ملخص: هل تعرف أن 50% من الوقت الذي نقضيه على أداء مهامنا خلال اليوم ينقضي بالتفكير بعيداً عن المهمة التي بين أيدينا، وخصوصاً إذا كانت مهمة طويلة؟ ذلك بحسب دراسة حديثة لجامعة ميامي (University of Miami). على الجانب الآخر، يقول مؤلف كتاب "تجول العقل" (Mindwandering)، موشيه بار (Moshe Bar): "إن الإبداع يتطلب شروداً ذهنياً واسعاً وموسعاً". فكيف يمكن أن يساعدنا الشرود الذهني الإيجابي على تحسين صحتنا النفسية وتطوير أفكارنا الإبداعية؟
محتويات المقال
كم مرة توقفت عن أداء مهام عملك وبدأت استرجاع ذكرياتك السعيدة عن إجازتك الماضية عندما كنت بعيداً عن ضغوط الحياة اليومية في أحد الشواطئ؟ كم مرة سرحت بتفكيرك بأحداث فيلم شاهدته مؤخراً وأنت تستمع إلى النقاشات في اجتماع عمل معين؟ كم مرة فكرت بسهرة مع الأصدقاء وأنت تقود سيارتك إلى العمل؟ هل تعرف أن 50% من الوقت الذي نقضيه على أداء مهامنا خلال اليوم ينقضي بالتفكير بعيداً عن المهمة التي بين أيدينا، وخصوصاً إذا كانت مهمة طويلة أو مملة؟ ذلك بحسب دراسة حديثة أجرتها جامعة ميامي (University of Miami). فهل يمكن أن يساعدنا شرودنا الذهني على تحسين صحتنا النفسية وزيادة إبداعنا؟
ما هو الشرود الذهني؟
يُعدّ الشرود الذهني، أو "التشتت الذهني" (mind-wandering) كما يُعرَف، ظاهرة طبيعية تُشكل جزءاً كبيراً من ساعات يقظتنا؛ إذ أكدت دراسة أجرتها جامعة هارفارد أن الإنسان يقضي 46.9% من ساعات يقظته في التفكير بعيداً عن واقع الحياة التي يعيشها.
ولا يمكن عَدّ الشرود الذهني عارضاً صحياً؛ بل ربما هو أقرب إلى أن أن يكون عادة ذهنية، بحسب ما يؤكده الطبيب النفسي محمد اليوسف. فبعض الأشخاص يعوّدون عقولهم على الانفصال المؤقت عن الواقع بسبب تعرضهم إلى صدمة عاطفية جعلتهم يبتكرون هذا الأسلوب للحفاظ على سلامتهم.
هل ثمة فرق بين الشرود الذهني وأحلام اليقظة؟
يُعبّر كل من الشرود الذهني وأحلام اليقظة عن حالة عدم الانتباه (Inattention)، ويساعدك فهم الفرق بين الشرود الذهني وأحلام اليقظة على إدارة أفكارك بأسلوب أفضل وتحقيق أقصى استفادة من قدراتك الذهنية.
بدايةً، يرتبط الشرود الذهني بتوليد الأفكار داخل العقل التي تكون بعيدة عن المهمة التي تعمل عليها في الوقت الحالي، وأبرز مثال يمكننا طرحه في هذا السياق هو الشرود الذهني في أثناء قيادة السيارة، فأنت تقود سيارتك وعقلك يفكر في موعد العشاء ونوع الطعام الذي ستتناوله؛ لكن إذا ما وجدت إشارة ضوئية تضطرك للوقوف، ستقف مباشرة ويعود عقلك من شروده للعالم الحقيقي.
أما مع أحلام اليقظة، فالأمر يتطلب بذل المزيد من الجهد حتى تعود إلى العالم الحقيقي، فعلى سبيل المثال؛ إذا كنت منخرطاً في التفكير بخطوة مهنية جديدة واتصلَ بك شخص ما، قد يستغرق الأمر بضع رنات قبل أن تنتبه بالفعل إلى هاتفك، وربما لن تنتبه إليه. بمعنىً آخر، انغماس ذهنك بأحلام اليقظة يكون أكبر من الانغماس في حالة الشرود الذهني.
اقرأ أيضاً: ما الذي يجعلك تنغمس في أحلام اليقظة؟ وكيف تتخلص منها؟
متى يعد الشرود الذهني ضاراً؟
تشير دراسة أجراها الباحثان شاولان سونغ (Xiaolan Song) وشاو وانغ (Xiao Wang) في معهد كرانسو للدراسات المتقدمة (Krasnow Institute for Advanced Study) في جامعة جورج ماسون الأميركية (George Mason University)، إلى أن الشرود الذهني يؤدي دوراً مهماً في مساعدة الأشخاص في الحفاظ على شعورهم المستمر بذواتهم وتجهزهم للتعامل مع متغيرات الحياة المقبلة. لكن متى يصبح ضاراً؟
يؤدي انغماسك في الشرود الذهني المفرط إلى الوصول لحالة أحلام اليقظة التي تجعلك بعيداً عن واقعك؛ ما يؤدي إلى تشتيتك وضياع المزيد من الوقت على أعمالك اليومية، وفي حالة أخرى، ربما يُبعدك عن الانتباه إلى معلومات مهمة ومفيدة في حياتك. على سبيل المثال؛ قد يؤدي إلى اضطرابات في التعلم عند الطلاب إذا ما انخرطوا في الشرود الذهني على نحو مفرط في أثناء حصة دراسية أو ندوة تعليمية عن طريق الإنترنت؛ ما يؤدي إلى خسارتهم للبنة مهمة في طريق علمهم.
كما قد يتسبب الشرود الذهني في حدوث مخاطر حياتية جسيمة، فعندما تفكر في الخلاف الذي حصل بينك وبين شريكك وأنت تقود السيارة قد يتسبب شرودك ولو لثوانٍ قليلة إلى حادث أليم وغير متوقع. وعندما يزيد الشرود الذهني عن حده ويصبح مفرطاً، فربما يكون علامة على الإصابة ببعض اضطرابات الصحة النفسية مثل القلق أو الانفصال عن الواقع أو الأرق أو انخفاض احترام الذات.
اقرأ أيضاً: كيف تحسّن تركيزك وتتفادى الشرود الذهني؟
تعرف إلى الفوائد المذهلة للشرود الذهني
يؤدي الشرود الذهني دوراً مؤثراً في تعزيز الإبداع وحل المشكلات وزيادة القدرة على التعلم. وهذا ما يؤكده مختص العلوم السلوكية والاجتماعية، محمد الحاجي؛ حيث يقول: "إن معظم الأفكار الملهمة والإبداعية تأتينا في حالات الشرود الذهني، خاصة قبل النوم".
وليس من الضروري أن تكون هذه الأفكار إبداعية لدرجة (كتابة أغنية أو تأليف قصيدة)، ربما تكون الفكرة التي يولدها عقلك عبارة عن خطة للمستقبل أو طريقة لحل مشكلة مستعصية في العمل أو أسلوب أفضل للتعامل مع شريكك في المنزل. عندما تترك عقلك يهيم بحثاً عن الإلهام، يمكن أن يقودك إلى فوائد مذهلة؛ وإليك أهمها:
- القضاء على الملل: يوفر الشرود الذهني الفرصة لأخذ استراحة ينطلق فيها ذهنك بعيداً في أثناء أداء المهام الرتيبة. فإذا كنت لا تستمتع بغسل الأطباق، فكر في وضع خطة لعطلة نهاية الأسبوع المقبلة في أثناء ذلك، وستجد أنك انتهيت من هذه المهمة الروتينية من دون الشعور بالملل.
- تحفيز التفكير الإبداعي: يقول المدير السابق لمختبر علم الأعصاب الإدراكي في كلية الطب بجامعة هارفارد ومستشفى ماساتشوستس العام ومؤلف كتاب "تجول العقل" (Mindwandering)، موشيه بار (Moshe Bar): "إن الإبداع يتطلب شروداً ذهنياً واسعاً وموسعاً"؛ إذ إننا في أثناء التفكير الإبداعي، نبحث في شبكة ذكرياتنا عن الحلول بحسب تجاربنا السابقة.
بمعنىً آخر، يعتمد التفكير الإبداعي على عملية تسمَّى "الحضانة" (Incubation)؛ حيث تُوَلَّد أفكار جديدة داخل الدماغ ثم يُعمل على تقييمها. ويوضح بار إن الشرود الذهني والخلايا العصبية المرتبطة بهذه العملية التي تسمَّى "شبكة الوضع الافتراضي للدماغ" (the brain’s default-mode network)، هي المكان الذي تحدث فيه مثل هذه الحضانة الإبداعية.
- فرصة للتفكير في المستقبل: يمكن أن يوفر الشرود الذهني الفرصة للتفكير والتخطيط للأهداف المستقبلية، سواء أَكانت القريبة أم البعيدة؛ الكبيرة أم الصغيرة. على سبيل المثال؛ ما هي الخطوات التي يجب عليّ اتخاذها للحصول على وظيفة بعد التخرج؟
- تحسين الحالة المزاجية: وفقاً لبحث أجرته جامعة كاليفورنيا في بيركلي (University of California)؛ فإن تجاهل بيئتنا الخارجية والسماح لأفكارنا الداخلية بالتحرك بحرية وإبداع، حتى ولو فترات قصيرة، يعزز القدرة على الاسترخاء والاستكشاف ويساعد على تحسين المزاج.
- تعزيز المرونة المعرفية: تشير المرونة المعرفية أو التحول المعرفي إلى قدرة عقلك على التكيف مع المواقف الجديدة أو المختلفة. وبحسب دراسة حديثة نُشرت في مجلة أبحاث علم النفس (Psychology Research journal)؛ فإن الميل إلى الشرود الذهني يرتبط ارتباطاً وثيقاً بزيادة المرونة المعرفية.
- رفع الإنتاجية الفردية: تشير المعالجة النفسية كريستينا فيرنفال (Christina Furnival) إلى أن الشرود الذهني فترات قصيرة يساعدك على زيادة إنتاجيتك من خلال إعطاء استراحة من المهمة التي تعمل عليها في الوقت الحالي؛ ما يجعلك أفضل عند استئنافها وتتمكن من التركيز على إنجازها مرة أخرى.
- تقوية العلاقات العاطفية: يمكن للشرود الذهني أن يساعدك على حل الخلافات مع الشريك. وبحسب فيرنفال؛ فإن ممارسة الحوارات والمحادثات الخيالية في حالات الشرود الذهني تتيح لك التحدث عن نفسك أو الاستجابة للمواجهة على نحو صحي. وفي السياق نفسه، تؤكد دراسة حديثة منشورة في دورية النشرة النفسية (Psychological Bulletin) حول تأثير الشرود الذهني في الصحة العقلية، أن تفكيرك بالأفكار الإيجابية حول شريكك (على سبيل المثال؛ التفكير في عطلة رائعة قضيتها أنت وشريك حياتك)، يؤثر إيجاباً في صحتك العاطفية ويقوي علاقتك العاطفية مع شريكك.
اقرأ أيضاً: أحلام اليقظة ممارسة ذهنية إيجابية وإليك الأسباب
كيف تزيد أوقات شرودك الذهني وتجعلها مثمرة؟
ثمة العديد من التدابير التي تساعدك على استثمار شرودك العقلي في تطوير ذاتك وتحقيق الفوائد التي تحدثنا عنها آنفاً. تقول الطبيبة النفسية إليزابيث نثيرتون (Elisabeth Netherton): "لا تفكر أن الشرود الذهني أمر صعب؛ يكفي السماح لعقلك بأن يتمتع بمزيد من الحرية فقط للوصول إليه". ويمكنك تحقيق ذلك باتباع النصائح الآتية:
- خصص وقتاً محدداً للشرود الذهني: عند التخطيط المسبق للشرود الذهني، يمكنك تحويله من مصدر إلهاء إلى قوة تدفعك إلى توليد الأفكار. ويمكنك تطوير نفسك في استغلال شرود العقل ليكون أداة لإعمال عقلك على نحو إبداعي وذلك عبر تخصيص وقت محدد يومياً، ولو بضع دقائق قليلة تقضيها في التأمل والاسترخاء؛ ما يساعدك على معالجة القضايا المستعصية في العمل والحياة الشخصية.
- ضع هاتفك جانباً. يشير بحث نشرته الجمعية الأميركية لعلم النفس (American Psychological Association)، إلى أن إبعادك الهاتف يساعد عقلك على الشرود الذهني الإيجابي، فإمساكنا الهواتف بين الحين والآخر يمنع عقولنا من الشرود الذهني الذي يؤدي إلى توليد الأفكار الإبداعية.
- مارس الأعمال الروتينية مع تجنب المهام المتعددة: إن تأديتك فعلاً يجعل يديك مشغولتين من دون توتر يمكن أن يساعدك على الوصول إلى حالة الشرود الذهني الصحيحة. وذلك ينجح أكثر مع الأعمال الروتينية ذات الحركات المعتادة مثل تمرين رياضي تفعله كل يوم، بشرط ألا يكون هناك أي ضغط للانتهاء في وقت محدد.
- كن واعياً لحالات الشرود الذهني: إن وعيك بالشرود الذهني يساعدك على ملاحظة الأفكار التي تتدفق داخل عقلك وجعلها أفكاراً إبداعية تُمكن الاستفادة منها. وسيفيدك حمل مذكرة صغيرة في جيبك أو وضعها إلى جانب سريرك قبل النوم لتدوين بها الأفكار عند تدفقها في عقلك لتضمن عدم نسيانها لاحقاً. أما إذا شعرت أن الوقت غير مناسب لشرود ذهنك، فيساعدك وعيك بالأمر على إعادة انتباهك إلى المهمة التي بين يديك.
اقرأ أيضاً: 5 فوائد لأحلام اليقظة من منظور علم النفس، تعرف إليها
أخيراً، جميعنا نسعد عند سماع قصص الإلهام المفاجئ التي تعتمد على الشرود الذهني الإيجابي على غرار قصة نيوتن والتفاحة؛ لكن هذه القصص لا تقدم نصائح عملية حول كيفية إنتاج الأفكار الإبداعية التي تساعدك على تحسين حياتك. لذلك؛ لا بد لك من خطوات عملية تساعدك على استغلال الشرود الذهني في تطوير ذاتك. نأمل أن تساعدك التقنيات المذكورة أعلاه على تطوير ذاتك واستغلال حالة الشرود الذهني في إنتاج أفكار تسهل عليك حياتك وتطورها.