هل الأجدى انتظار مجيء السعادة مع تقدمنا في العمر؟

5 دقيقة
انتظار مجيء السعادة
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: ثمة فكرة شائعة بين الناس أن الشيخوخة مرحلة مؤلمة كلها كآبة وعذاب، يعاني فيها الكبار نفسياً؛ لكن الواقع يبدو على العكس من ذلك؛ إذ وُجد أن كبار السن أسعد من البالغين الأصغر سناً على الرغم من الآلام الجسدية التي قد يعانونها؛ حيث بينت الدراسات أن السعادة والرفاهية النفسية تنخفضان عادة في منتصف العمر، ثم ترتفعان مرة أخرى في وقت لاحق من الحياة. فهل علينا إذاً انتظار مجيء السعادة مع تقدمنا في السن أم ثمة ما يمكن فعله للظفر بها قبل الأوان؟

يقول الفيلسوف الأميركي وعالم الطبيعة، هنري ديفيد ثورو (Henry David Thoreau): "السعادة مثل الفراشة؛ كلما طاردتها أكثر، هربت منك أكثر؛ ولكن إذا وجّهت انتباهك إلى أمر آخر، فسوف تأتي وتجلس على كتفك بهدوء". فهل تتحقق السعادة فعلاً عندما نتوقف عن البحث عنها؟

في الواقع، أظهر العديد من الدراسات التي سيرد ذكرها في المقال، أن كبار السن أكثر سعادة من الأشخاص الأصغر عمراً ممن يتمتعون بصحة أفضل ووقت أوفر؛ لكن هذا لا يعني أن السعادة ستظهر في مرحلة متقدمة من الحياة على نحو سحري؛ وإنما قد يُعزى ذلك إلى أن كبار السن ربما أدركوا ما يهمهم حقّاً من الحياة وما لا يهمهم. فهل الأجدى انتظار مجيء السعادة مع التقدم في العمر؟ أم يمكن تحقيقها الآن من خلال التمتع بعقلية كبار السن؟

اقرأ أيضاً: لا تقس سعادتك على معايير تقارير السعادة العالمية!

هل كبار السن أكثر سعادة؟

وجدت مراجعة علمية منشورة في مجلة دراسات السعادة (Journal of Happiness Studies) عام 2022، أن السعادة في العديد من الدول الأوروبية تتناقص بعد سنوات المراهقة حتى تصل إلى أدنى مستوياتها في منتصف العمر (50 عاماً)، ثم تعود لترتفع مرة أخرى عند الوصول إلى مرحلة الشيخوخة. وقد وُجد هذا في العديد من الدول الأخرى؛ مثل الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأفريقية، وفقاً لمراجعة منشورة في مجلة الاقتصاد السكاني (Journal of Population Economics) عام 2020.

وعلى وجه الخصوص، وجد استطلاع شمل أكثر من 300 ألف شخص بالغ في أنحاء المملكة المتحدة جميعها، أن الشعور بالسعادة والرضا عن الحياة بلغ ذروته في الفئة العمرية ما بين 65 و79 عاماً؛ أي أن هذه الفئة العمرية هي أسعد فئة عمرية للبالغين في المملكة المتحدة. ومع ذلك، وُجد أن السعادة والرفاهية قد تنخفضان مرة أخرى عند الأشخاص الذين يتجاوزون الـ 80 عاماً، وقد يُعزى ذلك إلى سوء الحالة الصحية والشعور بالوحدة والعيش بمفردهم.

اقرأ أيضاً: هذا المعتقد الشائع عن الوصول للسعادة يضر بصحتك النفسية

هل من الأجدى انتظار السعادة لتتحقق مع التقدم في العمر، أم ثمة حلول أُخرى؟

فكرة انتظار مجيء السعادة مع التقدم في العمر فكرة مضللة بعض الشيء، فالسعادة ليست جائزة ستنالها نتيجة إتمام عدد معين من السنوات على هذه الأرض؛ وإنما حالة عاطفية معقدة يمكن في كثير من الأحيان يمكن تحقيقها من خلال أفكارك وطريقة تعبيرك عن مشاعرك وتفاعلك مع العالم من حولك.

فما جعل الناس أكثر سعادة بعد تقدمهم في العمر هي عقلياتُهم التي تغيرت، وذلك ربما عندما توقفوا عن ربط السعادة بتحقيق غايات محددة، وركّزوا بدلاً من ذلك على تحديد أولوياتهم وتنظيم عواطفهم وبناء الحياة والعلاقات التي تمنحهم الراحة والرضا العميق. ومن ثَمّ؛ إن أردت أن تَنعم بالسعادة الآن في عزّ شبابك، فعليك أن تتحلى بعقلية كبار السن. كيف؟ من خلال تبني الاستراتيجيات التالية:

اقرأ أيضاً: لمَ نشعر بالسعادة حين نُحسن إلى الآخرين؟

التركيز على اللحظة الحالية والاستمتاع بالملذات البسيطة

يعي كبار السن أن الوقت بات محدوداً؛ لذلك تراهم يركّزون على عيش اللحظة الحالية والاستمتاع بها طالما أنها متاحة، يمكن أن يشمل ذلك قضاء الوقت في الطبيعة أو ممارسة الهوايات أو الانخراط في الأنشطة التي تحقق لهم الرضا.

يمكنك أن تتعلم كيفية عيش اللحظة الحالية، من خلال ممارسة التأمل أو اليقظة الذهنية أو اليوغا أو غيرها. فقد وُجد أن الأشخاص الذين يمارسون اليقظة الذهنية كانوا أكثر عرضة إلى ملاحظة تجارب الحياة الإيجابية وأكثر امتناناً لها؛ في حين أدى التأمل إلى إحداث تغييرات إيجابية في الدماغ على نحو يحسن التركيز ويقلل التوتر.

اقرأ أيضاً: كيف تجد السعادة في يومك من خلال الاستمتاع بأبسط التفاصيل؟

النظرة الإيجابية

غالباً ما يركّز الكبار على الجوانب والأحداث الإيجابية في الحياة بدلاً من التركيز على الجوانب السلبية؛ إذ تساعدهم هذه العقلية في الحفاظ على الرضا على الرغم من التحديات والتدهور الجسدي. لذلك؛ راقب نوعية الأفكار التي تراودك يومياً، ثم ابذل جهداً واعياً لإعادة صياغة طريقة تفكيرك على نحو أكثر إيجابية. قد تساعدك اليقظة الذهنية على التعرف إلى أنماط تفكيرك.

تذكّر أن التفكير الإيجابي لا يعني وضع توقعات عالية جداً أو الإصرار على الحفاظ على عقلية إيجابية بغض النظر عن مدى إزعاج الموقف أو خطورته أو ضرره؛ وإنما يعني وجود نظرة إيجابية عامة تركز على وضع توقعات واقعية موضوعية.

تبني الأصالة

قد يصبح كبار السن أكثر ارتياحاً مع أنفسهم ويتقبلون ذواتهم الحقيقية ويعيشون وفقاً لقيمهم ومعتقداتهم الخاصة، بدلاً من الالتزام بالتوقعات أو الأعراف المجتمعية، بالإضافة إلى أنهم يعطون الأولوية لسلامتهم العاطفية. حاول أن تنفّذ ذلك وألا تتردد في قول "لا" عند الضرورة تجنباً للإفراط في الالتزام، مع الموازنة بين احتياجاتك الخاصة وإسعادك للآخرين.

حاول أن تحدد أولوياتك؛ إذ يقول الطبيب النفسي بندر آل جلالة: "إن سعادة الإنسان يتغير شكلها مع زيادة عمره، والسبب ببساطة أن ما كان يجعله سعيداً في بداية العشرينيات، قد لا يسعده في نهاية الثلاثينيات، فالإنسان الواعي في سعي مستمر إلى كتشاف رغباته الذاتية والبحث عن فرص لإسعاد  روحه".

اقرأ أيضاً: مفتاح السعادة هو تحقيق التوازن بين الاهتمام بنفسك وبالآخرين

ممارسة الامتنان 

يمتنّ كبار السن غالباً للنعم الموجودة في حيواتهم ويقبلون التحديات التي تأتي مع الشيخوخة، وقد يطورون قدراً أكبر من المرونة ويرضون بالحياة كيفما تأتي. وأنت أيضاً؛ اقضِ بعض الوقت في التفكير في اللحظات السعيدة والأمور الجيدة التي حدثت في يومك، أو الأشخاص الذين تقدّر وجودهم في حياتك. حاول أن تواظب على الامتنان ولو 5 دقائق يومياً؛ إذ وُجد أن المواظبة على كتابة قائمة الامتنان تزيد المشاعر الإيجابية وتعزز الرضا وتقلل الاكتئاب.

اقرأ أيضاً: صحح مفاهيمك: 8 أفكار خاطئة شائعة عن السعادة

التنظيم العاطفي

يشير التنظيم العاطفي إلى القدرة على إدارة عواطف الفرد والتحكم فيها على نحو فعال استجابة للمواقف والمحفزات المختلفة. وعلى ما يبدو، يتفوق كبار السن في هذا المجال بسبب سنوات من الخبرة والحكمة؛ إذ يستخدمون مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات لتنظيم عواطفهم؛ مثل الوعي الذاتي وإعادة الصياغة المعرفية والقبول.

على سبيل المثال؛ قد يختارون التركيز على اللحظة الحالية، أو إعادة صياغة الأفكار السلبية إلى أفكار أكثر إيجابية، أو قبول المشاعر الصعبة دون أن تطغى عليهم. من خلال إتقان التنظيم العاطفي، يمكنك  الشعور بالهدوء والمرونة حتى في مواجهة الشدائد؛ ما يسهم في تعزيز سعادتك ورفاهيتك عموماً.

العناية بالنفس

يُدرك كبار السن أكثر من غيرهم أهمية الصحة؛ لذلك يحاولون أقصى استطاعتهم الحفاظ عليها. وبالطبع ما يُزرع اليوم يُحصد غداً؛ لذلك ابدأ منذ الآن بالاهتمام بنفسك وصحتك الجسدية والنفسية، فاتبع نظاماً غذائياً صحياً ومارس الرياضة بانتظام ونل قسطاً كافياً من النوم وحافظ على علاقاتك الاجتماعية العزيزة وواظِب على التعلم مدى الحياة، فذلك سيساعدك في المحافظة على الوظائف المعرفية والحد من خطر التدهور المعرفي والتمتع بنوعية حياة أفضل مع التقدم في العمر.

اقرأ أيضاً: إليك تمريناً من اليابان يمدك بالسعادة في 3 دقائق فقط

تقوية العلاقات الاجتماعية العميقة

مع الوعي بهشاشة الحياة وفنائها، يميل كبار السن إلى تضييق دوائرهم الاجتماعية وحصرها في العلاقات التي تجلب لهم أكبر قدر من الراحة والسعادة. في الواقع، عندما سُئلت أكبر معمرة على قيد الحياة، ماريا برانياس (Maria Branyas) التي احتفلت عام 2024 بعيد ميلادها الـ 117، عن سر عمرها الطويل قالت: "النظام، والهدوء، والتواصل الفعال مع العائلة والأصدقاء، والاستمتاع بالطبيعة، والاستقرار العاطفي، وتجنب القلق والندم، والكثير من الإيجابية، والابتعاد عن الأشخاص السامين".

باختصار: تبنيّ عقلية كبار السن يعني أن تنظر إلى الحياة من زاوية اللحظات الأخيرة؛ أي أن تعيد تقييم أولوياتك مقدّراً ما يستحق التقدير فعلاً، وممعناً النظر فيما يجعل الحياة ممتعة ومجزية.

المحتوى محمي