العيش في سلام مع أحبائنا المتوفين هو القدرة على التعايش مع أفضل وأسوأ اللحظات التي تشاركناها مع أحبائنا المتوفّين، وإقامة أواصر التواطؤ والمحبة معهم. فأحياناً تلي فترة الشعور بالألم الحاد فترة تهدئة؛ بل تكون فترة بهجة أيضاً، فحتى بغياب جسد أحبائنا تبقى روابطنا بهم حيةً داخلنا.
"تكرر موقف ضحكي ووالدتي البارحة. أُجبِرت على الجلوس في مقصف الشركة والاستماع إلى امرأتين لا أعرفهما. كان حديثهما مملاً تطغى عليه العبارات المبتذلة والتفاهات، فبدأت أغفو بروية. قالت إحداهما خلال حديثها: "هذا مذهل!"، فتجسدت والدتي فجأةً أمامي وأخذت تضحك ضحكةً مطوّلةً لسبب لا يعلمه أحد سوانا".
هذا ما حدثتنا به سارة ذات الـ37 ربيعاً التي توفيت والدتها منذ خمس سنوات بسبب إصابتها بسرطان فتاك.
جعل الألم اليومي والحاد سارة جثةً هامدةً لا حياة فيها لمدة عامين. ثم، ومع مرور الأشهر، قلّ تواتر نوبات بكائها، ومع أن معاناتها من غياب والدتها لا تزال محسوسةً؛ إلا أنها تحولت إلى إحساس داخلي لطيف بحضور والدتها.
تُسِرّ لنا سارة اليوم بأنها تربطها علاقة حية بوالدتها؛ إذ تقول: "أشعر بقربها مني مبتهجةً ومهدئةً، على هيئة تواطؤ، وذلك ليس إنكاراً مني لوفاتها. يصعب شرح هذا وفهمه، كما أن أخي الأكبر وصفه بالأمر الغريب، ولم يجرؤ على وصفه "بالطفولي" أو "المرضي"؛ لكنه يبدو أمراً كهذا، لذا لا أخبر أحداً به".
أحياناً ليس من السهل إثارة مسألة علاقة المرء بشخص متوفىً في ثقافة تعرّف "الحداد" بإخفاء المرء لحزنه بأقصر مدة ممكنة، و"أن يكون إيجابياً" حتى لا يزعج الأحياء والأصحاء حوله.
كتب عالم النفس توبي ناثان في أحدث كتبه: "تفسير الأحلام الجديد" (The New Interpretation of Dreams) (دار "أوديل جاكوب"2011): "لقد خسرنا معظم قدرتنا على تخيل الموتى ووجودهم ومستقبلهم".
قبل أن يضيف أن: "التأثير الوحيد للموتى الذي نسلّم بوجوده هو تلك المشاعر التي تراود الناجين؛ لكننا نعتبرها إشارة إلى اتكال وهمي لبقايا طفل في قلب شخص بالغ".
مسيرة التقبُّل الطويلة
تعني قدرة المرء على بناء علاقة مع موت "الفرد" أنه قد خرج من حالة الحداد، كلٌّ خلال مدة معينة.
توضح المعالجة النفسية نادين بوثواسيه المتخصصة في دعم الناجين، ومؤلفة كتاب "مئة إجابة عن أسئلة عن الحداد والحزن" (One Hundred Answers to Questions on Mourning and Grief) (دار "ألبين ميشيل"، 2010): "سيواجه المفجوعون لفقد أحبائهم مشاعرهم لأسابيع أو شهور أو سنوات. سيصبح المرء عند نهاية هذه الفترة المؤلمة من الحداد التي لا يمر بها إلا مرةً واحدةً في جميع الحالات، سواءً كانت دائمةً أو متقطعة، منفتحاً على التصالح مع الحياة".
وتبين المعالجة النفسية أن المسألة ليست تقبلاً للخسارة، فخسارة أحد الأحباء في جوهرها لا يمكن تقبلها؛ بل هي مسألة "تقبُّل ما حدث، والرضا به، والتصالح معه". ستولد من هذه النزعة الداخلية علاقة جديدة بالموت، والحياة.
تتابع نادين بوثواسيه: "يستبدل الحضور الداخلي للمتوفى غيابه الخارجي"، ولا يكون سبب ذلك أننا ما زلنا نحِنّ إلى المتوفى، أو أن فترة الحداد لم تنتهِ، أو أن أمراً خاطئاً يحدث.
فقدت مريم البالغة من العمر 51 عاماً ابنها ذا الـ17 سنة منذ ثلاثة عشر عاماً في حادث دراجة نارية.
تقول: "بدأت برفض تناول مضادات الاكتئاب لأنني لم أشأ كبت معاناتي؛ إذ كان سيتكون لدي انطباع بانقطاع الرابط بيني وبينه. تركت غرفته على حالها، وأخبرني زوجي أن ذلك تصرف غير سليم؛ لكني تمسكت بقراري. واصلت الاحتفال بعيد ميلاده، ومع أن هذا في البداية كان مروعاً؛ إلا أنه أصبح الآن احتفالاً عائلياً سعيداً. كنت أشعر أن كل هذه التصرفات ساهمت في إبقاء سمير حياً بيننا. يذكُره أبناء ابنتي ويتحدثون عن إنجازاته الرياضية، هو موجود بيننا حقاً".
سواءً بالعيش مع المتوفى أو الاحتفاظ بآثاره عندما كان حياً، أو التحدث عنه أو معه. تنبه "نادين بوثواسيه" بقولها: "الجميع يبذل قصارى جهده لرأب جرحه؛ لكن ما يهم هو الإصغاء إلى احتياجاته وعدم اتباع النصائح الجيدة الزائفة المتمثلة بتناسي الذكريات، وعدم الحديث عن الميت؛ والتي يمكننا اختصارها بعبارة طيّ صفحته. هي أفكار "نفسية" زائفة تولد المعاناة وتزيد الشعور بالذنب والأسى".
علاقات غير مكتملة في بعض الأحيان
الحقيقة الأخرى التي يتعلمها الناجون، أحياناً بطريقة مؤلمة جداً، هي أن العلاقة التي تربط المرء بالمتوفى لا تختفي بغيابه.
تشير عالمة النفس ماري فريديريك باكيه إلى أن: "خلافاتنا مع أحبائنا وتناقض مشاعرنا لا يتلاشى بموتهم؛ بل يبقى على حاله ويؤرق مضاجعنا، ومن الأمثلة على هذه الحالات وفاة أحد والديّ مراهق متمرد، أو وفاة أحد الزوجين المطلقين، أو وفاة أخ أو أخت شخص بالغ على خلاف مع إخوته، وغير ذلك".
كيف نتعامل مع ذلك دون أن يغرقنا إحساسنا بالذنب، وفورة عواطفنا المتضاربة؟ تشير العالمة والمحللة النفسية أننا أحياناً لا ندرك إحساسنا بهذه المشاعر وتكون في اللا وعي، "ثم تتجلى برؤيتنا لأحلام" مشكوك بأمرها ومزعجة جداً.
كما يمكن أن يتجلى إحساسنا بالعلاقة السلبية أو المتعارضة مع المتوفى بضيق وحزن عميق يجتاحنا.
تمثل عيوب الاستيعاب الداخلي هذه موضوع معظم طلبات الاستشارة. يفهم الشخص في جلسات العلاج أو التحليل أنه قادر على إصلاح علاقته مع المتوفى، وهذا يقلب جميع الموازين بالنسبة له.
ويزيد تأثير هذا الأمر عندما لا يكون هناك تواصل بين طالب الاستشارة والمتوفى قبل وفاته. قاسى لؤي ذو الـ38 عاماً، بعد عامين من التحليل، تأثير وفاة عمه الأكبر (أخي والده) عليه، الذي توفي في شمال إفريقيا بعد عام من ولادته.
إذ يقول: "كان مهندساً مثلي، ومضطرباً عاطفياً مثلي، وكان الشبه في الشكل كبير بيننا. لقد تقصيت في شؤون الأسرة قليلاً، وأعتقد أن الشبه لهذا الحد نتيجة العلاقات المتشابكة فيها. وعلى أي حال؛ كنت أرى هذا العم دائماً ملاكي الحارس، وأثق به؛ لكنني لم أعد أشعر بأنني ملزم بتكرار مصيره بصفته مغامراً مخاطراً نوعاً ما".
طاقة حيوية
تنطبق الأفكار نفسها في الروابط مع الموتى على الروابط مع الأحياء؛ إذ تكون العلاقة منصفة وسليمة وسلمية بيننا وبين الآخرين عندما نكمّل بعضنا ونتقبل عيوبهم وصفاتهم، وهذا تغير جذري في المشاعر.
تتابع ماري فريديريك باكيه: "يمكننا بعد ذلك التحدث عن استيعاب داخلي جيد للمتوفى". هذا ثمرة مرحلة حداد كاملة، استعرض المرء خلالها جميع أركان العلاقة، وتوصل فيها إلى استنتاج بأننا أخفينا شيئاً عن الشخص الغائب أتاح لنا، أو يتيح لنا، بناء أنفسنا.
"الصفات والقيم، وأحياناً الأمثلة المضادة، هي طاقة حيوية تواصل التدفق من جيل إلى جيل. يقول أوس ذو الـ45 عاماً: "لا تزال نزاهة والدي وروحه المكافحة موجودةً بداخلي كشريان الحياة. صدمتني وفاته قبل ست سنوات وتركتني عاجزاً، ثم عدت إلى الحياة عندما بدأت أشعر أن جوهرها وقيمها موجودون وحاضرون فعلاً".
كما أن التغييرات في الحياة هي مراحل عصيبة على المفجوعين؛ لكنها تهون عندما تهدأ صلتهم بموت أحبائهم وتتجدد؛ إذ يشتد ألم الغياب عند الانتقال أو الترقية أو الزواج أو الطلاق أو الولادة.
إن حديثهم عن المتوفين واستحضارهم لهم في تلك اللحظات، وجعلهم جزءاً من الحدث، يصبح بالنسبة للكثيرين إعلاناً عن المحبة، تجاه المتوفى الغالي على قلوبهم، والحياة.