ملخص: يتعمّق هذا المقال في حالة الملل المزمن الذي قد يصيب بعض الأشخاص، ويؤثّر في صحّتهم النفسية وقدرتهم على التركيز والانخراط في الأنشطة والمهمّات انخراطاً كاملاً.
محتويات المقال
تصف اختصاصية الطب النفسي رشا التميمي الملل بأنه حالة السكون التي يمرّ بها العقل؛ حيث لا يعاني فيها الشخص أيّ ضغوط أو احتراق وظيفي أو جسدي، وهي حالة مطلوبة علاجياً لكونها ترتبط بحالة اليقظة الذهنية المستخدَمة لإراحة العقل وصفاء الذهن في العلاج المعرفي السلوكي.
من ناحية أخرى مختلفة تماماً، يمكن أن يلقي الملل المزمن، وهو حالة غالباً ما يُتغاضى عنها ويُقلَّل من شأنها، بظلاله على حياة الإنسان، ويتركه محاصراً في حالة من البلادة والانفصال العاطفي. وعلى عكس لحظات الملل العابرة، يمكن أن يكون هذا الشعور المستمرّ مُنهكاً، فقد يؤدّي هذا النوع من الملل إلى أزمة نفسية وعاطفية تعرّض صاحبها إلى ألمٍ نفسي لا يُحتمل.
ما الذي يسبّب الملل المزمن؟
ينشأ الملل، وهو عاطفة شائعة، من عدم الرضا أو عدم الاهتمام بنشاط ما؛ ما يؤدّي إلى الشعور بالضجر. ويمكن أن يتجلّى هذا الشعور بعدم الراحة عندما تكون لدى الفرد طاقة وافرة لكن لا يوجد منفذ واضح لتوجيهها، أو عندما يصبح التركيز صعباً في أثناء محاولة الانخراط في مهمة أو نشاط.
يعاني الأطفال والمراهقون الملل على نحو كبير، وأحياناً ينبع ذلك من الصراع بين أفكارهم أو عواطفهم؛ ما يسبب الشعور بعدم الراحة. ويمكن أن يحدث الملل المزمن بسبب عوامل مختلفة وفق المعالجة والمحللة النفسية الأميركية، هيلاري هندل (Hilary Hendel)؛ وأهمها:
- الملل كآلية دفاع وقائية ضدّ الألم العاطفي: يمكن أن تؤدي التجارب الصادمة في مرحلة الطفولة مثل النشأة في أسرة فوضوية، إلى الشعور بعدم الأمان والمشاعر المتضاربة. وللتكيّف مع هذه المشكلة، قد يقمع العقل هذه المشاعر السيئة ما يؤدّي إلى الملل، وهنا تكون إعادة الاتصال بالعواطف المكبوتة أمراً ضرورياً للشفاء.
- الملل كعلامة على قلّة التحفيز: يشير الشعور بالملل في بعض الأحيان إلى الحاجة إلى التجديد والعثور على اهتمامات جديدة؛ لذا يمكن أن يساعد تحديد العقبات والبحث عن أنشطة جديدة على التغلّب على الملل.
- الملل يعوق الإدراك الذاتي للرغبات والاحتياجات: يمكن أن يمنع الملل الوصول إلى فهم رغبات الإنسان الحقيقية، وبخاصة إذا بدت غير قابلة للتحقيق؛ ما يسبب عدم الراحة العقلية والجسدية.
- الملل والتسويف والانسحاب: في بعض الحالات، يمكن أن يكون الملل مزيجاً من العوامل المذكورة سابقاً، وقد يظهر على هيئة مماطلة أو انسحاب، وهو موقف مُحزن لأن الفرد قد يرغب في التركيز لكنه يكافح بسبب مزيج من الملل والقلق.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يكون الملل مصدراً لإبداع طفلك؟
لماذا يزداد الملل بين مَن يعانون فرط الحركة وتشتّت الانتباه؟
ينشأ الملل عادةً عندما لا يجذب أي شيء في البيئة المحيطة اهتمام الشخص؛ حيث يمكن أن يؤثّر في كلّ من العقل والجسم مسبباً الأرق والتعب وتغيّرات المزاج.
وتؤدّي القدرة على التركيز والانخراط في الأنشطة دوراً مهماً في الملل؛ إذ يرتبط اضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه (ADHD) بمستويات أعلى من الملل؛ حيث يخشى الأشخاص المصابون به من الملل بصفة خاصة، وتكون تأدية المهمات معقّدة للغاية، فيقومون بأيّ شيء لتجنُّب تلك الحالة؛ مثل أن يتناولوا الطعام على الرغم من عدم شعورهم بالجوع، أو يفتعلوا الجدالات، أو ينخرطوا في سلوكات محفوفة بالمخاطر هروباً من الرتابة.
اكتئاب وسلوكات محفوفة بالمخاطر ترتبط بالملل المزمن
قد ينجم الملل المزمن عن انهيارٍ في فهم الإنسان لرغباته الحقيقية، ويمكن أن يسهم نقص الوعي الذاتي في هذا الشعور.
ويميل الرجال إلى أن يكونوا أكثر عرضة للملل مقارنة بالنساء، وقد ينخرطون في سلوكات محفوفة بالمخاطر، ويبحثون عن أشكال ترفيه أكثر خطورة، وأحياناً يفتقر الأفراد الذين يشعرون بالملل الشديد إلى القدرة على الترفيه عن أنفسهم؛ ما يدفعهم إلى أنشطة خطِرة مثل تعاطي المخدرات.
والأشخاص الذين يعانون الملل المزمن هم أيضاً أكثر عرضة لمشكلات مختلفة مثل الاكتئاب، والقلق، والإدمان، وضعف المهارات الاجتماعية.
من غرفة العلاج النفسي: قصص حقيقية لأشخاص عانوا تجاربَ مؤلمة
طوّرت سارة التي نشأت في بيئة أسرية فوضوية، موقفاً دفاعياً يتمثّل في عدم الاكتراث لحماية نفسها من الانزعاج العاطفي؛ ولكنّ آلية التكيّف هذه فصلت بينها وبين الشعور بالحيوية العاطفية؛ حيث صارعت شعوراً عميقاً بالملل وصفَته بالموت، ووجدت راحة مؤقّتة من خلال شرب الكحول.
في جلسات العلاج، اكتُشف الهدف الوقائي من تطوير سارة لهذه الآلية النفسية. ومن خلال تصوّرها الجزء المَلول من نفسها وتقبُّله، تمكّنت من معالجة المشاعر والصدمات الماضية؛ ما أدّى إلى استعادتها الحيوية والحماس للحياة.
وكذلك، علمت سارة أن انفصالها العاطفي السابق وعدم اكتراثها ساعد على حمايتها من شعور الأذى وخيبة الأمل؛ غير أن ذلك لم يَعُد ضرورياً لأنها أصبحت أقوى وأكثر قدرة على التعامل مع تحديّات الحياة، وتغلّبت على حالة الملل المؤلمة والمزمنة، وانخرطت على نحو أفضل في جوانب مختلفة من حياتها.
خضع شخص آخر يُدعى سامي لعلاج نفسي لشفاء الصدمات العاطفية الناتجة من نشأته مع أم مصابة باضطراب الشخصية النرجسية وأبٍ يحتقره؛ لكن سامي لاحظ شعوره بالملل بعدما بلغ حالة من الاسترخاء الذهني نتيجة العلاج، فعبّر عن شعورٍ غريبٍ من الرحابة الذهنية لم يعهده من قبل لأنه كان منهمكاً في الانفعال والتهيّج.
كيف تتجنَّب الملل المؤلم؟
في حالة الملل الذي شعر به سامي بعد العلاج، شجّعته المعالجة النفسية على التحاور والتعامل بفضول مع الجزء المَلول من نفسه؛ أي معاملته ككيان منفصل قائم بذاته. أدرك سامي من خلال هذه التقنية العلاجية أنه بحاجة إلى الانخراط على نحو أكبر في هواياته واهتماماته؛ ما ساعده على الشعور بالارتياح الفوري في أثناء استكشافه لأنشطة وطرائق جديدة للاعتناء بنفسه.
يمكن أن يمثّل الملل تحديّاً؛ ولكن مع اتباع نهج مبني على الفضول والرغبة في التعرّف إلى ذلك الجزء المَلول من النفس، يمكن للفرد استكشاف الأسباب الحقيقية الكامنة وراءه، فإذا كان الملل يشير إلى الحاجة إلى مزيد من الاهتمامات، يمكن وضع خطّة لخوض تجارب جديدة وإيجاد التوازن النفسي الصحيح.
أما إذا كان الملل دفاعاً ضد المشاعر والاحتياجات النفسية والعاطفية الأعمق، فمن الممكن الكشف عن هذه المشاعر ومعالجتها بطرائقَ آمنة وصحية، وإعادة الاتصال مع الذات؛ إلا أن وجود القلق بالتزامن مع شعور الملل الشديد أو المزمن قد يتطلّب مساعدة ودعم معالج نفسي ماهر يمنع المصاب من اللجوء إلى طرائق هروب مدمّرة للذات مثل تعاطي المخدرات.
وللتعامل مع الملل على نحو صحي، يمكن للأفراد أن يسألوا أنفسهم أسئلة محدّدة حول أسباب الملل والمحفّزات والاحتياجات؛ ما يمكّنهم من فهم هذه المشاعر الصعبة ومعالجتها بطريقة أفضل.
اقرأ أيضاً: كيف تتخلّص من التسويف؟
أخيراً، يمكن أن يكون الملل المزمن المؤلم عذاباً صامتاً يتسرّب إلى جوانب مختلفة من الحياة ويعوق النمو الشخصي؛ لذلك يُعدّ إدراك آثاره العميقة في الصحة النفسية أمراً بالغ الأهمية لمعالجة هذه المشكلة. ومن خلال فهم الأسباب الكامنة وتبنّي الأساليب الاستباقية لإحياء الحماس، يستطيع الأفراد إيجاد منفذٍ آمن من هذه الحالة النفسية، واستعادة التجدّد والفرح في حيواتهم.