"كم منزل في الأرض يعشقه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل"، ضمنت البيت الشعري السابق مرفقاً بصورة للمنزل الذي سكنت به في طفولتي بمدينة الرياض نشرتها على حسابي في منصة التواصل الاجتماعي فيسبوك، والحقيقة أن جذور هذا المنشور تمتد في أعماق تربتي النفسية؛ فدائماً ما أتذكر الأيام التي قضيتها هناك ويأخذني الحنين إليها بين حين وآخر معتقداً أنها أفضل أيام حياتي، وعلى الرغم من هذه النظرة التي تبدو غير متزنة فإن هناك دراسة علمية نُشرت مؤخراً أثبتت وجود فائدة للحنين إلى الماضي تتمثل في تعزيز الصحة النفسية، فكيف نجح الباحثون في إيجاد الصلة بينهما؟ هذا ما سنعرفه بالتفصيل في المقال.
محتويات المقال
ما الذي اكتشفته الدراسة؟
نشرت مجلة الإدراك والعاطفة (the journal Cognition and Emotion) في مارس/آذار 2025 دراسة علمية استهدفت بحث تأثير الحنين إلى الماضي في تعزيز الصحة النفسية، وأكد الباحثون في النتائج أن الأشخاص الذين يوجد لديهم حنين إلى الماضي يحظون بأصدقاء مقربين أكثر بالمقارنة مع غيرهم، وهذا يسهم في تعزيز حالتهم النفسية ورفاهيتهم.
بالإضافة إلى ما سبق فهم يتميزون بأن حنينهم إلى الماضي يجعلهم أكثر وعياً بقيمة علاقاتهم المهمة وتأثيرها في حياتهم، ومن ثم العمل على تعميقها، وهذا يعني أن علاقاتهم الاجتماعية أكثر ديمومة على مدار الزمن، ومن ناحية أخرى فهم يتطلعون باستمرار إلى صناعة ذكريات سعيدة يتذكرونها فيما بعد.
اقرأ أيضاً: كيف تتوقف عن خسارة نفسك في علاقات عاطفية من الماضي؟
لماذا نحنّ إلى الماضي؟
ربما تجد نفسك تنساب أحياناً دون وعي في رحلة جميلة نحو الحنين إلى الماضي، لكن دعني أخبرك أنك إلى حد كبير مبرمَج على ذلك، إذ يوضح أستاذ علم النفس في الأكاديمية الصينية للعلوم (Chinese Academy of Sciences)، زيان يانع (Ziyan Yang)، أن الشعور بالحنين إلى الماضي يمدك بالدفء والود والانتماء، ويعد أحد أنواع السفر الذهني عبر الزمن، ما يجعله تجربة مريحة، بالأخص خلال الأوقات الصعبة.
وهذا يعني أن حنيننا إلى الماضي أحد الوسائل للتأقلم مع بعض الجوانب المزعجة في حياتنا مثل العزلة أو الوحدة أو عدم اليقين، فمن خلاله نشعر بالسيطرة جزئياً على ظروفنا ونستمد الأمل بأن الأمور لن تسوء أكثر، بالإضافة إلى أنه يذكرنا بامتلاكنا علاقات رائعة مع الآخرين فنطمئن لوجود مصدر دعم في حياتنا.
ليس هذا فحسب، إذ يمتد تأثير الحنين للماضي إلى أعماق أدمغتنا، فهو يُخفف إدراكنا للألم ويزيد قدرتنا على رصد التهديدات من حولنا، علاوة على أنه ينشط مناطق مهمة في دماغنا مسؤولة عن عمل الذاكرة وتنظيم المشاعر ومعالجة المكافآت.
متى يصبح الحنين إلى الماضي مؤذياً؟
على الرغم من الفوائد السابقة للحنين إلى الماضي، يبدو له جانب مظلم يظهر عندما نتشبث بماضينا ويصيبنا الهوس بإحيائه مقاومين بذلك التكيف مع الحاضر أو التطلع إلى المستقبل، كما قد يصحبه نظرة مختلة لا ترى فيه إلا كل جميل، ما يجعلنا نحاول صبغ واقعنا بالمثالية ظناً منا أننا بذلك سنصنع حياة جميلة مثل تلك التي عشناها في السابق.
أيضاً قد يعكر تعلقنا بالماضي صفو حياتنا نتيجة الوقوع في المقارنة بين حاضرنا وبينه، فنشعر بعدم الرضا عن حياتنا الحالية ونقول في أسى: "فيا ليت الشباب يعود يوماً!"، وهو في الوقت نفسه قد يعد ملاذاً مغرياً للهروب من مشكلاتنا والتحديات التي علينا مواجهتها وإيجاد حلول حقيقية لها، إذ يؤكد استشاري الصحة النفسية والعلاج النفسي عبد الله الزهراني أنه من خلال الحنين إلى الماضي، يمكننا الهروب إلى وقت كانت الحياة فيه أكثر أماناً، أو وقت التجارب أو الأحداث الإيجابية، ويضيف: عندما نشعر بعدم اليقين أو التوتر، فإن التفكير في الماضي بحنين يمكن أن يمنحنا الراحة العاطفية.
اقرأ أيضاً: كيف يصبح الندم على قرارات الماضي وسيلة لاتخاذ قرارات مستقبلية أفضل؟
5 إرشادات لتستثمر حنينك إلى الماضي
حتى تغنم فوائد الحنين إلى الماضي وتتجنب أضراره، هناك العديد من الإرشادات العملية التي عليك اتباعها:
- اكتشف المشاعر التي تشتاق لها في أثناء حنينك إلى الماضي وأي جانب منه تفتقده في حياتك اليوم، وإذا ما كنت تحاول الهروب من واقعك، فهذا سيجعلك أكثر قدرة على الوعي بذاتك، وصنع واقع لا يقل جمالاً عن ماضيك.
- حاول أن تكون نظرتك إلى الماضي واقعية فتراه بعيوبه ومميزاته، وفي الوقت نفسه لا تنفصل عن اللحظة الحاضرة وتستغلها أفضل استغلال عن طريق فعل أشياء تسعدك.
- استخلص دروساً من الماضي تجعلك أكثر قدرة على التعامل مع مشكلات الحاضر وتزيد سلاسته، فهذا سيساعدك على تجنب تكرار أخطائك، وفي الوقت نفسه سيعزز شجاعتك لمواجهة التحديات الصعبة.
- كن واعياً بمقدار الوقت الذي تقضيه في الحنين إلى الماضي حتى لا تصل إلى مرحلة يستنزفك فيها.
- لا تتردد في استشارة المعالج النفسي إذا شعرت بأن حنينك إلى الماضي يعرقل حياتك أو يجعلك تعاني الاكتئاب.
اقرأ أيضاً: مبدأ بوليانا: ما الذي يجعل البعض لا يرى سوى نصف الكأس الممتلئ؟ وهل تُعد هذه مشكلة؟