غيّر الطريقة التي تنظر بها إلى نفسك؛ اضحك وأضحِك الآخرين، فقد أثبتت السخرية من النفس والفكاهة دورها في العلاج النفسي. إن قدرة الإنسان على السخرية من نفسه تثبت أنه اكتسب مرونةً نفسيةً وقدرةً على استخدام آليات الشفاء الذاتي.
كشف بعض الممثلين الكوميديين صراحةً عن معاناتهم النفسية؛ كالممثل غيوم غاليان الذي قال: "لقد أنقذ اللجوء إلى التحليل النفسي حياتي"، أو بين ستيلر وجيم كاري اللذين كشفا عن أن معاناتهما مع الاضطراب ثنائي القطب شكلت "ملح" الفن الذي قدماه.
من جهة أخرى؛ نجد اليوم أن للفكاهة دوراً أساسياً في العديد من طرق العلاج النفسي، ولا عجب في ذلك، فمقدرة الضحك من النفس تُثبت تمكُّن المرء من اتخاذ مسافة من الأمور وتطوير نظرته تجاهها، فما كان يمثل الأسوأ بالنسبة إليه يصبح أمراً عادياً لا حاجة لتضخيمه. ونذكر هنا أيضاً الممثل الكوميدي الأميركي غروتشو ماركس؛ الذي توصل بحس الفكاهة إلى واحدة من أفضل الصيغ للتعبير عن تدني احترام الذات حينما قال: "لا يمكنني قبول الانتساب إلى نادٍ يقبل في عضويته أشخاصاً مثلي!". فمن خلال حسه الفكاهي "الرشيق" تمكن من تقبل ما يزعجه من نفسه.
هل تُمثل السخرية من النفس أحد المفاتيح الرئيسية في العلاج النفسي؟ يقول جان كريستوف سيزنيك؛ الطبيب النفسي والمؤلف المشارك لكتاب "العلاج بالتقبل والالتزام عبر التهريج" (Pratiquer l'ACT par le clown) الذي يستخدم أحياناً تقنيات التهريج مع مرضاه: "يجب أن ننتبه عندما نتحدث عن السخرية من النفس، فنحن لا نقصد بذلك السخرية من الآخرين، أو الكوميديا الانتقامية التي كثيراً ما تتداولها وسائل الإعلام الفرنسية. بينما لا يؤدي ازدراء النفس إلا إلى الحكم عليها وميل المرء إلى عدم الالتزام تجاه أمور الحياة، فإن إثارة المرح والفكاهة حول الذات تنعش حياته بما يكفي ليتخذ قرارات إيجابية. وعلى الرغم من أنها آلية للشفاء الذاتي، فإن السخرية من النفس لا تعني سلوك إضحاك الآخرين "الوقائي" الذي يستخدمه بعض الناس عبر "تشويه صورتهم الذاتية" مدفوعين برغبتهم في تغاضي من حولهم عن أخطائهم "لأنهم مضحكين"، فالأمر لا ينطوي على إذلال الذات. ولكي تكون السخرية من النفس نهجاً علاجياً بحق، فإنها يجب أن تأخذ مسارات أكثر عمقاً تعبر عن الصدق والخير.
التأثير في الآخرين عبر السخرية من النفس
تتطلب السخرية من الذات أولاً معرفة تامةً بها. إن من يضحك من نفسه يعرف تماماً مدى غضبه أو خوفه أو حتى عجرفته، ومهما كانت عيوبه فهو لا ينكرها بل يرحب بها ويعيها. يشير جان تواتي؛ المعالج بالتنويم المغناطيسي الذي يركز تركيزاً كبيراً على الفكاهة في تفاعله مع مرضاه، إلى أن الأشخاص الذين يعانون من القلق بصورة خاصة هم الأكثر مهارة في تطوير هذا الاستبصار عن أنفسهم: "بسبب ميلهم إلى السيطرة على أنفسهم، فإنه يمكنهم تحديد أفكارهم المقلقة والتعبير عنها، ويعد المُخرج الأميركي وودي آلن نموذجاً على هذه الموهبة العصابية". ومن ناحية أخرى؛ يشير المعالج إلى أن المرضى الذين يعانون من الاكتئاب أو الذُّهان ليس بمقدورهم ممارسة السخرية من النفس.
تمكنت سارة؛ 34 عاماً، وهي ممرضة، من اكتساب قدرة الوعي الذاتي هذه بفضل عامين من التدريب في مدرسة ساموفار للمهرجين. تقول سارة: "في بداية هذه الدورة لم أكن أسعى وراء فائدة علاجية محددة".
وتتابع: "لكن لتعلّم كيفية جعل الناس يضحكون من نقاط ضعفي؛ كان عليّ أن أتعمق في نفسي. واكتشفت خلال ذلك العديد من تفرداتي المكبوتة؛ كبطئي وميلي إلى تشتت الذهن والجانب "الجدي للغاية" لدي".
تعلمتْ سارة على مدار عدة أشهر "إظهار كل ما اعتادت إخفاءه عن الآخرين في الحياة اليومية". كما تعلمت تقدير إمكاناتها لأن معرفة كيفية التأثير في الآخرين من خلال الكشف عن عيوبك، يمكن أن يصبح كنزاً لك.
إنشاء علاقة أصيلة مع الآخرين
تقول سارة: "لطالما عانيت من التشنجات اللا إرادية وخضتُ صراعاً مع هذا الاضطراب طوال فترة مراهقتي. لقد أدركتُ أنني أثرت بصورة خاصة في الآخرين عندما أظهرتُ معاناتي هذه أمامهم، فما كان سبباً لمعاناتي أصبح نعمةً بالنسبة لي. لتحقيق هذا التحول "الخيميائي" تقريباً، وقبول ما رفضناه من أنفسنا، فإن لا شيء أفضل من مشاركة عيوبنا مع الآخرين عبر الضحك منها. يقول جان كريستوف سيزنيك: "إن هذا الاختصار العاطفي كما عرَّفه فرويد، هو أداة رائعة". يتيح لك الضحك من نفسك مع شخص آخر أن تلمس ضعف كل البشر - تماماً كما المهرج الذي يُظهر هشاشته للآخرين دون حواجز، فهو يوقظ مشاعر اللين في داخلهم".
ويمكن تشجيع المرء على السخرية من النفس خلال جلسات العلاج النفسي. ولكن لتحقيق ذلك؛ يجب ألا يتردد المعالج في إظهار قدرته على افتراض تفرده بدوره، ويقول الطبيب النفسي ضاحكاً: "مثال ذلك؛ هذا القميص الأحمر المبهرج الذي أرتديه هذا الصباح، أو شعري الأشعث". إن ما يجعل علاقتنا بالمعالج النفسي جديةً هو الطريقة التي ننظر بها إليه وليس الواقع. أنا أُظهر للمريض أننا أحرار في تبني نظرة أخرى لسير الجلسة العلاجية، والتعديل عليها كما نرغب؛ ما يؤدي إلى الابتعاد عن الجدية ويخلق جواً من الفكاهة. يحفز جان تواتي مرضاه على الانخراط في هذا الجو المرح، ويوضح: "يمكنني أن أبدأ بمزحة ما مثل ذكر موعظة، أو قول مأثور عن ملاحظات المرضى. كما يمكنني أن أعزف على غيتاري أو أغني لهم أو أدعوهم للغناء، وجنباً إلى جنب مع التعاطف الحقيقي؛ تعزز هذه المفاجآت علاقةً أصيلةً بين الطرفين؛ والتي تُعد ميزةً علاجيةً في حد ذاتها. بعد ذلك يغلف الجلسة جوّ مُطَمئن من الفكاهة يُظهر آثارها العلاجية المفيدة.
أطلق العنان لنفسك
ويضيف الطبيب النفسي: "أقترح على المرضى أن يطلقوا أسماء على شخصياتهم الداخلية التي تعبر أعراضهم عنها. فعلى سبيل المثال يمكنني أن أقول للمريض: "يبدو أن كمال المهووس قد عاد اليوم، أو ها هو سامي الحزين، ونضحك على الأمر معاً وتمضي الجلسة إلى الأمام. يجب أن يعرف المعالج أيضاً كيفية التعامل مع فن التحفيز هذا بلياقة ومخيلة مبدعة. يتحدث جان تواتي عن تلك المريضة التي كانت مُثقلةً بالشكوى حول الكثير من الأمور التي تؤرقها، وكيف "استيقظت" من حالة رثاء النفس هذه. يقول المعالج: "بدأت المريضة بسرد سلسلة طويلة من الشكاوى فقالت: "ليس لدي أصدقاء، والكل يبتعد عني، وأشعر أنني مملة للآخرين، ولا أحد يحبني، إلخ". ومبتعداً عن عن أسلوب "حسن الاستماع" التقليدي قاطعها المعالج قائلاً: "في الحقيقة هذا لا يهم. أنا أستمع إليكِ منذ 5 دقائق فقط وأنتِ مزعجة بالفعل". استجابت المريضة بابتسامة علت وجهها؛ إذ فهمت حينها أنها ستكون قادرةً على الخروج من دوامة العلاجات التقليدية لتبدأ أخيراً بالتغيير الفعلي.
إن مشاركة عيوبك مع الآخرين في ورشة عمل أو جلسة علاجية هي سبيلك لتقبّل هذه العيوب. يقول جان كريستوف سيزنيك: "تماماً كما المهرج؛ الذي عندما يضع أنفه الأحمر يكون مستعداً للانتقال إلى بُعد آخر من ذاته، فيعود طفلاً مرةً أخرى، ويصبح شاعر اللحظة الحالية، والكائن الأصيل الراسخ في جسده. إنه يترك كل ما يقيده، ويتخلى عن ذلك الجمود النفسي الذي يُحبطه، فهو يتمتع بالقدرة على السخرية من ذاته مطلقاً العنان لنفسه وصورته الحقيقة، وهو يعلم أنه ليس هنالك ما يخسره لأن هذه هي الطريقة التي نحبه بها". "وبالتالي، فإن السخرية من النفس والقبول العميق للذات الذي يتبعها يؤديان إلى تغيير حقيقي. سيتمكن أولئك الذين يجرؤون على الإفصاح عن حقيقتهم من التخلي عن بعض المعايير التي أعاقت طريقهم في الحياة. يقول الطبيب النفسي: "فكر في تشارلي شابلن ونموذج المهرج الرائع الذي يجسده؛ إنه يُظهر أنه يمكن للمرء أن يستعين بمعاناته ليولد من جديد أكثر تحرراً، ويكون منارةً لجميع أولئك الذين يعرفون أنه في بعض الأحيان لا يوجد شيء أكثر أهمية من جرعة جيدة من الضحك".