يعاني ملايين الناس من الاكتئاب، وذلك العدد الكبير في تزايد مستمر حتى بعد التقدم العلمي في الكثير من مجالات الصحة النفسية، وبصفة خاصة في الأبحاث التي تدرس ارتباط الاضطرابات النفسية بحيواتنا الشخصية وكيف نعيشها وماذا نأكل ونشرب وما مدى جودة نومنا. إذاً نحن الآن أمام سؤال: هل يساهم النظام الغذائي الصحي في تعزيز مقاومتنا للاكتئاب؟
أحياناً يتجه بعض المختصين النفسيين إلى توصية المصابين بالاكتئاب بتغيير بعض السلوكيات المتعلقة بما يطعمون أجسامهم، وذلك بغرض تجربة "العناية الشخصية" (Self-care) كحل أمثل إما مع الأدوية والعلاج النفسي (therapy) أو بدونهما.
فعلى سبيل المثال؛ إحدى القصص المنشورة مطلع العام 2020 وتحدثت بها الطبيبة والكاتبة مونيك تيلّو في تدوينتها لصالح موقع هيلث هارفارد بابليشينغ (Harvard Health Publishing) التابعة لكلية الطب بجامعة هارفارد، أكدت فيها أن العناية الشخصية من العلاجات الممكنة ولا تقل أهمية عن الأدوية والعلاج النفسي؛ بل أحياناً قد تتخطاهما من حيث الأثر.
وبموضوعية تامة؛ لا نستغرب أن يستحوذ النظام الغذائي الصحي على مكانة مهمة، فهو عنصر رئيس في الصحة النفسية والعقلية لدرجة أنه ألهم مجالاً كاملاً يسمى "الطب النفسي الغذائي" (Nutritional Psychiatry).
لذا يتجه البعض من المختصين من أمثال الدكتورة تيلّو إلى إيضاح دور ما يمكن عمله لمقاومة الاكتئاب بالغذاء الصحي، وهنا سنتعرف معاً أكثر إلى هذا الاتجاه المتصاعد والمبشّر لمن عانوا أو يعانون من حالات الاكتئاب وأعراضها المرضية.
ما الذي تخبرنا به المنشورات العلمية؟
بالعودة إلى مدونة الدكتورة تيلّو، فهي تخبرنا أن مجموعة من الباحثين وجدوا أن اتباع نظام غذائي صحي كان مرتبطاً بانخفاض ملحوظ في خطر الإصابة بأعراض الاكتئاب. فهل ذلك ممكن؟
في دراسة صينية نُشِرَت صيف العام 2017، وتمحورت حول دراسة العلاقة بين الأنماط الغذائية ومخاطر ظهور الاكتئاب، حلّل العلماء بيانات نحو 21 دراسة من 10 دول مختلفة؛ والتي تضمّنت ما يزيد عن نحو 117 ألف مشارك.
أوضح الباحثون أن النتائج التي توصّلوا إليها أكّدت الارتباط المهم بين الأنماط الغذائية وخطورة ظهور الاكتئاب، وقدمت معلومات يمكن ترجمتها إلى استراتيجيات وقائية لتقليل تأثير أضرار الاكتئاب الضخمة.
فقد وجد العلماء أن النمط الغذائي الذي يتضمن تناول كميات كبيرة من الفاكهة والخضروات والحبوب الكاملة والأسماك وزيت الزيتون ومنتجات الألبان قليلة الدسم ومضادات الأكسدة، إلى جانب تقليل تناول الأطعمة الحيوانية، ارتبط بانخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب.
وبصورة معاكسة؛ ارتبط النمط الغذائي الذي يتميّز باستهلاك مرتفع للحوم الحمراء أو المصنعة، والحبوب المكررة والحلويات ومنتجات الألبان عالية الدسم والزبدة والبطاطا والأطعمة عالية الدهون مع انخفاض ملحوظ لتناول الفواكه والخضروات بزيادة خطر الإصابة بالاكتئاب.
اقرأ أيضا:
نظام البحر الأبيض المتوسط الغذائي لمقاومة الاكتئاب
تصف حمية البحر الأبيض المتوسط (Mediterranean Diet) الأطعمة التقليدية التي اعتاد الناس تناولها في البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
وعلى الرغم من عدم وجود قواعد أو لوائح صارمة له، فإنه يتميّز عادةً بتناول الفاكهة والخضروات والحبوب الكاملة والبقوليات والمكسرات والبذور والدهون الصحية مع تقييد للأطعمة المصنعة والسكر المضاف والحبوب المكررة.
في دراسة أسترالية نُشِرَت لصالح مجلة "بايو ميد سنترال" (BMC) في بداية 2017، حلّل العلماء فيها أثر مقاومة الاكتئاب باستخدام نظام البحر الأبيض المتوسط الغذائي إلى جانب العلاج النفسي والأدوية، حيث أشارت النتائج إلى أن تطوير ما يحتويه نظام المشاركين الغذائي قد وفّر إستراتيجية علاج فعالة للاكتئاب، إلى جانب فوائده في إدارة بعض الأمراض الأخرى المزمنة.
وبصفة مماثلة، في مراجعة علمية حديثة نشرها فريق بحثي من جامعة فوجيا وجامعة ديجلي ستودي دي كالياري وجامعة نابولي فيدريكو الثاني الإيطالية بالتعاون مع معهد الطب النفسي في كينجز كوليج البريطانية صيف 2020، درس العلماء بيانات العديد من الدراسات العلمية السابقة لتقصّي أثر حمية البحر الأبيض المتوسط وفوائدها على الصحة العامة وبصفة خاصة الصحة النفسية والعقلية.
فقد أظهرت النتائج أن نظام البحر الأبيض المتوسط الغذائي ناجح في مقاومة الاكتئاب، حيث وجدوا له نتائج إيجابية في تحسين أعراض الاكتئاب ومعدلات الشفاء بمعيّة نظام غذائي صحي، إلى جانب أن الالتزام به كان عاملاً رئيساً في تعزيز النتائج العلاجية لدى مرضى الاكتئاب.
وعموماً، تكثر الأنظمة الغذائية الصحية التي تحتوي توصيات حول تناول أطعمة معينة دون غيرها أو تجنّب أطعمة مصنعة أو مكررة، إلّا أن المهم هو اتباع نظام غذائي صحي قليل التكلفة حتى يُستدَام مع الحرص أن يتناسب مع الخطوط العريضة عمّا نقصده بمصطلح "صحي".
ما الذي يمكننا فعله؟
بطبيعة الحال، قد تتعدد التفاصيل الخاصة بما يجب أكله وما يجب الحرص عليه من فيتامينات وغيره، وقد تجب زيارة مختص الطب النفسي ومختص في التغذية أو استشارة مختص في الطب النفسي الغذائي، إلا أن الصورة الشاملة هي ما نستطيع فهمه مما سبق.
تتوافق توصياتنا مع ما ورد فيما سبق، فعلى الإنسان الذي يسعى إلى مقاومة الاكتئاب وعلاماته المرضية والابتعاد قدر الإمكان عن الأطعمة المصنعة والمكررة وتناول أغذية صحية تعزز صحة جسمه وتحتوي ما يلي:
- الأطعمة الغنية بمضادات الأكسدة كالبروكلي والشوكولاتة الداكنة.
- كميات كبيرة من الفاكهة والخضروات.
- منتجات الألبان ومشتقاتها قليلة الدسم.
- الأسماك ونسب معتدلة من اللحوم الحمراء.
- الدهون الصحية وزيت الزيتون مع تجنّب الزيوت المصنعة.
- الحبوب الكاملة والبقوليات والبذور ونسب معتدلة من المكسرات.
ختاماً، يمكن أن يساهم النظام الغذائي الصحي في تعزيز مقاومتنا للاكتئاب، حيث يجب أن نسعى بشكل صحي لتحسين اختياراتنا الغذائية ما سينعكس بدوره على اتزان أجسامنا ومن ثَمَّ صحتنا النفسية والعقلية.
اقرأ أيضا: