5 فوائد لأحلام اليقظة من منظور علم النفس، تعرف إليها

ممارسة أحلام اليقظة
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ليس شرود الذهن والاستغراق في ممارسة أحلام اليقظة مضيعة للوقت كما يُعتقد؛ بل على العكس فهذه الممارسة تساعدنا على إدراك رغباتنا وأهدافنا في الحياة وتطلعنا على دواخلنا كما أنها طريقة فريدة لتحفيز الفكر.
استلقيتَ في إحدى الليالي على سريرك لتنام ورغم شعوركَ بالنعاس فإنك لم تتمكن من ذلك وتملكتك حالة من الأرق، ولتساعد نفسك على الاسترخاء بدأت بتخيل مشهد محبب، فها أنت تتجول في المنزل الذي تحلم بامتلاكه رفقة زوجتك المستقبلية، أو ربما سرحت بخيالك أبعد من ذلك، فرأيت نفسك وقد امتلكت القدرة على العيش فوق سطح القمر! وفي صباح اليوم التالي وبينما أنت في مكتبك يأخذك خيالك بعيداً مرة أخرى، فها أنت تستقبل التهاني من زملائك على المشروع الناجح الذي قدمته إلى الإدارة، يالَ روعة المشهد!

تُسمى هذه الممارسة أحلام اليقظة، وقد يستغرق فيها الإنسان أحياناً إلى حد الانفصال عن محيطه تماماً وعندما يسأله من حوله عن سبب شروده سيتهرب من الإجابة، فرغم شيوع أحلام اليقظة على نحو كبير فإنها تُعد حالةً شديدة الخصوصية بالنسبة إلى من يستغرقون فيها. في استطلاع أجرته جامعة مينيسوتا (University of Minnesota) في الولايات المتحدة الأميركية مؤخراً، قال 80% من المشاركين إنّ التحدث عن مواقف محرجة تعرضوا لها أسهل كثيراً من الكشف عن أحلام اليقظة التي يستغرقون فيها.

يمكن لأي شيء حولنا أن يحفز أحلام اليقظة لدينا؛ كسماع عبارة أو قراءة كلمة أو رؤية غرض ما، وغير ذلك. تستمع لبنى مثلاً إلى صديقتها نجوى وهي تسرد لها تفاصيل خلافها الأخير مع زوجها، فتبدأ لبنى بتخيل رد فعل زوجها في موقف مشابه.

طريقة للتعلم من التجارب السابقة

إذاً هل أحلام اليقظة مجرد مضيعة للوقت أم طريقة لتعزيز المخيلة ومن ثم الإبداع؟ وفقاً لدراسة في علم النفس، فإن أحلام اليقظة تستحوذ على نصف نشاط الإنسان الذهني وثمة مبرر لذلك؛ إذ إن لها دوراً جوهرياً في مساعدة الإنسان على تحقيق أهدافه والكشف عن تطلعاته ورغباته وحتى مخاوفه الدفينة، ويوضح أستاذ علم النفس بجامعة مينيسوتا، إريك كلينغر (Eric Klinger) قائلاً: “على الرغم من أن أحلام اليقظة قد تبدو حالة من التناقض فإنها تسمح بتنظيم الذات، ذلك أن هذه الأفكار الغريبة والمشوشة تساعد الفرد على ترتيب خططه الحياتية وتحليل التجارب السابقة وتعلّمِ دروس للمستقبل”.

عندما يتخيل الفرد أحداثاً إيجابية كانتقاله للتو إلى منزله الجديد مثلاً فإن ذلك يعزز ثقته بنفسه ويحسّن أداءه، أما إعادة قولبة الأفكار المرتبطة بالأحداث السلبية (كالزواج الذي انتهى بالانفصال مثلاً) فتساعده على تعديل سلوكه إذا واجه موقفاً مشابهاً في المستقبل.

أحلام اليقظة تعزز شعورنا بالسيطرة

ما الذي تخفيه أحلام اليقظة الفجائية التي تستمر لمدة 14 ثانية في المتوسط؟ يقول إريك كلينغر: “إنها حالة فريدة لكل شخص، وبصورة عامة تستحضر أحلام اليقظة رغبات الإنسان وأهدافه التي يعرفها مسبقاً دون أن تقدم له معلومات جديدة لكن لهذه الأفكار التي تجول في ذهنه أهمية كبيرة لأنها تمثل حالة من التواصل مع الذات”.

خلال هذه اللحظات التي ينفصل فيها الإنسان عن الحاضر تتزايد قدرته على استقبال الأفكار من اللاوعي ولذلك فإن عليه ألا يأخذ أحلام اليقظة في ظاهرها بل يبحث عن دلالاتها الحقيقية الخفية، وبمعنىً آخر: لا تأخذ تفاصيل حلمك اليقظ بحرفيتها. تتخيلين مثلاً أنكِ تحضرين مناسبة ما وتجذبين أنظار الحضور لكن هذا لا يعني أنكِ تحبين قضاء حياتك في حضور المناسبات بل يعكس رغبتك في الاعتناء بمظهرك والحصول على تقدير الآخرين.

على الرغم من اختلاف سيناريوهات أحلام اليقظة من شخص لآخر فإنها تتمحور حول موضوعين رئيسيين يشترك بهما الحالمون كلهم وهما حالة “البطل المنتصر” أو “الضحية المظلومة”. ووفقاً للاستطلاعات، فإن الرجل أكثر ميلاً إلى تخيل نفسه في الحالة الأولى، في حين تتبنى المرأة غالباً الحالة الثانية (حالة الضحية) لأن أحلامها تتمحور أكثر حول عواطفها. في سيناريو البطل المنتصر يرى الشخص نفسه رائعاً فيخوض مواجهات مع أكبر مخاوفه كالطيران أو التسلق مثلاً وتنتهي دائماً بانتصاره عليها. أما سيناريو الضحية المظلومة فيرتبط بشعور الشخص بأنه مستَبعد اجتماعياً أو أن من حوله يسيئون فهمه، ثم ينتهي الحلم بشعور هؤلاء بالندم على تصرفاتهم تجاهه والاعتراف بأنه شخص استثنائي، وتكشف هذه التخيلات كلها عن الرغبة في السيطرة أو التغلب على مواقف الحياة اليومية المرهقة نفسياً.

أحلام اليقظة تمنحنا سلاماً داخلياً

يقول المدرب ومختص علم النفس البريطاني كليف أرنال (Cliff Arnall): “تمثل أحلام اليقظة طريقة للهروب من لحظات التوتر أو الإحباط أو السأم التي يفرضها الواقع على الإنسان، فيرسم عالماً مثالياً في ذهنه ويتخذ منه ملاذاً له، لذلك فإن تكرار هذه الأحلام قد يشير ربما إلى أن الوقت قد حان ليجري تغييراً ما على حياته ليس كبيراً بالضرورة؛ بل يمكن أن يكون مثلاً البدء بممارسة نشاط يرفع معنوياته ويُشعره بالتقدير الذي يبحث عنه.

إضافةً إلى كل ما سبق ذكره، فإن لأحلام اليقظة دوراً علاجياً فهذه السيناريوهات التي يتخيلها المرء في ذهنه قد تعدّل مزاجه مثلاً أو تساعده على الاسترخاء أو حتى ترفه عنه، ولذلك فإن هذه التخيلات التي تمنحه شعوراً بالأمان والسعادة ستعينه على التأقلم مع مواقف الحياة التي لا يمكنه تغييرها بسهولة، وتوضح كوثر ذات الـ 40 عاماً إنها تستغرق كثيراً في أحلام اليقظة وتقول: “كانت حياتي في المنزل في مرحلة المراهقة مصدر معاناة لي فقد كان والدي حاد الطباع ويتشاجر مع والدتي معظم الوقت وشيئاً فشيئاً أجبرني ذلك على ابتكار حلم يقظ كنت أرى فيه دائماً أنني غادرت المنزل ثم أثريت حلمي هذا بالتفاصيل حتى أنني تخيلت موقع كل مأخذ كهربائي في المنزل الذي سأعيش فيه وحدي، وستائر الغرف والإطلالة من نوافذها، كانت تلك وسيلتي لاستبدال منزلي الموحش بآخر مريح وسعيد وحتى اليوم أتخيل هذا المنزل كلما شعرتُ بالتوتر”.

ويمكن لأحلام اليقظة أن تكون مبهجة وممتعة، أو على العكس من ذلك مصحوبة بمشاعر سلبية كالشعور بالذنب أو الكآبة أو الخوف من الفشل، ويتوقف ذلك على الحالة المزاجية للشخص وظروفه الحياتية، ويوضح كليف أرنال قائلاً: “ولكن تخيل المواقف السلبية لا يعني بالضرورة أن الشخص يشعر بالقلق، فهي وسيلة يستعرض من خلالها الأحداث في ذهنه ليرى كيف يمكنه العمل على تحسين حياته واكتشاف سبل جديدة لذلك؛ لكن إذا كانت الأفكار السلبية هي المسيطرة فقط فإن ذلك سيحرمه من الطمأنينة اللازمة لإدارة عواطفه وبدلاً من أن تساعده أحلامه على التنفيس عن مشاعر الغضب مثلاً، ستؤدي إلى تراكمها والحل في هذه الحالة استحضار أفكار تساعده على الاسترخاء وتهدئ توتراته”.

أحلام اليقظة تنمي الإبداع

يستغرق المراهقون والأطفال في أحلام اليقظة أكثر من البالغين فهي طريقتهم لاكتشاف أوجه الذات المتعددة وجوانب الحياة المختلفة ومع خوض التجارب والنضج تصبح أهداف الإنسان أكثر تحديداً والطريق إليها أكثر وضوحاً وتحتاج وقتاً أقل للتفكير فيها ودراستها حتى لو كان المستقبل يشغل ذهنه على الدوام.

ومن جهة أخرى فإن الفكر يتطور مع التقدم في العمر وتقل تخيلات الإنسان حول قصص الحب والبطولات؛ كما تقل معها أيضاً الأفكار العدائية فلا تشغل أكثر من 1% من ذهنه، ومثالها تلك التي يتخيل الطفل أو المراهق خلالها نفسه وهو ينهال بوابل من الشتائم أو اللكمات على الشخص الذي أهانه.

قد يستغرق أشخاص في أحلام اليقظة أكثر من غيرهم ولكنها ليست دلالةً على انفصالهم عن الواقع إذ أظهر بحث أنهم ليسوا أقل إنتاجية من الأشخاص الذين يتسمون بأنهم أكثر واقعية، حتى أنهم قد يكونون أكثر إبداعاً. إضافةً إلى ذلك، اكتشف الباحث النفسي جيروم سينجر (Jérôme L. Singer) أن الأطفال ذوي الخيال الخصب للغاية كانوا أقل عدوانية، وأكثر قدرةً على إدارة عواطفهم وسلوكياتهم وأكثر تعاطفاً مع الآخرين. لكننا قد نتساءل: ما الحال بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يستغرقون مطلقاً في أحلام اليقظة؟ يتمتع هؤلاء بشخصية أكثر واقعية فهم اعتادوا أن يخططوا لكل ما ينوون فعله، وعدم استغراقهم في أحلام اليقظة لا يعوقهم عن تحقيق النجاح.

أحلام اليقظة تجدد الطاقة النفسية

تمثل أحلام اليقظة نوعاً من التمرد اللطيف على ثقافة المجتمع التي تحثنا على تعزيز الكفاءة والأداء باستمرار وهي لا تتعارض مع فكرة اغتنام كل لحظة في حياتنا لأنها مماثلة للأوقات التي ننفصل فيها عن العمل لنمارس نشاطاً يساعدنا على تجديد الروح واستعادة الطاقة لننطلق مرةً أخرى. يساعدنا الاستغراق في حالة التوسط بين الصحو والنوم هذه على الخوض في دواخلنا وفهم أنفسنا ورغباتنا، فهذه اللحظات التي يطوف خلالها الإنسان بين الواقع والحلم وتختلط فيها ذكرياته بتخيلاته تثري نفسه وتسمح له بإدراك تفرده وتعقيده، ونختتم هنا بكلام الفيلسوف ومؤلف كتاب “شاعرية أحلام اليقظة” (La Poétique de la rêverie)، غاستون باشلار (Gaston Bachelard) عن ما سماه “أحلام اليقظة الكونية” التي يرى أنّ لها بعداً روحياً: “تبعدنا أحلام اليقظة الكونية عن أحلام اليقظة ذات الهدف وتضعنا ضمن عالم لا ضمن مجتمع؛ إنها حالة من الاستقرار والسكينة تستحق كل لحظة نقضيها فيها”.

المحتوى محمي !!