض الأشخاص المصابين بالاكتئاب؛ لكن من غير الواضح إن كان الالتهاب يسبب الاكتئاب أم العكس. عموماً، يؤدي الالتهاب الطويل الأمد إلى موت الخلايا العصبية، وانخفاض المرونة العصبية (قدرة الدماغ على التكيف والتغيير)؛ ما يسبب في المحصلة تقلص حجم بعض المناطق الدماغية. يُذكر إن حالات الاكتئاب المزمنة غير المعالَجة، وخاصة على مدى فترات طويلة، ترتبط بزيادة الالتهاب وزيادة تقلص الحجم.
اختلال توازن النواقل العصبية
قد ينتج الاكتئاب عن اختلال توازن النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين والنورإبينفرين؛ وهي مواد كيميائية ضرورية لوظائف الدماغ وتنظيم الحالة المزاجية وصحة الدماغ بصورة عامة.
وقد وجدت دراسة منشورة في دورية الحدود في علم النفس (Frontiers in Psychology) أن الأشخاص الذين يعانون الاكتئاب والقلق يمتلكون مستويات منخفضة من هذه النواقل. ونظراً إلى أن الجهاز العصبي المركزي يستخدم هذه المواد لنقل الرسائل العصبية بين الخلايا العصبية والخلايا الأخرى من الجسم، فقد يسهم اختلالها غير الطبيعي في تقلص أحجام بعض المناطق الدماغية.
نقص الأوكسجين
يرتبط الاكتئاب أيضاً بانخفاض مستويات الأوكسجين في الجسم؛ وقد يحدث ذلك نتيجة تغيّرات التنفس الناجمة عن الاكتئاب؛ ولكن من غير الواضح أيٌّ منهما يحدث في البداية. وقد تبين أن الجسم ينتِج بروتيناً محدداً استجابة لنقص الأوكسجين في الجسم يُدعى "عامل نقص الأوكسجين القابل للتحريض" (Hypoxia-inducible factor-1)، ولُوحظ أن ارتفاع مستوياته يرتبط بسلوكيات تشبه الاكتئاب عند حيوانات التجارب.
عموماً، يعد الدماغ حساساً جداً لانخفاض الأوكسجين؛ إذ يسبب انخفاضه تضرر الخلايا الدماغية أو موتها؛ ما قد يسبب تقلص أحجام بعض المناطق الدماغية. يُذكر إن حتى نقص الأوكسجين القصير الأمد قد يسبب ارتباك الدماغ تماماً مثلما يحدث عند المتنزهين على ارتفاعات عالية (تقلّ نسبة الأوكسجين في الهواء على المرتفعات). لذا؛ فقد تسبب زيادة تدفق الأوكسجين إلى الدماغ انخفاضاً في أعراض الاكتئاب عند البشر. هذا ما توصلت إليه إحدى الدراسات المنشورة في دورية الدواء (Medicine).
اقرأ أيضاً: ما العلاقة بين درجة حرارة الجسم والإصابة بالاكتئاب وفقاً لدراسة حديثة؟
هل التغيّرات في حجم الدماغ دائمة أم قابلة للعكس؟ وكيف السبيل إلى عكسها؟
تشير الأبحاث إلى أن التغيرات التي تطرأ على الدماغ بسبب الاكتئاب قد لا تكون دائمة؛ إذ أظهرت دراسة منشورة في دورية اللدونة العصبية (Neural Plasticity) أُجريت على نماذج حيوانية، أن تقلص الدماغ المرتبط بالاكتئاب يرتبط غالباً بضعف التشعبات العصبية وليس بفقدان خلايا الدماغ. والتشعبات العصبية هي امتدادات خلوية تصل بين خلايا الدماغ.
تشير هذه النتائج إلى أن التغيرات التي تصيب الدماغ قد تكون قابلة للعكس، وأن الدماغ قابل للشفاء. ومن الممكن أن تسهم العلاجات مثل مضادات الاكتئاب والعلاج المعرفي السلوكي على عكس هذه التغيرات، عن طريق تقليل الالتهاب وتعزيز تكوين اتصالات مشبكية جديدة.
اقرأ أيضاً: مضادات الاكتئاب ليست دائماً الحل الأمثل لعلاج الاكتئاب
وتشير دراسة حديثة منشورة في مجلة الاضطرابات العاطفية (Journal of Affective Disorders) عام 2023 إلى أن الكيتامين المُستخدَم بجرعات منخفضة لعلاج الاكتئاب المقاوم للعلاج، يمكن أن يخفف الأعراض ويعزز الوظائف الإدراكية مثل الذاكرة والانتباه. عموماً، ثمة حاجة إلى مزيد من البحث لفهم خيارات العلاج وتأثيراتها على نحو كامل.
لكن وبالإضافة إلى العلاج النفسي والدوائي، فإليك أهم 3 نصائح التي يمكن أن تساعد مرضى الاكتئاب على تخفيف الأعراض وتحسين صحة الدماغ؛ وهي:
- مارس الرياضة: تعزز الرياضة صحة الدماغ عن طريق تقليل الالتهاب وتحسين صحة القلب وعملية التمثيل الغذائي، ويمكن أن تساعد على تحسين بنية الحُصين عند الأشخاص المكتئبين. أما أفضل التمارين الرياضية بالنسبة إلى المصابين بالاكتئاب، فهي تمارين المقاومة والتمارين الهوائية.
- قلل التوتر: مثلما ذكرنا؛ فالتوتر مرتبط بالاكتئاب وعامل رئيس في تقلص الحُصين؛ لذا حاول أن تخفِّض مستويات التوتر لديك عن طريق تمارين التنفس العميق، أو التنزه في الطبيعة، أو التأمل، أو اللعب مع الحيوانات الأليفة، أو غيرها من التغييرات البسيطة التي قد تجدها مفيدة لك.
- أكثِر من الأطعمة المضادة للالتهاب: وُجد أن أنماط الأكل المضادة للالتهابات قد تمنع حدوث الاكتئاب والقلق على المدى الطويل؛ في حين أن أنماط الأكل المحفِّزة للالتهاب قد تعزز هذه الحالات. لذلك؛ عليك أن تضيف المزيد من الأسماك والفاكهة الطازجة والجوز والأرز البني إلى نظامك الغذائي. في المقابل، حاول ما استطعت أن تقلل تناول الأطعمة العالية المحتوى بالسكر والدهون، واللحوم المصنعة، والكربوهيدرات المكررة؛ إذ من شأنها أن تزيد الالتهابات في الجسم.